جعفر عباس : البنوك تدللك ثم تصفعك

سودافاكس ـ ربما‭ ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬كثيرون‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬خدمات‭ ‬تراسل‭ ‬ومهاتفة‭ ‬وتواصل‭ ‬مجانية‭ ‬عبر‭ ‬شبكة‭ ‬الانترنت‭ ‬باستخدام‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬او‭ ‬الهاتف‭ ‬الذكي‭ ‬لأن‭ ‬الجهات‭ ‬التي‭ ‬توفرها‭ ‬تحصل‭ ‬منك‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أعلى‭ ‬قيمة‭ ‬من‭ ‬تعرفة‭ ‬المكالمة‭ ‬الهاتفية‭ ‬او‭ ‬الرسالة‭ ‬النصية،‭ ‬وهي‭ ‬بياناتك‭ ‬الشخصية‭ ‬بكل‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬ومنذ‭ ‬ان‭ ‬بلغ‭ ‬من‭ ‬يتابعونني‭ ‬على‭ ‬صفحتي‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬الانترنت‭ ‬الـ200‭ ‬ألف‭ ‬صرت‭ ‬أتلقى‭ ‬رسائل‭ ‬تقول‭ ‬ما‭ ‬معناه‭: ‬أنت‭ ‬الخير‭ ‬والبركة‭ ‬وتستحق‭ ‬كل‭ ‬الدعم‭ ‬ولهذا‭ ‬سنقوم‭ ‬بتنزيل‭ ‬إعلانات‭ ‬تجارية‭ ‬في‭ ‬صفحتك‭ ‬ونعطيك‭ ‬نظيرها‭ ‬مبالغ‭ ‬كبيرة،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مطلوب‭ ‬منك‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬تعطينا‭ ‬تفاصيل‭ ‬ورموز‭ ‬الدخول‭ ‬الى‭ ‬صفحتك‭.‬

