استفتت مجلة “فوكس” العلمية قراءها حول قدرتهم على خفض استهلاكهم للحوم، وقد أجاب 24 في المئة منهم على أنهم سيتوقفون بالكامل عن تناول اللحوم حفاظاً على البيئة، بينما أجاب 44 في المئة أنهم سيقللون إلى حد ما من استهلاكهم للحوم الحمراء. أما النسبة الباقية والبالغة 32 في المئة، فقد أجابوا أنهم لن يتوقفوا أبداً عن تناول اللحوم، ولن يقللوا من كمية استهلاكهم لها، وأنهم يحبون اللحوم الحمراء كثيراً، مما يمنعهم من التوقف عن التهامها حتى ولو كان ذلك على حساب التلوث البيئي وزيادة غازات الاحتباس الحراري.
وفي العالم العربي لا تزال اللحوم مرغوبة بكل أنواعها، رغم اتساع حركة الداعين إلى النظام النباتي وحماية البيئة والحيوانات، لكن هل فعلاً يأكل العرب أنواعاً محددة من اللحوم أم يتناولون أنواعاً مجرد ذكرها يثير الاشمئزاز والرفض من دون علم مسبق بها؟
النار سلطت الإنسان على الحيوانات
تخصص البشر الأوائل في استخراج النخاع من العظام. لم النخاع؟ يتساءل يوفال نوح هراري في كتابه “العاقل” ويجيب، “افترض أنك تراقب عائلة أسود تسقط زرافة وتفترسها وتنتظر بصبر حتى انتهائها، لكنه ليس دورك بعد، فالضباع وبنات آوى تلتقط البقايا أولاً، ولن تجرؤ على مقاطعتها. بعدها فقط ستتجرأ أنت وجماعتك على الدنو من بقايا الفريسة متلفتين بحذر يمنة ويسرة ثم تحفرون في ما تبقى من نسيج صالح للأكل”.
ولكن عند اكتشاف النار انقلبت الموازين وأصبح الإنسان شيئاً فشيئاً من يملك عناصر القوة، وجال في الأرض يكتشفها ويكتشف خيراتها بعد أن كان حبيساً خائفاً من الحيوانات، لذلك يبدو أنه حاول الاستعاضة عن الخوف الذي اعتراه سنين طويلة بالصيد وتناول أنواعاً مختلفة من الحيوانات، حيث تقول إحدى الدراسات، إن إنسان ما قبل التاريخ الذي كان يسكن الكهوف القريبة من السواحل البحرية في فترة الباليوليتيك الأعلى، كان يتغذى على السلاحف البحرية المشوية في أصدافها، وقد عثر على أصداف السلاحف المكتشفة في أحد الكهوف على علامات تدل على الشواء وعلامات قطع تشير إلى أن السلاحف تعرضت للذبح بسكين حاد من الأحجار الصلدة ذات الحواف الحادة، حيث عثر على عظام وأصداف سلاحف بحرية عمرها 400 ألف سنة في كهف ساحلي بفلسطين أوضحت أن الإنسان الأول كان يذبح السلاحف البحرية ويقوم بطهيها ضمن وجبة تضم أيضاً لحوم حيوانات كبيرة الحجم وخضراوات.
لحوم تؤكل وأخرى مستنكرة عند العرب
أما إنسان اليوم فقد اعتاد خصوصاً في العالم العربي على أنواع محددة من اللحوم التي يتناولها، لدرجة أصبح أي اقتراح أو حديث عن نوع خارج القائمة يواجه ليس فقط بالرفض، بل بالازدراء والقرف، وقد يصل حد وضعه في خانة دينية من التحليل والتحريم.
فقد احتلت لحوم البقر والغنم والخروف والدجاج والسمك المرتبة الأولى في قائمة التفضيل والقبول، وجاء كذلك من ضمنها لحم الظبي والغزال والجمال، لكن ماذا عن لحوم الحمير والتماسيح والبغال والأحصنة التي سمح باستيراد بعضها في بعض الدول العربية، وأخرى ما زالت حالات فردية تنال إما إعجاب البعض أو غضبهم كل بحسب بيئته واعتياده لتبقى دائماً في خانة غرائب وعجائب البشر.
