سودافاكس ـ فرحت كثيرا عندما أكمل عيالي الأربعة تعليمهم ودخلوا الحياة العملية بحسبان أنني أديت بذلك واجبي نحوهم وصار من حقي أن أمدّ رجليّ تأسِّيا بالإمام أبي حنيفة، ثم صار لي حفيدان ووجدت نفسي مهتما أو مهموما بأمر نشأتهما، فالسؤال الذي يقض مضجع كل أب وأم وجد وجدة والذي تناولته في مقالاتي مرات عديدة، هو: هل سيكبر عيالي وأحفادي ليكونوا صالحين أم طالحين؟ طبعاً هناك آباء لا تفرق معهم أن ينشأ عيالهم طالحين أو فالحين، وهم النوع الذي نسميه في السودان «غبيان»، وفلان غبيان تعني أنه غير مدرك لما يفعله أو يقوله، وواضح أن الكلمة صيغة مخففة من «غبي»، والوالد الغبيان لا تشغله سوى ملذاته وشؤونه الخاصة، فهو يعتقد أن الأطفال مثل الشجر، توفر لهم فقط الغذاء والماء والهواء فينمون أصحاء متعافين.
ومن فرط هوسي بمسألة تربية وتنشئة عيالي، وما إذا كانت الأساليب التي اتبعها في تربيتهم صحيحة أم خاطئة، فقد بت أراقب علاقات من أعرفهم من الآباء بعيالهم، لتحديد ما إذا كانت أوثق وأقوى من علاقتي بعيالي. ولست ممن يؤمنون بالتربية بالكتالوج، بمعنى أنني لا اتبع نظرية تربوية معينة، نصح بها العالم الفلاني الذي يرى أن ضرب الأطفال يسبب عقدة كذا وكذا، بينما يقول نظيره الآخر أن الضرب ينفعهم والعلم يرفعهم، بل أتبع الطرق التقليدية المتوارثة التي يكون فيها الوالد لا لينا فيُعصر ولا يابسا فيُكسر.
طريقة الكتالوج الوحيدة التي اتبعتها واقتنعت بجدواها، هي ما يسميه الأمريكان groundingأو كيرفيو (الحظر) وتعني حرمان الطفل من أشياء يحبها مثل التلفزيون والانترنت والعاب الفيديو لمدة معينة حسب المخالفة التي ارتكبها، ومن فرط فعالية هذه الطريقة جربتها مرارا على أصغر أولادي، عندما كان على كرسي الدراسة، وليس مرد ذلك أنني سادي، وأحب حرمان ولدي من الأشياء التي يحبها (فلو كنت كذلك لما اشتريت له كوكتيل أجهزة لعب الكترونية في المقام الأول)، بل لأنني لاحظت عندما حرمته لأول مرة من التلفزيون والكمبيوتر لأسبوعين متتاليين، أنه بات يقضي وقت فراغه في القراءة، وصار يتحين الفرص ليتونس معي وبقية أفراد العائلة، بل ويأتيني شاكياً: بابا أنا زهجان… تعال نلعب سوا،.. وهكذا اشتريت ورق اللعب المسمى «كوتشينة» وعلمته بعض العاب الورق والخدع البسيطة!! قد تقول: أعوذ بالله، كيف تشجع ولدك على لعب الورق؟ أنا لم أقل إنني علمته البكاراه أو الكنكان وما شابههما، أو أنني ألاعبه بنظام أن ينال من يكسب اللعبة مقابلا ماديا ولو قنينة بيبسي، بل علّمته فقط ابجديات استخدام ورق الكوتشينة، (علماً بأنني لاعب كنكان ووست وهارت بارع، ولكنني لا أمارسها لأنني ملول ولا أحب أن أجلس حاملاً تلك الوريقات وأعصابي مشدودة على الفاضي).
عندما صرت خبيرا أجنبيا في بريطانيا بعد التحاقي بتلفزيون بي بي سي، ألحقت أكبر عيالي بمدرسة ثانوية في شمال لندن، وانتبهت إلى أن العديد من المسائل الرياضية تفترض أن الطالب يعرف أن الكوتشينة تتألف من 52 ورقة، مقسمة على أربعة الوان وتصاميم، من كل منها 13 ورقة، وأن بكل كوتشينة أربعة من كل عدد وشكل، وكانت معرفة الولد بالأمر كمعرفة أبيه بقانون الجاذبية، (كان الناس يعيشون في أمان الله مرتاحي البال حتى سقطت تفاحة على رأس آيزاك نيوتن – الذي جعلناه اسحق – فخرج علينا بقانون الجاذبية، وتمنيت لو وقعت على رأسه ثمرة جوز هند وسببت له ارتجاجا في الدماغ، ليترك الجاذبية في حالها، فقد كانت موجودة قبل حادثة التفاحة ولكنه جعل منها مادة لعكننة عيال المدارس)، المهم أنني أمضيت عدة إيام في تعليمه أسرار تلك الأوراق، واللعب بها يتطلب مهارات رياضية ذهنية عالية، وصرت أختبر معلوماته عنها، وصار هو يحملها في جيبه في حصص الرياضيات كبرشام.
أو ما يسمى في السودان «رِكِّيب»، (من ركب يركب) وهو الشخص الذي يتولى إعداد طاولة القمار، وخدمة المقامرين نظير بقشيش، ولأن القمار يعلم السفالة فإن الركيب وبمجرد أن يجتمع عنده بعض المال، يشارك في اللعب على أمل أن يسلب ما عند من أعطوه البقاشيش!