أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
(1)
استوقفني تسجيل للأستاذ والدرامي محمد جلواك في برنامج “كُرْسِي النُصّ”، ناقش فيه قضية حلايب وشلاتين، ومحاولات الإعلام المصري بتضليل الرأي العام بغية تمصيرهما، وأهل السياسة في السودان يتصارعون على الثريد الأعفر، ولا يحركون ساكناً؛ لأنهم منغمسون في تقديم صراعاتهم القطاعية الضيقة على حساب المصلحة الوطنية العريضة. وذكرتني مداخلة الأستاذ جلواك بملفٍ سري للغاية، وقفتُ عليه في دار الوثائق القومية بالخرطوم. وتشير مجموعة الخطابات الرسمية الواردة بين دفتيه والمتبادلة بين وزير الداخلية السوداني ومعتمد جبال البحر الأحمر إلى أنْ باحثاً إيطالياً حضر إلى السودان في خمسينيات القرون الماضي، وتقدم بطلب إلى مكتب البحوث بوزارة الداخلية الخرطوم للموافقة له بإجراء بحثٍ أنثروبولوجي عن قبيلة البشاريين في منطقة حلايب وشلاتين، فحصل على موافقة مكتب البحوث بوزارة الداخلية. وكان يرافقه آنذاك أحد مشايخ البشاريين، الذين يقيمون في مصر، ويُدعى الشيخ كرار أبوعلي. وعندما عرض الباحث الإيطالي موافقة وزارة الداخلية على معتمد جبال البحر، رفض المعتمد الموافقة بإجراء البحث في منطقة حلايب وشلاتين، متعللاً بالأسباب الآتية:
- إنَّ الباحث يحمل أيضاً تصديقاً من الحكومة المصرية بدخول منطقة حلايب وشلاتين، وإنَّ السماح له بدخول المنطقة وبحوزته تصديق الحكومة المصرية؛ يعني ضمناً أنَّ حلايب مصرية.
-
إنَّ الباحث يرافقه شيخ من البشاريين، الذين يقيمون على الحدود المصرية، واسمه كرار أبوعلي، ويُشبه اسمه أسماء مشايخ البشاريين في السودان، وربما يبث الشيخ المشار إليه دعاية مضللة لصالح الحكومة المصرية، التي تدعي ملكيتها على حلايب وشلاتين.
-
استناداً إلى المسوغين أعلاه، رفض معتمد جبال البحر الأحمر التصديق الصادر من وزارة الداخلية في الخرطوم، واقترح على الباحث الإيطالي إجراء بحثه عن قبيلة الحلنقة في منطقة القاش، بمجلس بلدية كسلا.
(2)
هكذا يجب أن تُدار الأمور الحساسة التي تمس الأمن القومي للبلاد؛ لكن اليوم أصبح معظم القادة السياسيين وأشباههم عملاء لدول مجاورة ودول ذات مصالح استراتيجية في الإقليم، ولا يعنيهم الشأن القومي، بل تحركهم مصالحهم الذاتية، ولذلك يفاوض بعضهم روسيا لإنشاء قاعدة عسكرية-بحرية في منطقة فلامنجو الاستراتيجية على ساحل البحر الأحمر، دون تفويض من أصحاب الشأن (أهل السودان)؛ ويعطي وزير ماليتهم الضوء الأخضر لمجموعة موانئ أبوظبي وشركة إنفيكتوس (Invictus) للاستثمار لتأسيس ميناء أبو عمامة على ساحل البحر الأحمر، دون إجراء دراسات جدوى ناضجة لمثل هذه المشروعات؛ ويستعطف الفريق البرهان الرأي العام أحياناً بتصريحات كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، عندما يرفع عقيرته في الاحتفالات العامة، قائلاً بأنه “سيرفع العلم السوداني على حلايب وشلاتين قريباً”. هكذا تدار القضايا القومية في سودان اليوم، وتمرح القرارات والمواقف الهازلة في فضاء البلد الجريج دون استحياء.
(3)
على وسائط الإعلام الحديثة والصحافة المقروءة والمثقفين أصحاب الضمائر الحيَّة والوعي السياسي الناضج توعية الرأي العام بخطورة مثل هذه الاتفاقيات الدولية، والقضايا المماثلة لها، التي تقوم على مصالح وطنية ضيزى، وتهدد الأمن القومي للبلاد، فالسودان ليس ملكاً لأهل السياسة وحدهم، بل كل أهل السودان شركاء لا أجراء في رعاية مصالح بلادهم القومية، وحمايتها والزود عنها.
التيار