لماذا انتشر “السلوك الريفي” في الخرطوم؟

تتمثل أحد ملامح التفاعلات، التي شهدتها العاصمة السودانية الخرطوم خلال الأعوام الماضية، في كثافة انتقال السكان من الريف إليها، فتحولت إلى تجمعات سكانية مكتظة أفقدتها خصائصها الحضرية المميزة لها، وفق ما خططه الاستعمار البريطاني وتركته المتمثلة في العمران والطرق والجسور والسكك الحديدية، فضلاً عن المساحات العامة وفضاءاتها الواسعة التي تمثل رئة المدينة تمتص ضجيجها وصخبها، وتمد مواطنيها بمتنفسات طبيعية وحدائق كبرى ومتنزهات وملاعب رياضية، بل صارت مدينة مشوهة إدارياً واقتصادياً واجتماعياً وبيئياً. وتحت جسور الخرطوم، النيل الأزرق، عند النفق، وجسر أم درمان والنيل الأبيض وغيرها، ينتشر المشردون يفترشون بقايا أوراق الصحف ويلتحفون بأغطية مهلهلة، يقاومون ظروفهم للتمسك بحياة عسيرة.

ترييف حضري

بدأت عملية ترييف الخرطوم بهجرة سكان الريف والبوادي إليها، ما أنتج ترهلاً وتضخماً سكانياً، مع انتشار العشوائيات والأنشطة الاقتصادية غير المنتظمة. وأسهمت عوامل عدة في تفاقم الظاهرة، منها تهميش الأقاليم، ومركزية الدولة، وتوافر الخدمات في العاصمة والمدن الكبرى فقط، إضافة إلى الحروب والنزاعات المسلحة والفقر والجفاف وغيرها. ولم تكن الخرطوم مهيأة يوماً لاستيعاب هذا العدد من القادمين للإقامة فيها، لمحدودية المناطق السكنية والأنشطة الاقتصادية والخدمات، التي تقدمها الدولة، ما مثل عبئاً إضافياً.

انتهجت النظم الحاكمة في العقود الأربعة السابقة سياسة تهجير المواطنين من أريافهم وقراهم وبواديهم لدعمها، وظهر ذلك جلياً في عهد رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي للتصويت له في انتخابات 1986، كما سار النظام السابق على الطريق ذاته، بتجنيد الريفيين بعد توطينهم في العاصمة لحماية أمنه.

طرق ابن خلدون هذه الظاهرة قديماً، حين قال في شأن التمدن “ولهذا نجد أن التمدن غاية البدوي يجري إليها، وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها، ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وفوائده، عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى ما بالمدينة، وهذا شأن القبائل المتبدية كلها، بينما الحضري لا يتشوق إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها، أو لتقصير من أحوال أهل مدينته”.

وبهذا يمكن أن نلحظ أنه في حالة الخرطوم، بعد انتقال الريفيين إليها، بدلاً من انصهارهم ضمن عملية التحضر والتمدن، حصل العكس، إذ إن أعدادهم الكبيرة استعصت على عملية “التكيف الاجتماعي”، وأصبحوا بالتالي مؤثرين فطغى السلوك الريفي على هذا النوع من الانتقال والتغير الاجتماعي.

الباحثة الاجتماعية، بهجة إسماعيل قالت، إن “التشابك الاجتماعي والاقتصادي والعمراني في العاصمة الخرطوم مع مجموعة من التفاعلات البشرية لسكان العاصمة الأصليين والنازحين، أنتج سلوكيات متناقضة جرفت السلوك المجتمعي المتعلق بالشكل الاجتماعي القديم، إلى سلوك آخر يصعب تفسيره وتحليله”. وأشارت إلى أن “الأوضاع الاقتصادية السيئة والحروب ثم تفشي وباء كورونا، خلقت فئة أخرى من المشردين كبار السن والنساء، إضافة إلى الأطفال”.

تنمية غير متوازنة

يذكر أن السودان أطلق في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، أول تقرير من نوعه عن حالة البيئة والتوقعات البيئية للمساعدة في توجيه عملية السلام والتنمية المستدامة، في ظل الحكومة الانتقالية، متزامناً مع التوقيع على اتفاقية جوبا للسلام في 3 أكتوبر من العام نفسه. كما انطلقت يوم 19 يونيو (حزيران) 2022 ورشة بعنوان “رحلة تعليم المواطنة البيئية” شملت المواضيع ذات الصلة بالمواطنة، مثل الهوية والثقافة، والمفاهيم الضرورية المرتبطة بالمواطنة والتعايش، مثل التفاوض والحوار لنشرها في المجتمع.

أوضح الخبير البيئي، بشري حامد الجبلابي، أن “السودان يمر بمرحلة التنمية غير المتوازنة التي أدت إلى سوء وقلة الخدمات وتمركزها في المدن الكبيرة، خصوصاً ولاية الخرطوم، وأدت إلى أن يكون الريف طارداً، والخرطوم جاذبة”.