حيث ظهر استهجان العرب لما يأكله الصينيون خصوصاً مع انتشار فيروس كورونا واتهام حيوان الخفاش بحمله ونقله للإنسان عبر تناوله في الصين، كما أن العرب يشعرون باستنكار من فكرة أن الصينيين يأكلون الكلاب والقطط على اعتبار أنها حيوانات أليفة تشارك الإنسان الحياة غالباً في الدول العربية.
مطعم عربي يقدم لحم التمساح
تضج وسائل الإعلام العربية بين الفينة والأخرى بأخبار عن أشخاص مثلاً تناولوا لحم التمساح، ففي حادثة فردية في السعودية أقدم عدد من الشباب السعودي على سلخ تمساح صغير وشيه وتناوله ونقلوا تجربتهم هذه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي انقسم فيه الناس بين مؤيد ومعارض.
لحم التماسيح في طعمه أشبه بخليط من لحم الدجاج والسمك (pexels)
لحم التماسيح في طعمه أشبه بخليط من لحم الدجاج والسمك (pexels)
وما قد يكون في السعودية حدثاً استثنائياً إلا أنه قد يبدو في قرى السودان عملاً بطولياً ومدعوماً من المجتمع، حيث تمكن مزارع سوداني اسمه محمد فضل السنة الماضية من اصطياد تمساح بطول سبعة أمتار وعرض 50 سنتيمتراً في منطقة حجر العسل في ولاية نهر النيل في السودان، بعد مطاردة لأكثر من 20 يوماً، وقد اعتبر أهالي المنطقة أن ما قام به الصياد عمل بطولي وشجاع.
وعلى ما يبدو فإن هذه الحادثة ليست فردية في السودان، فقد عرف أن أكل لحوم التماسيح سلوك شائع في عديد من مناطق السودان، خصوصاً القرى الواقعة على ضفاف النيلين الأزرق والأبيض ونهر النيل في شمال البلاد، ويفضل الناس الجزء الخلفي من الجسم مثل الأرجل الخلفية والذيل.
وعليه فقد افتتح أول مطعم راق يقدم لحم التمساح بجانب اللحوم الأخرى وسط العاصمة الخرطوم، بمتنزه شارع النيل في عام 2008، وحظي بإقبال واسع من الجمهور.
ويقال إن لحم التماسيح في طعمه أشبه بخليط من لحم الدجاج والسمك، وإنه في أول مرة يتناول فيها الإنسان لحم التمساح يصاب ببعض التغيرات في درجة الحرارة والتقلصات في المعدة لفترة محدودة، ثم يعتاد ويقبل عليه.
بين لحم الحمير المرخص والمغشوش
في عام 2019 أصدرت وزارة التجارة الجزائرية قراراً يسمح باستيراد لحوم الحمير والبغال، مما أثار ردود فعل كالعادة بين مؤيد ومعارض ومحلل ومحرم، وليس بعيداً من الجزائر فقد غزت الأسواق التونسية منذ سنوات لحوم الحمير وبخاصة في شهر رمضان، وفي أحد التحقيقات المصورة أبدى التونسيون استعدادهم لتناول هذه اللحوم في ظل ارتفاع الأسعار، فبالنسبة إلى البعض الأهم هو تناول اللحم وليس نوعيته إلا ما هو محرم منها.
وفي عام 2017 خلص تحقيق لإحدى الصحف أنه يذبح شهرياً ألفا حمار في منطقة المغرب العربي، ومنها باب الخضراء أحد أشهر الأحياء العتيقة في تونس العاصمة، حيث يوجد محل الجزارة لبيع لحوم الخيول والحمير، ويقبل الزبائن من التونسيين والمغاربة على شراء هذا النوع من اللحوم الخاضعة للمراقبة الصحية الصارمة لوزارة الصحة والشرطة البلدية في تونس.
