حرب السودان تؤجج نيران غلاء اللحوم في مصر

تؤجج الحرب في السودان نيران الغلاء المستعرة بمصر، وتدفع بأسعار اللحوم إلى مستويات هائلة، تُتوقع زيادتها خلال الأسابيع القادمة.
أوقفت الحرب بين القوى العسكرية في السودان حركة التبادلات التجارية، بين شطري وداي النيل. انقطعت رحلات الشتاء والصيف التي طالما أتت قوافلها محملة بالصمغ الغربي والسمسم والجمال والماعز والمواد الغذائية، لسوق شمالي متعطش لكل أنواع السلع الأساسية، لتعود إلى الجنوب بالسكر الخام والأدوية ومواد البناء.
ارتفعت أسعار اللحوم بجنون بزيادة بلغت 100 جنيه بالكيلو دفعة واحدة، بما يعادل 30% أكثر من الأسعار السائدة منتصف إبريل/نيسان الماضي.
لم يلتقط المستهلكون أنفاسهم من غلاء اللحوم، بعد رحلة من الارتفاعات المتلاحقة، خلال شهري فبراير/ شباط ومارس/ آذار الماضيين، بسبب زيادة أسعار الأعلاف وشح الدولار، فجاءت الحرب في السودان لتضيف كابوسا آخر من نوع جديد، وتزيد من ضبابية قدرة الحكومة على تدبير السلع الأساسية للمواطنين، مع حالة غلاء متصاعدة بقوة، حيث ارتفع كيلو اللحم البلدي من 260 جنيها بالمناطق الشعبية إلى 330 جنيها، وزاد بالمحلات والأحياء المتوسطة من 280 جنيها إلى 400 جنيه، في وقت تراجعت قدرة المستهلكين على شراء اللحوم، بمعدلات بلغت 85%، وفقا لدراسة بحثية أجريت نهاية العام الماضي.

يبدي تجار اللحوم مخاوفهم من تصاعد الأزمة، في ظل انقطاع اللحوم القادمة من السودان تماما، عقب اندلاع الحرب منذ نحو شهر.
غاب الأمن على الحدود، وضاع الأمان عبر طرق وعرة تقطعها الإبل والأبقار التي تسير مسافات من كردفان وأم درمان والفاشر، تبلغ نحو 3 آلاف كيلومتر، لتباع بالأسواق المصرية، على مسار نهر النيل، من دراو شمال أسوان، وفرشوط بأسيوط جنوبا وبرقاش على مشارف العاصمة غرب دلتا النيل.
تدفع تلك الأسواق بنحو 30 ألف طن يوميا من اللحوم التي تذبح على الحدود المصرية، وتنقل برا بالبرادات لتباع طازجة يوميا بمنافذ وزارة التموين، بسعر 165 جنيها للكيلوغرام.
ارتفعت تلك الكميات في فترة العيد الماضي إلى 70 ألف طن يوميا، في ظل زيادة الطلب على اللحوم، في وقت فشلت بتدبير موارد محلية مع عزوف المربين عن الاستثمار في سلعة شديدة التأثر بخفض الواردات وندرة الدولار، وارتفاع مدخلات الإنتاج.
عطلت الحرب قدوم 90 ألف جمل تأتي بالقوافل سيرا على الأقدام، في تلك الفترة من العام سنويا، مع استعداد التجار لتجهيز احتياجات المواطنين للأضاحي، بينما توقف العمل في ميناء بور سودان، الذي ينقل الأبقار الحية والماعز السوداني إلى ميناء الأدبية بالسويس، لأنحاء البلاد.
قفزت أسعار لحوم الجمال من 180 جنيها في المتوسط إلى 270 جنيها بالمحلات التي تشتهر بها مناطق كرداسة وناهيا وبرقاش غرب القاهرة، ومحافظات الشرقية وأسوان وأسيوط. زادت أسعار لحوم الضأن من 260 إلى 360 جنيها، وارتفع كيلو الضأن بضعف سعره السائد منذ شهرين (الدولار = نحو 30.9 جنيها).
تسجل الحكومة في بيانات جهاز التعبئة والإحصاء الصادرة أول من أمس ارتفاعا في أسعار مجموعة اللحوم والدواجن، بنسبة 83.3%، خلال شهر إبريل/ نيسان الماضي، مقارنة بنفس الشهر من عام 2022. وسجلت معدلات التضخم السنوي 31.5%، مقابل 14.9% للعام الماضي، متأثرة بطغيان أسعار الطعام والمشروعات وخاصة الخبز والحبوب واللحوم، والدواجن والأسماك، والألبان والبيض والفاكهة والسكر والشاي والبن، والمشروبات، بنسبة إجمالية 53.8%.

توقع محللو الأسواق أن تقفز الأسعار بمعدلات مضاعفة، الشهر المقبل، مع الزيادة اليومية التي تحدث في أسعار اللحوم لشح مصادر التوريد، وعدم قدرة الحكومة على تدبير بدائل سريعة في ظل تزايد أزمة الدولار، وضعف سلاسل التوريد، وزيادة الضغوط على بدائل اللحوم الحمراء، حيث ارتفعت أسعار الدواجن والأسماك بنسبة تصل إلى 25%، خلال الأسبوعين الماضيين.
يحتاج الموردون ما بين شهرين و3 أشهر للإتيان باللحوم من البرازيل والهند، وحلّ المعضلة الكبرى، بأن توفر البنوك الدولار للمستوردين، بينما اللحوم السودانية تأتي برا سيرا على الأقدام، أو عبر سيارات النقل، والأهم أن صفقات البيع والشراء تجري بالجنيهين المصري والسوداني، دون الحاجة إلى عملات أجنبية، كما يؤكد تجار سودانيون ومصريون لـ “العربي الجديد” بسوق “برقاش” للجمال.
يساهم التجار في زيادة التبادل التجاري بين البلدين، فيعقدون على طريقتهم صفقات متكافئة، اعتاد على تنفيذها شعب وادي النيل، الذي لم تتوقف تجارته عبر الحدود، منذ عشرات السنين، إلا الشهر الماضي.

