في 21 يونيو/ حزيران الماضي، أقلّت ثلاث مركبات مستأجرة بجهد شعبي 12 امرأة مسنّة و34 فتاة، من مركزي إيواء في حي السجانة، بالعاصمة السودانية الخرطوم، ونقلتهم إلى مدينة الحصاحيصا، في ولاية الجزيرة، جنوب العاصمة.
ولاحقاً انضمت إلى هذه القافلة في الطريق مركبتان على متنهما 50 طفلاً، تراوحت أعمارهم بين 8 سنوات و15 سنة، كانوا في دار لإيواء الفتيان قرب منطقة المدينة الرياضية بالخرطوم، التي انطلقت منها شرارة الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 إبريل/ نيسان الماضي.
وكانت النساء نزيلات في المركز الحكومي لإيواء المُسنّات في الخرطوم الذي تأسس في ثلاثينيات القرن العشرين لرعاية اللواتي تجاوزن سن الستين ولا أسر لديهن، أما الفتيات والأطفال فكانوا يمكثون في مركز “المايقوما” لرعاية الطفل في الخرطوم، حيث يقضي أولئك الذين يولدون خارج إطار الزواج، ويطلق عليهم رسمياً اسم “فاقدي السند”، فترة خمسة أعوام، قبل أن ينقلوا إلى مراكز إيواء، كانت تشرف عليها بجدية متناهية وزارة الرعاية والتنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم.
وحين نشبت الحرب في منتصف إبريل/ نيسان، أقامت 17 امرأة يتجاوزن سن الـ 70، وبعضهن عاجزات عن الحركة، في مركز إيواء المسنّات بحي السجانة، و35 فتاة في مركز “المستقبل”، و50 طفلاً في مركز للفتيان بمنطقة المدينة الرياضية.
تقول إيمان كريم (اسم مستعار بناءً على طلبها) التي تعمل موظفة في المركز الحكومي لإيواء المُسنّات لـ”العربي الجديد”: “عجزنا عن الوصول إلى المركز، رغم أن نزيلاته كن في أشد الحاجة إلى الحصول على طعام وأدوية ومياه للشرب. لم نستطع كموظفات المخاطرة بالقدوم إلى مركز الإيواء، في وقت توقفت كل الإدارات الرسمية عن العمل. وانطبقت الحال نفسها على مركزي إيواء الفتيات والأطفال، إذ لم يلتحق بالدوام أي من الموظفين الذين يشرفون على طعام رواد المركز وعلاجهم”.
وتخبر امرأة تسكن قرب المركز الحكومي لإيواء المُسنّات: “نفد الطعام في المركز، وانقطع التيار الكهربائي. ولولا الجيران والمحسنون لقضى الجوع على النزيلات”. تضيف: “لم تحضر الموظفات المسؤولات منذ بداية الحرب، لذا واجهت النزيلات ظروفاً مأساوية”.
ويبدي رجل يسكن في الحي الذي يقع فيه مركزا إيواء الفتيات والمُسنّات اعتقاده بأنه “جرى إهمالهن في شكل شبه متعمد”.
جهود متطوعين
في البدء، تولى عدد من المتطوعين توفير الاحتياجات اليومية والرعاية الطبية في مراكز الإيواء. وحين توغلت قوات الدعم السريع إلى مقر مؤسسة صك العملة، القريب من المراكز، لم يحضر المتطوعون، لأن كل شخص كان يتحرك في المنطقة كان يتعرّض لأسلحة من قناصة تابعين لطرفي الصراع.
وتفيد مصادر بأن ست مُسنات فارقن الحياة، بسبب قلة الطعام، وعدم توفر الرعاية الطبية اللازمة، كما قضت فتاة برصاصة طائشة اخترقت دار مركز الإيواء. ولاحقاً مات ثلاثة أطفال بسبب عدم تلقيهم العلاج. كما تتحدث عن موت 71 طفلاً تقل أعمارهم عن عام واحد، خلال الأسابيع الخمسة الأولى لاندلاع الحرب، بسبب عدم توفر الحليب وانقطاع الكهرباء.