وأرجع الجبلابي تدهور هذه الهجرة غير المسبوقة نحو العاصمة الخرطوم إلى تدهور الحياة الريفية، حتى بلغ سكان العاصمة نحو 10 ملايين نسمة في رقعة جغرافية محددة، ويعيشون على أنشطة هامشية. وأدى هذا الاكتظاظ إلى لجوء المواطنين إلى السكن في مناطق الهشاشة ومجاري السيول والوديان، علاوة على السكن العشوائي غير المخطط ما نتج عنه مشكلات بيئية وصحية وأمنية”.

وأوضح الخبير البيئي، أن “الهجرة في الثمانينيات كانت بسبب المجاعة والجفاف والتصحر، ثم نتيجة للصراع السياسي في ظل عهد الديمقراطية الثالثة، لكن كان النزوح بمعدلات قليلة، وكانت المدينة تتمكن من التأثير في سلوك القادمين الجدد لأنهم أقلية، لكن بعد عام 1988 والتدهور الاقتصادي، حدث نزوح كثيف بصورة غير مسبوقة، وكان عدد القادمين من مناطق ريفية وذات سلوك ريفي أكبر من سكان المدينة، بالتالي لم يكن هناك تأثير، بل سادت ثقافة البادية في بيئة حضرية وانعكس على تعامل المواطن مع البيئة وداخل المدينة التي تتطلب نوعاً معيناً من السلوك”.

وأضاف “أصبح هؤلاء يشكلون مواطني العاصمة بعد تمركزهم في وسط الخرطوم نزوحاً من أطرافها، أما مواطنوها الأصليون ففضلوا الهجرة إلى خارج السودان، بالتالي تم إحلالهم بالنازحين الجدد، وعليه تريفت العاصمة، وطغى سلوك البادية القائم على السكن العشوائي، وانتشرت الجريمة والأمراض المنقولة وساد الإخلال بالأمن”.

IMG-20220627-WA0060.jpg
بدأت عملية ترييف الخرطوم بهجرة سكان الريف والبوادي إليها (اندبندنت عربية- حسن حامد)​​​​​​

تغيير التركيبة السكانية

وقال الجبلابي، إن “النزوح إلى العاصمة من الأرياف يتم بمعدل 100 ألف إلى 200 ألف مواطن سنوياً، فيما رأى تسارع وتيرة تضخم الخرطوم بما لا يمكن معه التحكم فيها بيئياً، فهي تنتج أطناناً من النفايات، إضافة إلى السلوك السالب بعدم احترام البيئة”.

ونوه إلى أنه “تم التعدي على الغابات والمراعي، واختفت من ريف ولاية الخرطوم الأراضي الزراعية بحاجة مواطني الريف إلى سكن، الذين تركوا الزراعة والرعي في مناطقهم وتحولوا إلى العمل في التجارة الهامشية وتجارة الأراضي الطرفية التي يحوزونها بوضع اليد، أو التي وزعتها عليهم الحكومات السابقة بعد تهجيرهم إلى العاصمة. وبعد نفاد هذه الأراضي المحدودة يصبحون عاطلين عن العمل ويدخلون في دائرة الفقر. وبهذا فإن النزوح يولد مواطناً مستقراً نازحاً، يعاني الفقر والفاقة بمدلولاتها الاجتماعية والاقتصادية ومشكلاتها الأمنية، كما يعاني تهديد كوارث السيول والفيضانات المصاحبة لفصل الخريف لسكنه في الأراضي الزراعية والمناطق المنخفضة”.

وذكر الجبلابي أن “الدولة في ظل النظام السابق في التسعينيات، سعت إلى تغيير التركيبة السكانية في ولاية الخرطوم، التي كانت ضد النظام آنذاك، فقامت باستجلاب سكان الريف، ووزعت عليهم الأراضي. وأسهم في تغيير التركيبة السكانية أيضاً لجوء أعداد كبيرة من مواطني دول غرب أفريقيا، ومنحهم الجنسية السودانية، وتمركزهم في الخرطوم”.

وأرجع الجبلابي ضعف المتابعة بعد قيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 إلى “السيولة الأمنية، كما لم تستطع الحكومة السيطرة على المشكلة البيئية الناتجة من إزالة القطاع الغابي والرعوي وانتشار الرعي الجائر، وضبط التعدين الأهلي الذي يسهم في تلوث التربة ويقلص الأراضي الصالحة للزراعة التي تقدر بنحو 200 مليون فدان، ويقضي على الأراضي المسطحة بطبيعتها، كما يخلق ظروفاً صحية وبيئية خطرة على حياة الناشطين في المجال”.

ويمكن الإشارة إلى أن عملية الإنجاب تدخل ضمن التغير الديموغرافي، إذ إن السلوك الإنجابي للمرأة الريفية تغلب عليه الكثرة، كما يغلب على المجتمعات الريفية النازحة النمط الممتد المكون من أكثر من جيلين تحتوي الأسرة على الأجداد والآباء والأبناء، ما يحدث تبايناً في حجم السكان وتصنيفهم حسب خلفياتهم.