يأتون بقوافل الجمال والبقر والماعز، والسمسم والصمغ، ويعودون بالأجهزة الكهربائية، والدهانات والأدوية. ساهم التقارب بين النظام العسكري الذي أطاح حكم عمر البشير عام 2019، بقيادة الفريق عبد الفتاح برهان، في زيادة حجم التبادل التجاري، الذي بلغ 1.4 مليار دولار عام 2022، مقابل 1.2 مليار دولار عام 2021، بنسبة 18.2%، متصاعدة منذ 2019.

تستفيد مصر من زيادة الفائض التجاري الذي يميل لصالح صادراتها بنحو 929 مليون دولار. لا ترصد البيانات الرسمية قيمة صفقات الأبقار والغنم والجمال التي تجري بالعملتين المحليتين، إلا التي تتم بين الجهات الرسمية وتقوم بالدولار، لتظل سوق اللحوم عاكسة لسوق تكامل شعبي، يدعم قدرة المصريين في الحصول على لحوم طازجة رخيصة، من جار، لديه طاقة إنتاجية تصل إلى 18 مليون رأس بقر و240 مليون فدان قابلة للزراعة قادرة على توفير الأعلاف مجانا، بينما المصريون يكدون بحثا عن الدولار الشحيح، لشراء مدخلات الصناعة واللحوم بالعملة الصعبة.
يتحسر تاجر الجمال بمنطقة كرداسة ربيع شيتا على حالة الغلاء التي انتابت الأسواق منذ اندلاع الحرب في السودان. يقول شتيا لـ”العربي الجديد”: تخطى سعر الجمل الصغير “القاعود” وزن 250 كيلوغراما مبلغ 40 ألف جنيه، ليرتفع إلى 52 ألف جنيه، للأكبر منه. كان سعر الجمل يبلغ عام 2019 نحو 5 آلاف جنيه للقاعود و12 ألفا للكبير.

يؤكد شتيا أن غلاء لحوم الجمال التي تفضلها قلة من الأسر المصرية دفعها للتوقف عن الشراء، بعدما ارتفعت من 90 جنيها عام 2021 إلى 110 عام 2022، وقفزت إلى 180 منذ بداية العام الحالي، ثم زادت دفعة واحدة إلى 270 جنيها، ومرشحة لمزيد من الارتفاع مع توقف وصول دفعات جديدة من اللحوم، واقتراب عيد الأضحى.
يشكو الجزار محمود حمزة من قلة العائد من البيع، رغم ارتفاع السعر، بعدما خفض أرباحه، مقابل جذب العملاء الذين انفضوا من حوله، فأصبح يبيع 20% من حجم مبيعاته الأسبوعية في منطقة كرداسة، التي تعشق لحوم الجمال.

وأوضح أن عائلات أخرى خارج المنطقة أقبلت على لحومها هربا من غلاء الأبقار والضأن وهذه الفئة ستتجه إلى مقاطعة اللحوم، مع غلاء جميع أنواع اللحوم وتراجع القوى الشرائية للجنيه وقلة دخل المواطنين. شاهد “العربي الجديد” عشرات الأفراد، يدخلون محل “حمزة” وينفضون بسرعة، لمجرد اطلاعهم على سعر كيلو اللحم، فأصبح المحل الشهير خاويا من الزبائن، ويلجأ إلى تخزين الكميات الهزيلة التي يعرضها بثلاجة، خوفا من ركود المبيعات وارتفاع درجات الحرارة.

استهدفت شعبة القصابين بالغرفة التجارية، خلال شهر رمضان الماضي، زيادة واردات اللحوم الحية من السودان، لتوفيرها بسعر مناسب للمواطنين. قال نائب رئيس الشعبة هيثم عبد الباسط لـ”العربي الجديد”، إن أزمة اللحوم لن تحل إلا إذا جاءت من السودان، لأن الشعب يقبل على اللحم الطازج، والحكومة لن تقدر على تدبيره بالكميات المطلوبة في ظل أزمة الدولار، وغلاء الأعلاف، وعدم قدرة المربين على توفيرها محليا.
وتواجه مصر شحا في الموارد المائية، والمساحات الزراعية التي توفر الطعام للمواشي، المدرة للألبان أو المنتجة للحوم، انعكس أثرها على خفض مزارع الدواجن إنتاجها بنحو 60% وخروج آلاف مشروعات تربية الأبقار من الخدمة في الشهرين الماضيين.
تثير الحرب مخاوف حدودية، دفعت بـ 50 ألف سوداني إلى أن يأتوا فرادى فارين بحياتهم، بعدما كانوا يدخلون مصر أفواجا يتاجرون ويحملون المال والسلع بين البلدين.

العربي الجديد

Exit mobile version