بعيون غائرة ومآق يلفها الحزن والوجع، تحتضن (س. م) طفلة تبلغ عامين من العمر، داخل إحدى مدارس وادي حلفا التي وصلتها للتو، بعد أن كان اليوم الأول للطفلة (مآب) مزيجاً من الشعور بشيء من الأمان والخوف مما هو مقبل، لكن بكاءها الذي لم ينقطع طوال الليل، كشف عن صعوبات هائلة تواجهها في النوم توجساً من رعب دوي القصف المدفعي والجوي الذي ظل يحاصرها من الخرطوم.
مأساة (مآب) مع الحرب في السودان أنها فقدت والديها دفعة واحدة في قصف عشوائي قبل الفرار بثلاث ليال، لتضمها خالتها (س. م) إلى أسرتها في رحلة الفرار إلى مصر، بعد أن سرقت الحرب مثل أطفال آخرين حياتهم الأسرية ومهدهم الدافئ، وبعثرت طفولتهم بين المنافي وحولتهم إلى أيتام ولاجئين في آن واحد.
مع كل يوم من أيام الحرب المحتدمة بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” التي دخلت شهرها الرابع، من دون أفق لحل يوقفها، تتضاعف معاناة الأطفال الذين يدفعون الثمن الأكبر للقتال المستعر، على رغم كل التحذيرات والمطالبات الإقليمية والدولية بحماية حقوق الإنسان والقوانين الإنسانية.
أرقام مرعبة
في وقت سابق، حذرت منظمات دولية من أن المعارك الدائرة في السودان تحصد أرواح أطفال بأعداد مرعبة، مبينة أن تقاريرها تفيد بمقتل 190 طفلاً وإصابة 1700 آخرين بجروح، خلال أول أسبوعين من القتال بمعدل سبعة أطفال بين قتيل وجريح على رأس كل ساعة، بواقع أكثر من 17 طفلاً في اليوم.
المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، جيمس إلدر، نبه إلى عمق مأسوية وضع الأطفال خلال الحرب السودانية، موضحاً أن الوضع حالياً بات أسوأ وأكثر إخافة مما توقعته المنظمة العالمية لرعاية الطفولة.
أمام الصحافيين في جنيف قبل نحو أقل من شهر، قال إلدر “تماماً كما كنا نخاف ونخشى، فقد أصبح الوضع في السودان قاتلاً بشكل مخيف لعدد كبير من الأطفال”، متوقعاً أن يكون الواقع الفعلي أسوأ من ذلك بكثير.
صدمة الملايين
الأمين العام للمجلس القومي للطفولة في السودان، عبد القادر أبو، قال في حديثه لـ”اندبندنت عربية”، إن هناك 14 مليون طفل على مستوى السودان في المناطق المتأثرة المختلفة، يعانون بشدة من صدمة الحرب التي شكلت هزة قوية لهم في جميع ولايات البلاد، بخاصة في الخرطوم ودارفور، موضحاً أن هناك ما بين (2.5 إلى ثلاثة ملايين) طفل سوداني في حالة جوع.
“أبو” ذكر أن الطفولة استأثرت بالنصيب الأكبر من ويلات وأهوال الحرب، سواء على مستوى ولاية الخرطوم أو في دارفور عموماً ومناطق الجنينة بغرب دارفور ونيالا في جنوب دارفور على وجه الخصوص، حيث الأعداد الكبيرة من موجات وحركة نزوح الأسر مع أطفالها داخل الحدود أو باللجوء إلى دول الجوار خارج الحدود.
وزاد “أنه إلى جانب تلك المناطق تمتد معاناة الأطفال أيضاً إلى ولايات أخرى في الوسط والشمال تستضيف آلاف الأسر مع أطفالها، كالجزيرة والشمالية ونهر النيل وسنار والنيل الأزرق، وكلها تأثرت بمشكلات ومضاعفات النزوح لكن الأثر الأصعب وقع على الطفولة في تلك المناطق”.
معاناة شاملة
باتت المعاناة شاملة لجميع نواحي متطلبات حياة الأطفال من تعليم وصحة وأدوية – وفقاً لعبد القادر أبو – لافتاً إلى ضعف هذين القطاعين على المستويات والفئات العمرية كافة الممتدة من مستوى الروضة وحتى الصف الثاني الجامعي، وجميعهم في حاجة ماسة إلى العون والدعم من المنظمات والدول الصديقة والشقيقة على المستويين الإقليمي والدولي.
