“أسوأ يوم في تاريخ الأرض”.. ما الذي حدث قبل 66 مليون سنة وسيتكرر قريبا؟

يشبه كوكبنا شبكة ضخمة مترامية الأطراف من خيط حريري رفيع جدا وحساس جدا، عند نقاط تقاطع تلك الشبكة توجد الكائنات الحية بما في ذلك الإنسان، لكن ماذا يحدث إن اهتزت إحدى نقاط تلك الشبكة بعنف أو انقطعت؟ بالطبع سيؤثر هذا في الشبكة كلها، وهو ما يحدث بالفعل. للوهلة الأولى، تبدو هذه التأثيرات بسيطة جدا لكنها تتراكم لتصنع تغيرات كبيرة في عالمنا، فنشهد موجات حارة هائلة، وفيضانات وأعاصير لم تحدث من قبل، لكن الأخطر من ذلك كله هو أن هناك بعض الإشارات البحثية إلى أن انقراضا لأشكال الحياة يحدث حاليا، ويُشبِّهه الباحثون بما حدث للأرض قبل 66 مليون سنة وكان أسوأ يوم في تاريخها، فهل نحن مقبلون حقا على كارثة؟

مادة الترجمة

شهد كوكب الأرض أسوأ يوم في تاريخه قبل 66 مليون عام بالضبط. بدأت القصة عندما اصطدم كويكب بحجم مانهاتن بشبه جزيرة يوكاتان المكسيكية، مخلِّفا وراءه حفرة بعمق 30 كيلومترا. كانت الحرارة المنبعثة من هذا الاصطدام شديدة بحيث تبخرت الصخور، وقذفها الارتطام بعيدا إلى أن وصلت إلى القمر.

اهتز الكوكب بعنف إثر زلزال بلغت قوته 12 درجة، ما تسبَّب في اندفاع موجات تسونامي عبر خليج المكسيك، ثم تكثَّف بعض الركام المقذوف إلى الأعلى ليسقط عائدا إلى الأرض من جديد على هيئة كتل حارقة من الزجاج المنصهر، ما أدى إلى إضرام الحرائق في الغابات وتحويلها إلى عواصف نارية، في حين ظل بعض الركام المتبقي عالقا في الفضاء، ليحجب بدوره أشعة الشمس عن كوكب الأرض، لتبدأ مرحلة من أسوأ مراحل تاريخ الأرض وهي تبريد سطح الكوكب.

وبحلول موعد إسدال الستار على هذا الفصل من القصة، كانت نحو 75% من الكائنات الحية الموجودة على سطح الكوكب قد انقرضت، بما في ذلك جميع الديناصورات غير الطائرة، أُطلِق فيما بعد على هذا الحدث الكارثي الذي طوى صفحة العصر الطباشيري اسم “انقراض العصر الطباشيري الثلاثي” أو “K-T extinction”.

عندما اقتُرحت الفرضية التي تشرح “تأثير الانقراض الجماعي في نهاية العصر الطباشيري على كوكب الأرض” لأول مرة عام 1980، اكتسب يوم انقراض الديناصورات أهمية أسطورية عظيمة، ومع ذلك ما زالت هذه النظرية تنطوي على بعض الغموض. فمثلا، أحد أهم الأسئلة التي قد تراودنا الآن: لماذا أنهى هذا الكويكب بالتحديد عهد الديناصورات الذي استمر نحو 180 مليون سنة، رغم أنه لم يسبق وأن تسبَّب أي كويكب ارتطم بالأرض قبل ذلك في حدوث أي انقراض جماعي؟!

السر وراء الانقراض
للإجابة عن هذا السؤال، قدَّمت ورقة بحثية جديدة نُشرت في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 في دورية “بروسيدنجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينسز” (Proceedings of the National Academy of Sciences) تفسيرا يوضح أن أثر هذا الاصطدام أدى إلى تغيير المحتوى الكيميائي للمحيطات على كوكب الأرض، حيث زاد ذلك من حامضية مياه البحار، ما جعلها بيئة غير ملائمة تماما لأهم عنصر من عناصر سلسلة الغذاء البحرية وهي العوالق الصغيرة (البلانكتونات). وبجانب هذه الكارثة، وقع الكوكب أيضا أسير سماء تتلفعها ظُلمة حالكة، وطقس يعبق ببرودة قاتلة. وأمام هذه المأساة، لم يكن بوسع معظم الكائنات الحية أن تصمد في وجه هذا الاضطراب البيئي العنيف.

