سودافاكس ـ تصادف هذه الأيام الذكرى العشرين لبدء العمليات العسكرية لغزو العراق واحتلاله عام 2003 من جانب تحالف عسكري دولي، بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، بهدف الإطاحة بنظام الرئيس الراحل صدام حسين (1979-2003)، بذريعة امتلاك بلاده أسلحة دمار شامل ودعم تنظيمات إرهابية.
لكن قوات الاحتلال وكبار مسؤولي إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الابن، الذي قاد الحرب، فشلوا في إثبات وجود أسلحة دمار شامل أو تعاون نظام صدام مع تنظيمات إرهابية أو أي ذريعة أخرى من ذرائع العملية العسكرية التي رفض مجلس الأمن الدولي منح واشنطن تفويضا بها.
وخلال 9 سنوات من الاحتلال الأمريكي للعراق، أسفر الغزو عن حصيلة مخيفة من القتلى، بجانب تخريب كامل للبنى التحتية للمنشآت الخدمية وتفكيك مؤسسات الدولة وإقامة نظام حكم اعتمد تقسيم المجتمع العراقي إلى مكونات عرقية أو طائفية تحت مسمى الديمقراطية.
ولا توجد أرقام دقيقة للخسائر بين المدنيين من مصادر مستقلة، لكن قوات الاحتلال تسببت بشكل مباشر بمقتل ما يزيد عن 100 ألف مدني، وفقا لمجموعة (Iraq Body Count)، فيما أعلنت الولايات المتحدة رسميا مقتل نحو 4700 من قواتها بحلول موعد الانسحاب نهاية 2011.
من المهم التأكيد على أن واشنطن عمدت إلى تفكيك مؤسسات العراق الأمنية والعسكرية، مما أدى إلى إدخال البلاد في فوضى أمنية وشيوع ظاهرة الميليشيات والسلاح خارج سيطرة الدولة.
ولا يزال العراق يعاني من تبعات قرار سلطة الائتلاف المدني، بقيادة السفير الأمريكي بول بريمر، بتشكيل نواة وزارتي الدفاع والداخلية من عناصر الميليشيات، سواء التي تأسست في إيران أو التي تشكلت بعد الغزو مباشرة.
وأسقط الغزو النظام السياسي القائم منذ الانقلاب على العهد الملكي في 1958، “في محاولة لبناء دولة ديمقراطية تعددية ذات سيادة تحتكم إلى نظام حكم يصلح أن يكون مرجعية لمجتمعات دول الشرق الأوسط التي يطمح معظم سكانها إلى مغادرة الدكتاتورية والتوريث إلى التبادل السلمي للسلطة والخضوع لإرادة صناديق الاقتراع”، بحسب الرؤية الأمريكية.
من المؤكد أن الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق نجحت في إسقاط النظام السياسي والإطاحة بنظام صدام، لكنها فشلت في تحقيق أي من أهدافها المعلنة، بما فيها إرساء أسس نظام حكم ديمقراطي.
ولعل من أبرز نتائج الغزو: الحرب الأهلية بين 2006 و2008، وتهميش دور مؤسسات الدولة، وإقامة نظام سياسي يعتمد مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية في توزيع السلطة والموارد وفق تفاهمات بين الأحزاب الرئيسية وبإدارة سلطة الاحتلال دون إجراء تعداد للسكان لتحديد تمثيل كل مكون من مكونات العراق الأساسية الثلاثة (السُنة والشيعة والأكراد).
يمكن القول إن الولايات المتحدة التي غادر جنودها العراق بعد توقيع اتفاقية أمنية مع بغداد عام 2008، أسقطت البلاد في دائرة النفوذ الإيراني والمجموعات العراقية المسلحة الحليفة لطهران التي تتبادل مع واشنطن حالة العداء، حيث أفرزت سنوات الاحتلال ارتفاعا هائلا في نفوذ إيران المباشر أو عبر القوى الحليفة لها.
ونجحت القوى الحليفة لطهران في تحويل العراق إلى حاجز صد للعقوبات الأمريكية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على إيران في 2018، ومتنفسا لإنقاذ اقتصاد إيران المتراجع عبر توريد الغاز والكهرباء والسلع الاستهلاكية إلى العراق بأكثر من 10 مليارات دولار سنويا.