وفي المركز الحكومي لإيواء المُسنّين بمدينة بحري مات 11 من أصل 31 مُسنّاً خلال 4 أسابيع.
وعموماً تلاشت سلطة وزارة الرعاية والتنمية الاجتماعية، على غرار باقي المؤسسات الحكومية، مع بداية الحرب، وعانى رواد المراكز التي تقع ضمن مناطق الصراع من قسوة الجوع، لأن الحصول على الطعام والشراب أصبح مستحيلاً في هذه الأماكن.
وتقول هبة (25 عاماً) التي تقيم في مركز إيواء الفتيات لـ”العربي الجديد”: “عندما أردت الرصاصة فتاة داخل المركز شعرنا بأنه يمكن أن نلقى جميعاً حتفنا إذا لم نغادر المكان بسرعة، لكن أي طريق يمكن أن تسلكه نساء مُسنّات فقد بعضهن البصر والقوة، وأطفال وفتيات نقلوا من دار المايقوما، حين بلغوا الخامسة من العمر إلى مراكز إيواء حكومية ولم يغادروها أبداً؟”.
وعلّقت فتاة أخرى بالقول لـ”العربي الجديد”: “واضح أن السلطات لا تنتظر نفعاً من رواد مراكز الإيواء، لذا لم تقلق على حياتهم، ولم تحرك ساكناً عندما تأزمت أوضاعهم، وسط المعارك، فتركتهم يواجهون مصيرهم”.
66 يوماً تحت القصف
وفعلياً انتظر نزلاء هذه المراكز 66 يوماً تحت القصف المدفعي المتواصل، قبل أن تنجح جهود بذلها متطوعون وفاعلو خير في نقلهم في 21 يونيو/ حزيران إلى مدينة الحصاحيصا، التي تبعد 135 كيلومتراً من جنوبي الخرطوم، حيث استقروا في مدرسة حوّلها متطوعون من المنطقة إلى مركز إيواء مؤقت.
ورغم أن الموقع الذي انتقلوا له وفرّ لهم فرصة النجاة من الرصاص والقصف، بدت الخدمات شبه معدومة في المكان الجديد، حيث لا توجد برادات مياه، ما يحتم شراء المتطوعين الثلج يومياً لتبريد مياه الشرب للأطفال والمُسنّات، كما أن عدد الأسرة الموجود يكفي النساء فقط، في حين يستخدم الفتيان والفتيات الأطفال فرشات بلاستيكية للنوم على أرض مبنى المدرسة غير المرصوفة في شكل جيد.
مخاوف من الأمراض
وفي ظل احتضانها 10 مراكز إيواء للفارين من الخرطوم، تعاني مدينة الحصاحيصا الصغيرة من نقص في الكوادر الطبية، ومراكز تقديم خدمات العلاج. وتقول هبة إن “ثلاثة أطفال من مركز الإيواء ماتوا خلال يوم واحد، ما دفع وزارة الصحة في الولاية إلى إرسال فريق طبي إلى المركز المؤقت للتأكد من سلامة الأطفال ومعاينتهم التي لم تظهر نتائجها حتى اليوم”.
وفيما انتهت الجهود التي بذلها المتطوعون الذين نقلوا نزلاء مراكز الإيواء إلى الحصاحيصا، يحاول متطوعون آخرون من المنطقة توفير خدمات لهم. وتقول هبة إن أفراداً من المنطقة تكفلوا بتوفير بعض المواد الغذائية اليومية، لكن التزاماتهم لم تكفِ، فالأطفال، والمُسنّون تحديداً، يحتاجون إلى مواد غذائية معينة، وإلى رعاية طبية مستمرة لم يحصلوا عليها حتى الآن”.
وفي ظل ندرة مراكز تقديم الرعاية الطبية، وانعدام الأدوية، تتخوف هبة من تعرّض نزلاء مراكز الإيواء إلى أمراض تنتشر بكثافة في المنطقة، منها الملاريا والإسهال المائي والتيفوئيد، وتأمل في أن ينجو الجميع بعدما فقدوا مائة شخص من النزلاء السابقين لمراكز الإيواء.