قد تكون الإجابة التي قدَّمتها هذه الورقة البحثية مُرضية نوعا ما، لكنها لا تخلو من نذير شؤم، لأن ظاهرة تحمض المحيطات التي تُعَدُّ السبب الرئيسي والسمة الأشهر للانقراض الجماعي السابق للأرض تتكرر مرة أخرى اليوم. لذا يبقى السؤال الأهم هنا: كيف يتسبَّب ارتطام كويكب بالأرض في حدوث انقراض؟

تقول “بينسيلي هال”، مؤلفة الدراسة وأستاذة الجيولوجيا بجامعة ييل الأميركية: “يبدو أن الكويكب اختار الموقع الصحيح للارتطام، كانت شبه جزيرة يوكاتان موقعا ممتازا بالنسبة إليه، لأن شبه الجزيرة في الأساس عبارة عن تراكمات من شعاب مرجانية قديمة مدفونة مع كائنات بحرية ميتة يبلغ سُمكها الآن أكثر من ميل. وفي اللحظة التي اصطدم بها الكويكب بشبه الجزيرة، تحوَّلت أطنان لا حصر لها من تلك المادة العضوية القديمة -الغنية بالنيتروجين والكبريت- على الفور إلى غبار تبعثر مندفعا إلى الغلاف الجوي”.

سرعان ما عاود هذا الغبار أدراجه إلى الأسفل مرة أخرى على هيئة أكسيد النيتريك وحمض الكبريتيك، وعن هذا تقول هال: “كانت السماء تُمطر بالحمض والكبريت”، فضلا عن الهواء الذي يعبق برائحة الدخان النفاذ وأعواد الثقاب المحترقة. تعاظمت المأساة عندما تراكم الحمض في المحيطات، ما أدى إلى تآكل أصداف العوالق الصغيرة التي تُعَدُّ أساس سلسلة الغذاء البحرية.

وفي غضون بضعة قرون من تأثير كل هذه الأشياء، حظي كوكب الأرض بألوان عديدة من الكوارث، أهمها زيادة حموضة المحيطات إلى ما لا يقل عن “0.3 pH”، وهي نسبة لا يُستهان بها. في السياق ذاته تقول هال: “لعل هذا الارتفاع في تحمُّض المحيطات لم يستمر إلا لألف عام أو أقل، لكنها كانت مدة كافية بالطبع للقضاء على أنظمة بيئية بأكملها”.

أدَّى تحمض المحيطات إلى تفاقم التغيرات البيئية الكاسحة الأخرى التي أحدثها أثر اصطدام الكويكب، مثل الظلام الذي غرق فيه الكوكب لسنوات جرّاء الرماد المنبعث من حرائق الغابات العالمية الذي حجب عن الكوكب أشعة الشمس.

تحمض المحيطات.. القشة التي قصمت ظهر البعير

الانقراض الثالث الذي يُعَدُّ أسوأ انقراض في تاريخ الكوكب هو “الانقراض الجماعي في نهاية العصر البرمي” الذي قضى على ما يقرب من 85% من جميع الأنواع، وحلَّت بعده لعنة العقم على المحيطات كافة تقريبا.
أظهرت الاكتشافات الجديدة أن السمة الأبرز التي صاحبت أسوأ ثلاثة انقراضات جماعية شهدها كوكب الأرض كانت هي “تحمض المحيطات”. شملت قائمة هذه الانقراضات: انقراض العصر الطباشيري الثلاثي “K-T”، والانقراض الجماعي في نهاية العصر الترياسي، عندما قضت البراكين في نيوجيرسي على 75% من جميع الكائنات الحية على الكوكب.

أما الانقراض الثالث الذي يُعَدُّ أسوأ انقراض في تاريخ الكوكب هو “الانقراض الجماعي في نهاية العصر البرمي المروّع” الذي قضى على ما يقرب من 85% من جميع الأنواع، وحلَّت بعده لعنة العقم على المحيطات كافة تقريبا. ونتيجة لهذه المأساة التي صبغت الكوكب بأكمله، أطلق العلماء على هذا الحدث اسم “الموت العظيم”.

إن النمط الذي تبنَّته الانقراضات السابقة يبعث على القلق، لأن السيناريو ذاته يتكرر اليوم تدريجيا، وأقرب دليل على ذلك هو انحلال ثاني أكسيد الكربون -مُلوِّث الهواء الأساسي والمُسبِّب الرئيسي في الاحتباس الحراري- وذوبانه في المحيطات، ما نتج عنه زيادة في حموضة مياه البحار.

منذ أواخر الثمانينيات، بدأت حمضية المحيطات في الارتفاع بمقدار “0.02 pH” كل عقد وفقا لتقرير صدر في شهر سبتمبر/أيلول عام 2019 من اللجنة الحكومية الدولية المهتمة بشؤون تغير المناخ، أوضح التقرير أيضا أن أكثر من خُمس التلوث الكربوني الحديث قد انحل وذاب بالفعل في المحيطات.

