(1)
أصدرت وزارة الخارجية السودانية، في الثامن من يونيو/ حزيران الحالي، بياناً أعلنت بموجبه إخطارها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غويتريس، بأن مبعوثه الأممي ورئيس البعثة الخاصة في السودان، فولكر بيرتس، “شخص غير مرغوب فيه”، بحجّة ما زُعم من دور له في تأجيج الصراع الداخلي بين الفرقاء السودانيين. فهل هذه هي المرّة الأولى التي تعادي فيها حكومة أمرٍ واقعٍ سـودانية مبعوثاً من المنظمة الأممية؟ تقول التجربة السودانية إن ذلك الفعل قد وقع من قبل من حكومة نظام عمر البشير في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2006، إذ أقـدمت على إخطار الأميـن العام السابق للأمم المتحدة، كوفي عنان، أنّ حكومة السودان قد أمهلـت مبعـوثه الخاص للسودان ايان برونك (هولندي) لمغادرة السودان، بمزاعم تجاوزه واجبات مهمته وإطلاقه تصريحاتٍ حول النزاع الناشب في إقليم دارفور، لم ترضِ عنها الخرطوم.
(2)
كان إيان برونك وزيرا سابقا في حكومة بلاده هولندا، وهو دبلوماسي وموظف أممي مقتدر، وله لسان ذرب وصوت حادّ الانتقاد، ولأنه تولّى تكليف مهمة تمثيل الأميـن العام للأمم المتحدة منح مهمته خالص اهتمامه، وهيَ تتّصل أساساً بتفاقم الصراع الدائر سنواتٍ في إقليم دارفور، ولم يكن الرّجل رحيما بحكومة البشير، فأبغضتْ تصريحاته قيادات الحكومة في دارفور. على أثر تصريحات الرّجل في صفحته الإلكترونية، تم حشد رأي ناقـد لأدائه، فأقنعوا وزارة الخارجية بتحرّك ضده، فأمهلته الوزارة 72 ساعة لمغادرة السودان. وقد اتسم أداء الدبلوماسية السودانية، في سنوات منتصف العقد الأوّل للألفية الثالثة، بقدرٍ كبيرٍ من المهنية والحصافة السياسية. لقد تمَّ إخراج قرار إنهاء مهمة مبعوث الأمين العام بأسلوب مدروس، كما أنّ الرّجل نفسه أحس بالتباين والاختلاف الشديد بين رؤيته للنزاع في دارفور ورؤى الحكومة السودانية حوله، والتي كانت تلقي على جوانب الصّراع ستاراً كثيفاً من الإخفاء والتورية.
القتال يدور في شوارع الخرطوم، وأغلب عناصر وزارة الخارجية، بمن فيهم وزيرها، لا يُسمع لهم همسٌ ولا صوتٌ ولا حراك
تـمَّ إخطار برونك بالقرار في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2006، بعد إكماله نحو عامين في السودان. قبلَ الرّجل بمهلة الـ 72 ساعة، لكنهُ طلب، بعد تنفيـذ القرار، أن تسمح له الحكومة السودانية بالعودة، بصفته الشخصية، لإكمال ترتيب رحيله النهائي من الخرطوم. قبلتْ الحكومة ذلك الطلب، كما سارع الأمين العام باسـتدعاء الرجل إلى نيويورك للتشاور، وهكذا انتهت قصّته مع السودان.
(3)
ما أن أصدرتْ وزارة الخارجية السودانية، أخيرا، قرارها في بيان أعلنت فيه فولكر بيرتس “شخصاً غير مرغوبٍ فيه”، وفق الصفة والتعبير الدبلوماسيين اللذيْن يستعملان ضدّ أي دبلوماسي يتجاوز مهامه، وفق ما أقرّته اتفاقيتا فيينا للعلاقات الدبلوماسية وللعلاقـات القنصلية، حتى سارع المتحدث القانوني باسم الأمين العام للأمم المتحدة، مفنّـدا حجـّة الخارجية بأنّ الصيغة الواردة في المذكّرة السودانية هي من الصيّغ التي تطبّق على السفراء والدبلوماسيين حال ارتكابهم مخالفاتٍ في إطار العلاقات الدبلوماسية الثنائية، وليس في إطار العلاقات الدبلوماسية الجماعية، وبيرتس مبعوث الأمين العام ليس دبلوماســيا أو سفيراً في التوصيف، لكنه موظف أممي، يحاسب بلوائح الأمم المتحدة لا بمقرّرات اتفاقيتي فيينا الدبلوماسية والقنصلية.
(4)
ستظلّ الحجّة القانونية والدبلوماسية تدور حول الأمر، وستسوّد صفحات وأوراق ومذكّرات، ولكن وزارة الخارجية السودانية ستبقى أول من يلام في عدم التوفيق في إخراج قرار التخلص من مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة من الملف السوداني بحصافةٍ وبقدرٍ من الإقناع والاقتناع المتبادل. ولعلّ سوء التقدير من وزارة الخارجية السودانية لم يقف عند حدود، بل مضى ليؤلّب على مبعوث الأمين العام منظماتٍ إقليمية وأطرافا حادبة على أحوال السودان، تنصح أن لا تتعامل جميعها مع رجل قرّر السودان إعلانه “شخصاً غير مرغوب فيه”. وقد أجزم هنا أن من بين دبلوماسيي وزارة الخارجية السودانية من حذق المهنة وأمسك بتقاليدها ولان لهم قيادها، فكيف تطيش سهامهم الدبلوماسية فيقعون في أخطاء أثارت عليهم سخريةً في الأوساط السياسية والدبلوماسية؟ وإذ نمعن النظر ملياً، نرى أن لبعض الجنرالات الحاكمين حاليا في الخرطوم يـدا في إخراج ذلك القرار الخاص بالتخلّص من المبعوث الأممي على هذا النحو الذي بدا وكأنه فضيحة دبلوماسية. أميل إلى القـول إن النصح الدبلوماسي لم يجد أذنا تصغي ولا حكيما يدرك، والقتال يدور في شوارع الخرطوم، وأغلب عناصر وزارة الخارجية، بمن فيهم وزيرها المكلف، لا يُسمع لهم همسٌ ولا صوتٌ ولا حراك. كان النظام العسكري القابض الذي تخلّص من مبعوث الأمين العام القديم، إيان برونك في عام 2006، أكثر حكمة وأدقَّ حافة، مثلما كانت عناصره الدبلوماسية في وزارة الخارجية وقتذاك أكثر كفاءة في المناصحة وأمتن اقتدارا في الإقناع.
(5)
يبقى جانب أراه مهما ولافتا. وإني لأتساءل هنا إن كان توقيـت إثارة معركة دبلوماسية مع المجتمع الدولي، تضاف إلى المعارك التي سـمّوها “عبثية” مناسبا، أم هو توقيت يصبّ الزيت على النار اللاهبة؟ لنا مثلٍ يعرفه السودانيون جيّداً يكاد يكون مفصّلا تفصيلا كتفصيل الغمد للسكين. ألسنا في السودان من استقدمنا ذلك المبعوث، إذ وافق الأمين العام للأمم المتحدة على إرساله لعوننا، فأنكرنا دوره ورفضنا مهمّته؟
يقول المثل السوداني: “جئنا نعينه على حفر قبر لوالده فدسّ عنا المحافير”. وآخر قولي أن لا يكون السودان تلك الجثة المُسجاة بانتظار الدّفن.
العربي الجديد