هذا في العلن، أما في السر فقد أغلق الأمن في دول عربية عدة خلال السنوات الأخيرة بعض الملاحم التي تبيع لحوم الحمير والبغال على أنه لحم بقر أو غنم ومنها الكويت ومصر وسوريا وتونس ولبنان وقطاع غزة، وقد كانت الحادثة الأضخم في مصر، حيث إن المسلخ الذي ضبطت لديه هذه اللحوم كان من الموزعين لأهم وأفخم المطاعم والفنادق في القاهرة.
أنت ما تأكل؟
في ظل عالم منفتح على بعضه البعض، لم يعد مستغرباً اليوم خصوصاً في المدن الكبرى أنواع كثيرة من اللحوم التي يتناولها الناس بمن فيهم في العالم العربي، فكلما كان الاسم أغرب أو غير مألوف كان طبق اللحم أكثر تشويقاً لمعرفته وتناوله.
حيث يعتبر طبق لحم الضفادع من أشهى الأطباق بالنسبة إلى من تناوله، ويصف كثيرون مدى لذته رغم صغر القطعة التي تؤكل منها “الفخذ”، كما يصف آخرون لحم السلحفاة بأنها قريبة من طعم لحم العجل ولكنها أقسى قليلاً، وغيرها من الحيوانات التي يسعى بخاصة الصيادون لتجربتها كالقنفذ مثلاً والأفاعي، أنواع مختلفة من الطيور والأسماك كالحنكليس الذي يستنكر كثيرون تناوله لشبهه بشكل الحية.
لكن أهم ما في الأمر هو ما جاء على ذكره ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، حين تحدث عن كل بيئة كيف تعطي الإنسان صفاتها عبر هوائها ومائها وطعامها بما فيها لحومها، “اعلم أن الجوع أصلح للبدن من إكثار الأغذية بكل وجه لمن قدر عليه أو على الإقلال منها وإن له أثراً في الأجسام والعقول في صفائها وصلاحها. واعتبر ذلك بآثار الأغذية التي تحصل عنها في الجسوم فقد رأينا المتغذون بألبان الإبل ولحومها مع ما يؤثر في أخلاقهم من الصبر والاحتمال والقدرة على حمل الأثقال الموجود ذلك للإبل وتنشأ أمعاؤهم أيضاً على نسبة أمعاء الإبل في الصحة والغلظ فلا يطرقها الوهن ولا ينالها من مدار الأغذية ما ينال غيرهم”.
الجوع أصلح لبدن الإنسان والأرض
إن نصيحة ابن خلدون أن الجوع أصلح للبدن، هي نصيحة تعطى دائماً للأجيال التي أدمنت الطعام السريع المشبع بالدهون والمكون الرئيس له اللحوم، فتقليل هذا الطعام ليس فقط أصلح لبدن الإنسان، بل لبدن الطبيعة التي تعاني آثار استهلاك اللحوم بطريقة أصبحت تحتاج لإعلان الطوارئ، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، حذرت الأمم المتحدة من التأثيرات السلبية التي يمكن أن تلحقها صناعة اللحوم بالبيئة من جراء تزايد انبعاثات الغازات الدفيئة في ظل توقعات بتزايد الاستهلاك العالمي للحوم بنسبة 76 في المئة بحلول عام 2050، ما يجعل من كل قطعة لحم يتم التهامها مصدراً لتلوث البيئة.
يقول “جانج ليو” الباحث في جامعة جنوب الدنمارك، وهو باحث رئيس في دراسة نشرتها دورية “إنفيرومنتال ساينس أند تكنولوجي”، “النتائج التي توصلنا إليها أكدت أن لحوم البقر كانت الأعلى من حيث إطلاقها للغازات الدفيئة في مرحلة إنتاج اللحوم، مقارنة بلحوم الخنزير والدواجن، كما أن تحسين وسائل التخلص من نفايات اللحوم كان له تأثير عميق على الحد من الانبعاثات، واتضح أن إجمالي الانبعاثات يمكن تخفيضه بنسبة 43 في المئة مقارنة بالمستوى الحالي، ما يوفر فرصة هائلة لتحقيق الاستدامة بحلول عام 2050 من خلال الحد من هدر الغذاء، وتغيير نمط التجارة، وتغيير بنية النظام الغذائي”.
إندبندنت