لم تصل درجة التحمض في عصرنا الحالي إلى ما وصلت إليه أثناء انقراض العصر الطباشيري الثلاثي، لكنها كما تقول هال: “تتحرك نحو هذا الاتجاه”. كما أن العامل المشترك بين ظروف عالمنا الحاضر وفترة الانقراض هذه هي “احتمالية تداخل العديد من الكوارث البيئية الأخرى مع ظاهرة تحمض المحيطات ليتمخض عن ذلك كله اضطراب كارثي. لذا يجب أن نُفكِّر في ظاهرة تحمض المحيطات باعتبارها القشة التي قصمت ظهر البعير”.

تستكمل هال حديثها قائلة: “وكأن الظُّلمة الحالكة التي انغمس فيها الكوكب أثناء هذا الانقراض، بجانب شبح البرودة الذي أخذ يستفحل بلا هوادة، لم يكونا كافيين ليُثقِلا كاهل الكوكب، فجاء تحمض المحيطات ليُضاف إلى أعبائه، ويتحوَّل إلى القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير، ويطوي صفحة هذا العصر”.

مستقبل الأرض

في السياق ذاته، يرى كريس لوري، المهتم بدراسة المحيطات في الأزمنة الماضية بجامعة تكساس في أوستن، أن هذه الورقة البحثية تُمثِّل “خطوة كبيرة” في فهمنا للانقراض بقوله: “صحيح أننا عرفنا منذ فترة أن هناك قدرا من تحمض المحيطات نتج عن ارتطام الكويكب بجزيرة تشيكسولوب المكسيكية حيث عُثر على الدليل من فوهة تشيكسولوب الضخمة التي خلَّفها ارتطامه بها، لكن هذه هي المرة الأولى التي يتوصل فيها العلماء إلى المقدار الفعلي لتحمض المحيطات”. يقول لوري إن الافتراضات التي توصَّل إليها علماء الحفريات لتوضيح كيف يمكن أن يتسبَّب اصطدام كويكب في انقراض العصر الطباشيري الثلاثي لا تعدو كونها أدلة أولية. فعلى الرغم من أن الكويكب ضرب المكسيك وقتها، فإن الدليل الحاسم لهذه الدراسة ظهر من كهف في هولندا يحتفظ بحفريات من المحيطات منذ العقود أو القرون التي تلت الاصطدام مباشرة.

لتحليل البصمات الكيميائية لهذه الحفريات، جمع مايكل هينيهان، العالِم في المركز الألماني لبحوث علوم الأرض والباحث في مختبر هال أيضا، أكثر من 7000 حفرية من العوالق الصغيرة (البلانكتون) الموجودة في الكهف -التي لا تتجاوز حجم كل واحدة منها نصف حبة الرمل- ثم سحقها بعد ذلك لتحليل بصماتها الكيميائية. عن هذا تقول هال: “لم يكن الحصول على تلك القياسات بالأمر اليسير، إذ تطلَّب الأمر في سبيل الحصول عليها جهودا جبارة، ونعتقد أن ثمة مكانا واحدا بالعالم يحفظ في جعبته هذه الحفريات”.

قبل عامين، كشفت دراسة أخرى عن أول دليل جيولوجي يدعم فرضية البرودة العالمية التي فرضت نفسها على الكوكب لسنوات عديدة. والجدير بالذكر أن نتائج هذه الدراسة لا تدعم فكرة أن الآثار البيئية الناجمة عن الانفجارات البركانية الضخمة في الهند بالمنطقة المعروفة باسم “مصاطب ديكان” (Deccan Traps) قد يكون لها دور في زيادة تحمض المحيطات والانقراض الجماعي، غير أن هذه الفرضية يدعمها عدد قليل من العلماء من بينهم جيرتا كيلر، عالمة الجيولوجيا في جامعة برينستون، التي ترى أن النشاط البركاني في منطقة ديكان الهندية كان السبب الرئيسي وراء انقراض هذه الكائنات.

في نهاية المطاف، يقول لوري: “إن هذه الدراسة تُظهِر بصورة قاطعة أن تلك الثورات البركانية لم يكن لها أي تأثير على كيمياء المحيطات”. في حين انتقدت جيرتا كيلر هذه الورقة البحثية بقولها: “إن هذه الدراسة لا تتحرى الدقة بشأن تاريخ ارتطام هذا الكويكب بالأرض، فتاريخ ارتطامه الحقيقي حدث منذ أكثر من 100 ألف عام، أي قبل بداية الانقراض”.

في النهاية، يختلف العلماء بين مؤيد لهذه الفرضية ومعارض لها، وكلٌّ منهم مُتشبِّث بحججه، لكنها تبقى فرضية جديرة بالتأمل، كما أنها مُرعبة إلى أقصى حد.

الجزيرة

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.