ريف مستنسخ

من جهته، أفاد اختصاصي الأمراض النفسية وعلم الاجتماع، الشفيع عبدالله، بأن “هجرة أو نزوح المواطنين من مكان إلى آخر يعد أمراً طبيعياً، لظروف اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، ولكن الوضع الحاصل الآن وهو النزوح من الأرياف إلى المدن أو من المدن إلى المدن الكبرى، خصوصاً إلى العاصمة الخرطوم، فإن سببه الأساسي هو الاستراتيجيات السياسية أو الوضع السياسي، وعدم التخطيط والاتزان في توزيع الخدمات والاستحقاقات المجتمعية، ما أدى إلى سلوك مجتمعي عام أثر بدوره في الوضع الاقتصادي، والسياسة الاقتصادية لا تنفك عن الوضع الاجتماعي. ويمكن النظر إلى ما يفرزه الوضع الاقتصادي وتأثيره على الوضع الأمني والأمن المجتمعي”.

اقرأ المزيد

“نيل الخرطوم”… مسرح انتحار بـ”الصوت والصورة”

الخرطوم تدفع “فاتورة” التوسع العشوائي

“السحائي” يطرق أبواب الخرطوم والسلطات السودانية “تتأهب”
وأضاف “النزوح الكبير باتجاه العاصمة الخرطوم جاء بأفكاره ونمطه الأخلاقي والاجتماعي المغاير، فأنتج تغييراً في أسلوب الحياة في المدينة التي أصبحت تعج بصخب سكاني مهول لهؤلاء النازحين الذي انتقلوا بعاداتهم وأعرافهم الاجتماعية”. وأوضح أن “هذه المظاهر تتبدى بصورة واضحة في الأسواق وأسماء المحال التجارية العشوائية التي تكون بأسماء المناطق نفسها التي نزحوا منها، كما تظهر في لغة التخاطب اليومي، وعرض منتجات من مناطقهم، ويمكن أن يؤثر النازحون في المجتمع ويتأثروا به وفقاً للتغيير في حركتهم الاجتماعية. وفي النهاية تفرز مواطناً خليط السلوك”.

وتابع “حدث انفجار سكاني قبل سنوات بسبب سوء توزيع الخدمات، والآن ربما يتحول الأمر إلى كارثة مع انعدام الخدمات. فأصبحت العاصمة أسوأ من الأقاليم. ومن مظاهر نقل الريف إلى العاصمة، ففي أطراف المدن الكبيرة مثل أم درمان لا يحس الإنسان أنه في أم درمان المدينة، وإنما في ريف مستنسخ من ريف آخر”.

وأوضح “البعض يعتبر أن التمدن حالة ذهنية تظهر في سلوك المواطنين نسبة لعقدة التمدن، ولكن الخرطوم لم تعد بنفس الخصائص التي تؤهلها لتكون عاصمة، فهي تحتاج إلى صياغة استراتيجية سياسية للتخطيط للتنمية الزراعية والاقتصادية بشكل عام، وإزالة الاحتقان البشري الذي أنتج سلوكاً مجتمعياً سيئاً، يرتبط فيه التوازن الاقتصادي بالوضع السياسي والأوضاع الاجتماعية وتغيير النمط الحضري الموجود”.

الحد من الظاهرة

ينتظر أن تضع الدولة خططاً تنموية واقتصادية واجتماعية وسياسية سريعة وواضحة، للحد من ظاهرة ترييف العاصمة، وحسب ما أوصى الجبلابي بأن ذلك يتم وفق “تطوير الأقاليم والمدن البعيدة، وبناء مدن ومراكز جديدة جاذبة خارج الخرطوم، وتوفير العلاج وسبل كسب العيش، والخدمات الممتازة، لأنه لا أحد يستطيع إجبار المواطنين على ترك هذه المناطق العشوائية سوى ترغيبهم بالانتقال إلى مناطق أفضل حتى يتم هدم المناطق العشوائية وإعادتها كحزام أخضر للعاصمة”.

وتابع “لا بد من اللجوء إلى الاقتصاد الأخضر والإنتاج، وإذا تمت إعادة تخطيط ولاية الخرطوم بخطط ذات أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية، واتجهت سياسة الدولة نحو الإنتاج في القطاع الزراعي والصناعي المرتبط بالزراعة، وخلق قاعدة إنتاجية كبيرة لكل إقليم، واستصحاب البعد البيئي في كل الخطط والقرارات الحكومية لتنمية اقتصادية واجتماعية، وإدماج البيئة في كل الأنشطة الحياتية في السودان وتطبيق مبدأ الحاكمية البيئية، فسوف يستقر القطاع الريفي ويتوقف نزيف الهجرة من الريف إلى العاصمة”.

إندبندنت

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.