لطالما افتخرت كينيا بكونها من الدول الأفريقية الرائدة في توفير أغلب الخدمات الحكومية والإدارية عبر الإنترنت، إلا أن هذا الفخر تحول منذ بداية الأسبوع الماضي إلى كابوس، بعد أن شهدت أغلب المنصات الحكومية الخدماتية توقفا تاما عن العمل.
وأثّر ذلك على طلبات التأشيرة للدخول إلى كينيا، وعلى تجديد رخص القيادة وشهادات الميلاد وتسجيل الأعمال وشهادات الزواج وحُسن السلوك وجوازات السفر، بل وحتى الأنظمة البنكية وتحويل الأموال.
لم تدلِ الحكومة الكينية بأي تصريح حول هذا العطل، لكن مجموعة تطلق على نفسها “أنونيموس السودان” أعلنت، وسط الأسبوع، تبنيها لهجمات سيبرانية أدت إلى توقف عدد من المواقع الكينية بما في ذلك المواقع الحكومية الرئيسية والشركات الكبرى. وزعمت المجموعة أن دافعهم كان “للانتقام من تدخل كينيا في شؤون السودان”.
كما زعمت المجموعة، التي تتواصل عبر تطبيق تليغرام، أنها تمكنت من الوصول إلى بيانات حساسة، بما في ذلك المعلومات الشخصية للمواطنين الكينيين. ومع ذلك، لم تقدم أي مطالب كما هو الحال عادة في كثير من حالات الخروقات السيبرانية.
“محاولة قرصنة”
إثر هذا الإعلان، اضطرت الحكومة للخروج وتحدثت باحتراز عن هذه الهجمات؛ إذ اعترف وزير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إليود أوالو، في مقابلة إذاعية الخميس، بوجود محاولة قرصنة للمواقع الحكومية والإدارية، مطمئنا الكينيين بأن القراصنة لم يخترقوا أي بيانات.
وقال الوزير إن نظام الحماية الذي تعتمده الحكومة محصّن ولا يمكن اختراقه، وإنهم يعملون على إعادة الخدمات الإلكترونية.
من ناحيتها، اضطرت وزارة الخارجية الكينية للعودة إلى نظام تأشيرة الدخول إلى كينيا عند الوصول والإلغاء المؤقت لنظام التأشيرات الإلكترونية بسبب ما سمّته “مشكلة فنية”، مؤكدة أنها تسعى لتجاوز هذا الإشكال سريعا.
وفي حديثه مع الجزيرة نت، قال الخبير السيبراني الكيني فرانسيس جيكارو، إن القطاع الخاص وبعض الأنظمة الحكومية التابعة للسلطة التنفيذية نجحت في صد هذه الهجمات، بينما فشلت قدرات أغلب الخدمات الحكومية في التصدي لها.
لذا، يعتقد جيكارو أن أول خطوة يجب أن تتخذها الحكومة بعد تجاوز هذا الإشكال هي إنشاء سياسة للأمن السيبراني وتطبيقها، وأفضل طريقة لذلك هي التعاون مع مجموعة من الشركات المختصة وهيئة الاتصالات، لأن ذلك سيضمن وجود بناء مستمر للقدرات وفرق استجابة جاهزة.
أي دور للحكومة السودانية في هذه الهجمات؟
استبعد فرانسيس جيكارو أي علاقة بين هذه المجموعة والحكومة السودانية. وقال “أتيحت لي الفرصة لإلقاء نظرة على المجموعة التي تبنت هذه الهجمات. ورغم أنهم يطلقون على أنفسهم أنونيموس السودان، فلا يبدو أنها مجموعة مقيمة هناك. كما يبدو أنها عملية قرصنة أكثر من كونها هجمة ترعاها الحكومة”.
من ناحية أخرى، يشير الصحفي الخبير في الشؤون الأفريقية نوي ميشالون، مراسل صحيفة أفريكا إنتليجنس في شرق أفريقيا، إلى غياب أي تصريحات من المسؤولين السودانيين تدعم أو ترحب بالهجوم الإلكتروني على الأنظمة الكينية. كما أن المجموعة، لم تتخذ موقفًا -معلنا على الأقل- سابقا من الحرب الأهلية.
لذلك، يرى ميشالون أنه لا يزال من السابق لأوانه ربط “أنونيموس سودان” فعلا بالصراع الدائر هناك أو بالتوترات بين الحكومة الكينية والسودانية.