ويبدو‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬مدركا‭ ‬أنني‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الشخصيات،‭ ‬فمنذ‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬بدأت‭ ‬تصلني‭ ‬من‭ ‬البنك‭ ‬رسائل‭ ‬تقطر‭ ‬تهذيبا‭ ‬وتبجيلا‭ ‬لشخصي،‭ ‬تخبرني‭ ‬بأنه‭ ‬تقرر‭ ‬منحي‭ ‬بطاقة‭ ‬ائتمان‭ (‬كريديت‭ ‬كارد‭) ‬ذهبية،‭ ‬وبعدها‭ ‬بفترة‭ ‬رسالة‭ ‬بان‭ ‬البطاقة‭ ‬صارت‭ ‬بلاتينية،‭ ‬وأعيش‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬ترقب‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يزودني‭ ‬البنك‭ ‬ببطاقة‭ ‬من‭ ‬اليورانيوم‭ ‬المخصب،‭ ‬فأصبح‭ ‬عضوا‭ ‬في‭ ‬محور‭ ‬الشر‭ ‬وأتعرض‭ ‬لحصار‭ ‬اقتصادي‭ ‬وتجميد‭ ‬حساباتي‭ ‬المصرفية‭ ‬السرية‭ ‬في‭ ‬بنوك‭ ‬رواندا‭. ‬وكلما‭ ‬رفع‭ ‬البنك‭ ‬رتبة‭ ‬البطاقة‭ ‬الائتمانية‭ ‬في‭ ‬سلم‭ ‬المعادن‭ ‬رفع‭ ‬سقف‭ ‬الائتمان‭ ‬المخصص‭ ‬لي‭: ‬يمكنك‭ ‬استخدام‭ ‬البطاقة‭ ‬لإنفاق‭ ‬أو‭ ‬شراء‭ ‬ما‭ ‬قيمته‭ ‬خمسون‭ ‬ألفا‭ ‬‮«‬لأنك‭ ‬عميل‭ ‬وزبون‭ ‬خاص‭ ‬ومتميز‮»‬‭.. ‬وبعدها‭ ‬ب«شويتين‮»‬‭ ‬رفعنا‭ ‬سقف‭ ‬الائتمان‭ ‬للبطاقة‭ ‬الى‭ ‬100‭ ‬ألف،‭ ‬وبإمكانك‭ ‬استخدام‭ ‬البطاقة‭ ‬لسحب‭ ‬مبالغ‭ ‬تصل‭ ‬الى‭ ‬كذا‭ ‬الف‭ ‬يوميا‭ ‬من‭ ‬أجهزة‭ ‬الصرف‭ ‬الآلي‭.. ‬أف‭ ‬آسفين‭ ‬جدا‭ ‬الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬سقفك‭ ‬الائتماني‭ ‬347‭ ‬ألفا‭!! ‬طبعا‭ ‬لا‭ ‬تنطلي‭ ‬علي‭ ‬تلك‭ ‬الحيل،‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬سقفي‭ ‬الائتماني‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬رصيدي‭ ‬المصرفي‭ ‬والبنك‭ ‬يعرف‭ ‬البئر‭ ‬وغطاه‭ ‬ويعرف‭ ‬حجم‭ ‬الراتب‭ ‬الذي‭ ‬يدخل‭ ‬حسابي‭ ‬شهريا؟‭ ‬لقد‭ ‬علمتني‭ ‬التجربة‭ ‬ان‭ ‬مهمة‭ ‬البنك‭ ‬هي‭ ‬استدراجك‭ ‬لبعزقة‭ ‬نقودك‭ ‬والاستدانة،‭ ‬بالزعم‭ ‬بأنك‭ ‬زبون‭ ‬من‭ ‬نوعية‭ ‬ووزن‭ ‬خاص،‭ ‬ولهذا‭ ‬تم‭ ‬تزويدك‭ ‬ببطاقة‭ ‬الذهب‭ ‬والبلاتينوم‭ ‬والبلوتونيوم‭ (‬وهذا‭ ‬أيضا‭ ‬استعباط‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬البطاقات‭ ‬تلك‭ ‬مصنوعة‭ ‬من‭ ‬البلاستيك‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬تتراكم‭ ‬عليك‭ ‬الديون‭ ‬وتتغير‭ ‬لهجة‭ ‬الرسائل‭ ‬التي‭ ‬تصلك‭ ‬من‭ ‬البنك‭: ‬ادفع،‭ ‬ويا‭ ‬دار‭ ‬ما‭ ‬دخلك‭ ‬شر‭.. ‬ادفع‭ ‬يا‭ ‬قليل‭ ‬الذوق‭ ‬وعديم‭ ‬الإحساس،‭ ‬ونحن‭ ‬نستأهل‭ ‬لأننا‭ ‬نتعامل‭ ‬مع‭ ‬زبون‭ ‬هايف‭ ‬مثلك‭.. ‬ادفع‭ ‬وإلا‭ ‬قُل‭ ‬باي‭ ‬باي‭ ‬لسيارتك‭ ‬وبيتك‭ ‬وساعتك‭ ‬ونظارتك‭.. ‬وبعدها‭ ‬تصلك‭ ‬رسائل‭ ‬من‭ ‬محامي‭ ‬البنك‭ ‬تشبه‭ ‬صياغتها‭ ‬خطب‭ ‬جورج‭ ‬دبليو‭ ‬بوش‭: ‬ظاهرها‭ ‬السعي‭ ‬لمصلحتك‭ ‬وباطنها‭ ‬تهديد‭ ‬ووعيد‭… ‬ولأنك‭ ‬وقتها‭ ‬تكون‭ ‬بلا‭ ‬حيلة،‭ ‬وغارقا‭ ‬في‭ ‬الديون‭ ‬وعاجزا‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬الوفاء‭ ‬بمتطلبات‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قام‭ ‬البنك‭ ‬بتعطيل‭ ‬بطاقاتك‭ ‬الائتمانية،‭ ‬فلا‭ ‬مناص‭ ‬من‭ ‬إحالتك‭ ‬الى‭ ‬المحكمة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬الحجز‭ ‬على‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬راتبك‭ ‬بل‭ ‬والمصادقة‭ ‬على‭ ‬بيع‭ ‬بعض‭ ‬ممتلكاتك‭ ‬في‭ ‬المزاد‭ ‬العلني‭ ‬حيث‭ ‬تباع‭ ‬سيارة‭ ‬قيمتها‭ ‬مائة‭ ‬الف‭ ‬بـ13‭ ‬ألفا‭ ‬وقد‭ ‬يصل‭ ‬الأمر‭ ‬الى‭ ‬عرض‭ ‬سرير‭ ‬الزوجية‭ ‬في‭ ‬المزاد‭ ‬فيشتريه‭ ‬تاجر‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬الحراج‭ ‬بـ150‭ ‬ريالا‭ (‬مثلا‭) ‬بينما‭ ‬أنت‭ ‬اشتريته‭ ‬مستخدما‭ ‬البطاقة‭ ‬بـ‭ ‬15‭ ‬ألف‭ ‬ريال‭ ‬قبل‭ ‬سنة‭.‬