وبشكل ما، ساهم غزو العراق في ظهور أو إعادة تنشيط ما تُسمى بالحركات والتنظيمات “الجهادية” التي تدرجها الولايات المتحدة ومعظم دول العالم على لوائح التنظيمات الإرهابية.
وتنفق الولايات المتحدة ودول أخرى بينها دول شرق أوسطية، عشرات مليارات الدولارات سنويا في إطار الحرب الكونية على الإرهاب التي تصاعدت بعد أحداث مدينة الموصل 2014 وسيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي على أجزاء واسعة من غرب وشمال غرب العراق وشرق وشمال شرق سوريا.
وأعاد غزو العراق صياغة التوازنات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط وفتح الباب واسعا أمام تعاظم نفوذ القوى الإقليمية والدولية سواء في العراق أو في دول جواره التي تأثرت بعضها بتداعيات الغزو، الذي يقول محللون غربيون إنه ساهم إلى حد ما في إشاعة وعي جديد لدى فئة الشباب ينبذ الدكتاتوريات والأنظمة العسكرية وتلك التي تعتمد مبدأ توريث الحكم ضمن عوائل محددة.
ويعزو هؤلاء إلى غزو العراق جانبا من أسباب ما تُعرف باسم “ثورات الربيع العربي”، التي انطلقت شرارتها في تونس نهاية 2010 وامتدت إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا في موجتها الأولى ثم الجزائر والسودان في موجة ثانية عام 2019.
كما امتدت إلى العراق، الذي شهد في 2013 اعتصامات في محافظات العرب السُنّة، ثم احتجاجات واسعة النطاق في بغداد ومحافظات وسط وجنوب العراق ذات الأغلبية الشيعية، مما أدى إلى الإطاحة بحكومة عادل عبد المهدي في 2019، لكنها لم تسقط النظام السياسي الذي أرست واشنطن دعائمه بعد الغزو.
وعلى صعيد التوازنات الإقليمية والدولية، بدا الشرق الأوسط “الجديد” تتوزعه ثلاث قوى رئيسية من الدول والجهات الفاعلة هي روسيا والصين وإيران من جهة والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى.
فيما تتموضع معظم الدول العربية في محاولة منها للحفاظ على الوضع القائم ورفض أي محاولات للتغيير عبر التحالف والتنسيق الأمني والعسكري تارة مع الولايات المتحدة وإسرائيل بشكل ما وتارة أخرى مع إيران والصين وروسيا.
في المحصلة النهائية فإن الغزو الأمريكي حتى بعد 20 عاما، ترك العراق غارقا في فساد مالي وإداري وفقدان الدولة الجزء الأهم من قرارها الأمني والاقتصادي والسياسي لصالح قوى وفصائل متنفذة تحتكم إلى قوة السلاح لفرض إرادتها.
كما حوّل العراق إلى محطة صراع قوى إقليمية ودولية أبرزها الولايات المتحدة وإيران اللتان تقتسمان النفوذ، بينما تتوزع القوى العراقية في الولاء أو التبعية أحيانا لطرف منهما على حساب الآخر، وفي حالات قليلة الموازنة بين الولاء للطرفين.
لكن في كل الأحوال فإن العراق ظل بعيدا عن الديمقراطية بأي من أشكالها، عدا ديمقراطية “هجينة” اعتمدت مبدأ التفاهم بين رؤساء الأحزاب المتنفذة تحت مسمى “التوافقية” في توزيع السلطات والموارد بعيدا عن أي معايير تستند إليها سواء ما يتعلق بالتمثيل السكاني للمكونات أو الواقع الجغرافي أو حاجات المناطق أو المحافظات وسكانها للخدمات.
ولم تعد الولايات المتحدة وأكثر القوى التي كانت تعوّل على النموذج الجديد للحكم في العراق ترى أن البلاد يمكن أن تصبح منطلقا لنشر الديمقراطية وحرية التعبير ووحدة المجتمعات وتماسكها بعد سنوات من الحروب الداخلية والصراعات المسلحة ذات البعد الطائفي بين المكونات أو البعد السياسي داخل المكونات نفسها.
سودافاكس