أرض الأساطير… السجن لخروف قتل امرأة في جنوب السودان

تحولات كثيرة تعرفها أوساط قبائل دولة جنوب السودان، منها ما هو طبيعي نابع من البيئة المحلية، ومنها ما تطور، لكنه ظل متمسكاً أيضاً بعادات راسخة نتجت عن الظروف والعوامل الاجتماعية والاقتصادية التي مر بها مجتمع دولة الجنوب. ومنها دخول الماشية في مهور الزواج، والاحتفال والتكفير عن الآثام، وحل النزاعات، وكتعويض عن الاعتداء أو القتل.

في هذا الإطار، قضت محكمة عرفية في مقاطعة رومبيك الشرقية بولاية البحيرات بغرامة على مالك خروف اعتدى على امرأة تدعى أضيو شابينق (45 عاماً)، ولقيت حتفها على أثر ذلك. فبعد أن ألقت الشرطة القبض على الخروف، الأسبوع الماضي، أحيلت القضية إلى محكمة عرفية في المقاطعة للنظر، وتمت تسوية الأمر بين صاحب الخروف وأسرة المتوفاة.

تسوية القضية

يعلق الصحافي مايكل كريستوفر، من دولة جنوب السودان، على الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام المحلية، وخصوصاً صحيفة “الوطن” الصادرة باللغة العربية، بأن “الإدارة الأهلية في الجنوب اهتمت بقضية قتل الخروف للمرأة، واهتمت بحل المشكلة، وهي عادة تهتم بقضايا الاقتتال بكل أشكاله، والنزاعات بين القبائل، وسرقة الأبقار، بالكيفية نفسها التي جرى بها الحكم على الخروف”. وأضاف أن “صاحب الخروف تعهد تقديم خمس بقرات تعويضاً عن الدم لأسرة المتوفاة، بحسب اتفاق الطرفين، الذي أيدته المحكمة العرفية، كما أمرت المالك بدفع غرامة بقرة واحدة للمحكمة”.

وأضاف الصحافي أنه “وفقاً للقوانين العرفية في ولاية البحيرات، يتم منح أي حيوان أليف قتل شخصاً كتعويض لأسرة المتوفى”. وذكر أن “الحكم أيده جيري ريموندو، القاضي السابق في محكمة الاستئناف التابعة للسلطة القضائية لدولة الجنوب”. وأوضح أن “الخطوة كانت ضرورية لإجبار مالك الخروف على المثول لتسوية القضية”. وبعد إصدار الحكم تم الإبقاء على الخروف في حجز الشرطة لمدة أسبوعين حتى يتمكن المالك من دفع الغرامات المستحقة.

أسلوب حياة ورأسمال اجتماعي

يُعد امتلاك الماشية وتربيتها رأس المال الأهم بين القبائل، إذ تمثل الماشية في دولة جنوب السودان أهمية كبيرة اقتصادياً واجتماعاً، وتمتلك البلاد أكثر من 30 مليون رأس من الأبقار والأغنام والماعز، ما يجعلها تحتل مرتبة متقدمة في إنتاج الثروة الحيوانية على مستوى القارة الأفريقية، وهو أكثر من ضعفي عدد السكان البالغ 11 مليون نسمة، بحسب تقديرات الأمم المتحدة لعام 2020. ويناضل الجنوبيون من أجل الحفاظ على هذه الثروة على الرغم من الصراعات المتواصلة وظروف الجفاف والنزوح والتهجير، إذ استهدفت هي أيضاً بالإغارة، فضلاً عن تفشي الأمراض، خصوصاً في المناطق المطيرة.

يعتمد أسلوب الحياة في جنوب السودان على رعي قطعان الماشية، خصوصاً الأبقار التي تتنوع فصائلها، ومنها فصيلة أبقار تشتهر بقرونها الضخمة، وتعرف باسم “مواشي الملوك”، وتصل أسعارها إلى نحو 500 دولار للرأس. وتُعد الماشية مصدراً للثروة والجاه، ونادراً ما تذبح، بل يُعتمد عليها في الإهداء لعلية القوم أو إلى شخص عزيز، وكعنصر أساسي في الزواج، إذ تقدم الأبقار عند قبائل مثل الدينكا والنوير والشلك مهراً، ويصل في بعض الأحيان إلى 600 بقرة، بينما يقدم الفرد العادي المقدم على الزواج لأهل العروس ما يتراوح بين 50 و300 بقرة. وهناك قبائل أخرى مثل المنداري يقدم المهر فيها من الأغنام والماعز.