ومن‭ ‬حق‭ ‬البنك‭ ‬ان‭ ‬يسعى‭ ‬بكل‭ ‬السبل‭ ‬الى‭ ‬استرداد‭ ‬نقوده‭ ‬التي‭ ‬سحبتها‭ ‬منه،‭ ‬ولن‭ ‬يجدي‭ ‬عندما‭ ‬يحين‭ ‬وقت‭ ‬ملاحقتك‭ ‬للسداد‭ (‬فتعجز‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭) ‬التعلل‭ ‬بأن‭ ‬البنك‭ ‬قال‭ ‬إنك‭ ‬زبون‭ ‬خاص‭ ‬ومتميز،‭ ‬وأن‭ ‬‮«‬تلك‭ ‬المعاملة‭ ‬الفظة‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تليق‭ ‬بمثل‭ ‬ذلك‭ ‬الزبون‭. ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬الشبان‭ ‬يقعون‭ ‬في‭ ‬شباك‭ ‬البنوك‭ ‬التي‭ ‬تقنعهم‭ ‬بأن‭ ‬التسلح‭ ‬بقطعة‭ ‬مستطيلة‭ ‬من‭ ‬البلاستيك‭ ‬تجعلهم‭ ‬من‭ ‬الأثرياء،‭ ‬فتجد‭ ‬شابا‭ ‬عبيطا‭ ‬يمد‭ ‬البطاقة‭ ‬لدفع‭ ‬قيمة‭ ‬سندويتش‭ ‬فول‭.. ‬وإذا‭ ‬غرق‭ ‬شاب‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬العشرينات‭ ‬او‭ ‬بداية‭ ‬الثلاثينات‭ ‬في‭ ‬الديون‭ ‬فإنه‭ ‬وفي‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال‭ ‬سـ‮«‬يعنِّس‮»‬،‭ ‬وسيظل‭ ‬بقية‭ ‬عمره‭ ‬يأخذ‭ ‬طاقية‭ ‬هذا‭ ‬ليضعها‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬ذاك،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬مثل‭ ‬سوداني‭ ‬عمن‭ ‬يستدين‭ ‬من‭ ‬زيد‭ ‬ليرد‭ ‬دين‭ ‬عبيد‭. ‬والطامة‭ ‬الكبرى‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬الحدوث‭ ‬سلفا،‭.

فمع‭ ‬الهواتف‭ ‬الذكية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬هناك‭ ‬حاجة‭ ‬حتى‭ ‬إلى‭ ‬بطاقات‭ ‬البلاستيك‭ ‬التي‭ ‬تغريك‭ ‬بالسفه‭ ‬في‭ ‬الإنفاق‭: ‬تمد‭ ‬هاتفك‭ ‬للكاشير‭ (‬أمين‭ ‬الخزينة‭) ‬في‭ ‬أي‭ ‬متجر،‭ ‬فيمرره‭ ‬على‭ ‬الماسحة‭ ‬الضوئية‭ (‬سكانر‭)‬،‭ ‬ويتم‭ ‬شفط‭ ‬قيمة‭ ‬المشتريات‭ ‬من‭ ‬حسابك‭ ‬المصرفي‭.. ‬والبنك‭ ‬يقول‭ ‬لك‭: ‬رقبتي‭ ‬سدادة‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬رصيدك‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬الصفر،‭ ‬لأنه‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يسترد‭ ‬فلوسه‭ ‬مضاعفة‭ ‬بالتي‭ ‬هو‭ ‬‮«‬أسوأ‮»‬‭. ‬

 

Exit mobile version