ارتفاع حدة التوتر
جاءت الهجمات السيبرانية والتي زعمت مجموعة “أنونيموس السودان” أنها رد على تدخل الرئيس الكيني وليام روتو في الشؤون السودانية، بعد تصاعد حدة التوتر بين مجلس السيادة السوداني وكينيا.
وكان عضو مجلس السيادة السوداني الفريق ياسر العطا، وصف الرئيس الكيني بـ”المرتزق”، ودعاه للمواجهة العسكرية مع الجيش السوداني، كرد على اقتراح روتو إرسال قوات من شرق أفريقيا لحفظ السلام في السودان. وأكد العطا أن هذه القوات لن تعود سالمة إلى ديارها إذا دخلت البلاد التي تشهد اضطرابات منذ أكثر من 100 يوم.
من ناحيتها، رفضت كينيا على لسان وزير خارجيتها ألفريد موتاوا، الرد على هذه التصريحات، مؤكدا أن بلاده لم تتأكد من صحة الفيديو المنشور، وأنها لا يمكن أن ترد على مقاطع متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي.
إلا أن المستشارة الأمنية للرئيس الكيني مونيكا جمعة، حذّرت في حديث لها مع صحيفة “ذي ناشيونال” الأميركية، من أن الحرب الجارية في السودان تخاطر بالتصعيد وزعزعة الاستقرار في المنطقة إذا لم يتم إيجاد حل قريبًا.
وقالت مونيكا جمعة إن هذا هو سبب إصرار حكومتها على التدخل في الصراع الدائر في السودان، وإن “هذه ليست مشكلة السودان فقط، بل تؤثر على مساحة شاسعة من أفريقيا داخل منطقة الساحل”.
وساطة مرفوضة
وتصاعد التوتر بين الطرفين منذ رفض مجلس السيادة السوداني مقترح الإيغاد بترؤس كينيا للمفاوضات لإيجاد حل للصراع السوداني، بسبب اتهامات السودان لكينيا بدعم قوات الدعم السريع، إلا أن الحكومة الكينية رفضت مرارا هذه الاتهامات، واعتبرتها عارية من الصحة مؤكدة حيادها التام بين طرفي النزاع.
وفي هذا السياق، اعتبر الصحفي ميشالون، أن “النبرة العدائية للغاية” في تصريحات المسؤولين السودانيين والكينيين تجاه بعضهم بعضا تقوّض أي محاولة للوساطة من طرف الرئيس روتو، والتي سبق أن رفضها البرهان.
وقال ميشالون إنها ليست المرة الأولى التي يتبادل فيها ممثلو البلدين تصريحات حادة خارج القنوات الدبلوماسية الرسمية، لكن اللافت للانتباه أن التصريحات بين الدبلوماسيين تبدو أكثر اعتدالًا، وهو ما يشجع وليام روتو لمواصلة تقديم نفسه كوسيط.
مصالح كينيا
واستبعد ميشالون أن تتخذ هذه التصريحات منحى تصعيديا جديدا. وقال “حتى لو توقعنا تصريحات معادية جديدة من المسؤولين في البلدين، فإنني أشك في أن المواجهة ستتخذ شكلاً أكثر حدة”.
وفيما يخص مستقبل العلاقة بين البلدين خصوصا بعد تصريحات عطا والهجوم السيبراني، أكد الصحفي الكيني أن ذلك سيعتمد إلى حد كبير على نتيجة الاشتباكات السودانية التي من المرجح أن تكون طويلة ودموية.
ولا توجد بين كينيا والسودان حدود مباشرة، وبينهما علاقات تجارية معتدلة. وطالما لم يتم إثبات مشاركة المسؤولين السودانيين في الهجوم الإلكتروني يظل الحوار ممكنًا في مختلف المجموعات التي هم أعضاء فيها، ولا سيما “إيغاد” و”مبادرة حوض النيل”.
أما على المدى الطويل، وبغض النظر عن الاتجاه الذي سيتخذه النزاع، يقول ميشالون إن كينيا مهتمة بتنمية علاقاتها مع السودان؛ فالسياسة الخارجية الكينية تسترشد أساسًا بمصالحها الاقتصادية والتجارية، خاصة مع دول شرق أفريقيا، لزيادة الصادرات بشكل أساسي، لكن نجاحها سيعتمد إلى حد كبير على القيادة السودانية وتصورها لمستقبل العلاقة مع كينيا.
المصدر : الجزيرة