تشير منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) إلى أن “النزوح واسع النطاق لقطعان الماشية تسبب في تكثيف الصراعات القبلية والإغارات على هذه القطعان وتفشي الأمراض على نطاق غير مسبوق، ما يشكل تهديداً للثروة الحيوانية الوطنية وينذر بتمزيق النسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لجنوب السودان”. كما ذكرت المنظمة أن “ما لا يقل عن 80 بالمئة من سكان جنوب السودان يعتمدون على الماشية بشكل أساسي”. وتدور الآن صراعات على الأبقار في ولاية غرب بحر الغزال وأعالي النيل بين القبائل القاطنة في تلك المناطق.

ميراث الأبقار

أما الباحث الأنثروبولوجي مبارك حتة فأوضح، “تحوز الماشية على أهمية كبيرة عند قبائل دولة جنوب السودان، خصوصاً الدينكا والشلك والنوير، ويذهب الشلك بعيداً في تقديس الأبقار”. وذكر أن “هناك كثيراً من العادات المتبعة مثل كسر بيت، وهو دخول الرجل إلى منزل أسرة ما بغرض اختيار شريكة حياته، حيث يقضي معها أياماً، فإذا حملت وأنجبت ولم يتزوجها، يدفع تعويضاً لها بحسب ما يملكه من ماشية”.

“ومن العادات أيضاً أنه إذا توفى الزوج فإن الابن يتزوج زوجة أبيه وينسب ما ينجبه من أطفال إلى والده للمحافظة على ثرواتهم من الأبقار، وإذا توفيت زوجة أحدهم، يقام في الليلة الثالثة احتفال تشرب فيه الخمور وتطفأ الأنوار، ويتخذ كل شخص خليلة، فإذا أنجبت تنسب إلى زوج المتوفاة الذي أقيم عنده الاحتفال، تعويضاً له، ويرث معه ماشيته”.

وأوضح حتة أن “الماشية في جنوب السودان تتميز بأشكال مختلفة عن الشمال، فالماعز والأغنام صغيرة الحجم لعيشها في منطقة السافنا، بينما تمتاز الأبقار بقرون طويلة لاستعمالها في الدفاع عن نفسها ضد الوحوش والكواسر أثناء سيرها في مناطق الغابات والأشجار الكثيفة”. وأضاف، “الأبقار لا تباع، بل يحتفظ بها للتفاخر والتباهي والعز، بينما يأكلون الأغنام والدواجن والأسماك. ويستعمل بول الأبقار لتلوين الشعر للتباهي بأن الشخص يملك أبقاراً كثيرة، أو أنه ابن سلاطين، أو من علية القوم”.

مسارات الماشية

أكد الباحث الأنثروبولوجي أن قبائل “جنوب السودان” تعتمد على التخاطب مع ماشيتها كل بلغته في استدعائها أو تنبيهها أو أمرها بأي شيء، وقد شهدت أحد الرعاة ينادي بقرته للحليب فتأخرت، وعرف أنها تُرضع طفلها، وعندما جاءت متباطئة قام بتوبيخها فطأطأت رأسها خجلاً”. أضاف أنه “إذا نادى الراعي يسبق العجل أمه لينبئ الراعي بأن أمه قادمة بالنظر إلى بطء حركتها”.

ومن مشاهداته قال حتة، “للماشية عموماً والأبقار خصوصاً طريقة مشي معينة عندما تكون ضمن القطيع، إذ تتحرك بطريقة أشبه بالعسكرية، وعندما تكون في رحلتها من الجنوب إلى الشمال تكون هاربة من نوع من الذباب ينتشر في المناطق المطيرة اسمه “أم بنغ”، ولديه إبر حادة يغرسها في جسد الأبقار، وتسلك الأبقار الهاربة طريقاً اسمه (الدوداب)، وتستريح في أماكن تسمى (المخارف) وهي منطقة غنية بالحشائش وغير مملوكة لأحد”.

وتابع، “لأن الإنسان يشابه الحيوان وهو ابن بيئته نفسها، فإننا نجد أن المناطق التي تربى فيها الأغنام يمتاز رُعاتها بالحكمة والصبر ويستخدمون عصياً صغيرة، ويكون الراعي في مقدمة القطيع، أما في حال الأبقار فنجد أن الراعي يكون سريع الغضب ويستجيب بسرعة للاستفزاز وصعب المراس، ويستعمل عصا غليظة ولا يتوانى عن الضرب بها عند الغضب، ولكل قطيع راعيان من الأمام والخلف، وعندما ينتهي الموسم يذهب لممارسة المصارعة في جبال النوبة”.

إندبندنت

Exit mobile version