يعتب أبو، على ضعف التفاعل الإنساني الذي وصفه بأنه لم يكن بحجم المعاناة أو بالزخم المطلوب المفروض المتماشي مع حجم المأساة التي يعيشها أطفال السودان جراء هذه الحرب، مشيراً إلى أن المنظمات الإنسانية المهتمة والعاملة في المجال، لم يكن تجاوبها بالشكل القوي المطلوب لإحداث اختراق واضح في جدار الحرب من أجل إنهاء معاناة أطفال السودان المتفاقمة بسبب القتال على النحو الذي ظللنا نشهده في كل من أوكرانيا وقبلها فلسطين مثلاً، فعديد من كوادر المنظمات الأجنبية سافروا وتركوا الأمر للكوادر الوطنية التي أصبحت تكافح وتكابد لوحدها في ظل توسع المعاناة مع استمرار الحرب يوماً بعد يوم.
رمياً بالرصاص
على الصعيد نفسه، يبدي المتخصص السوداني في مجال حقوق وحماية الطفولة عادل الأمين يحيى، مخاوفه الشديدة من أن استمرار الحرب وتمددها إلى ولايات دارفور والنيل الأزرق وشمال وجنوب كردفان يعني بالضرورة موت أعداد أكثر من الأطفال، بخاصة في بعض مناطق دارفور التي تتواتر أنباء مفجعة بناءً على روايات ومشاهدات بعض من الفارين من الحرب لعشرات الأطفال وهم يقتلون رمياً بالرصاص.
واعتبر أن استمرار الحرب أكثر من ذلك، يعني ببساطة القضاء على أي مستقبل كان ينتظر لمن بقي على قيد الحياة من أطفال السودان، الذين تتفاقم معاناتهم أكثر في ظل حرمان يكابدونه أصلاً في الحصول على الحد الأدنى من حقوقهم في الرعاية الطبية والتعليم.
وتابع، “ظلت الحرب منذ شراراتها الأولى تزيد على نحو متصاعد من الصدمات التي تتلقاها فئة الأطفال الذين يشكلون أكثر من 40 في المئة من تعداد سكان البلاد البالغ أكثر من 45 مليون نسمة، وفق آخر إحصاء رسمي، وهي صدمات تمس مختلف تفاصيل حياتهم في المجالات الصحية والتعليمية والنفسية”.
فظائع مهولة
يشير المتخصص السوداني في مجال حقوق وحماية الطفولة، إلى أن معظم الأطفال في مناطق الحرب قد تعرضوا لمعدلات رهيبة من الرعب بالنظر إلى أعمارهم وتجاربهم التي لم يشهدوا خلالها مثل تلك الفظائع من قبل، ما تسبب في هزات نفسية كبيرة لقطاع واسع ممن يمكن إطلاق “أطفال الحرب” عليهم، الذين أمضوا الأسابيع الأولى وسط نيران القتال والمعارك، وباتوا يعانون الرعب النفسي والكوابيس والهلوسات والوساوس.
عادل الأمين يحيى، ذكر أنه بخلاف التداعيات النفسية والاجتماعية، فإن الأطفال الموجودين في الخرطوم ومناطق المعارك الأخرى معرضون لخطر مخلفات المقذوفات غير المتفجرة الناتجة من اندلاع الاشتباكات وسط الأحياء السكنية وهي تشكل غاية الخطورة على الأطفال ويجب على السلطات والمنظمات المعنية التعامل الفوري معها بالسرعة المطلوبة.
وفي ولاية جنوب دارفور، اتهمت قيادة الفرقة 16 مشاة بالجيش السوداني في مدينة نيالا عاصمة الولاية، بعض القيادات الأهلية بالتورط في تجنيد أطفال قصر للقتال في صفوف قوات “الدعم السريع”.
وأعلنت الفرقة، عن اعتقال عناصر من “الدعم السريع” بينهم أطفال قصر تم تجنيدهم من قبل عُمد بعض القبائل للقتال، ووثق فيديو نشرته وسائل إعلامية إفادات للمقبوض عليهم بأن أسباب التجنيد الحصول على الأموال والمرتبات بحسب حديث عمد القبائل لهم.
الفرقة 16 طالبت الصليب الأحمر بتسلم الأطفال الموقوفين وتسليمهم إلى أهاليهم، مناشدة قوات “الدعم السريع” وعمد ومشايخ القبائل بالعودة إلى صوابهم ووقف تجنيد هذه الفئة العمرية وعدم الزج بهم في المعارك.
موت ومناشدات
في شمال كردفان، قال أمين مجلس رعاية الطفولة بالولاية، عبد العظيم ضو البيت، إن 26 طفلاً قتلوا أثناء الحرب، فضلاً عن إصابة 106 أطفال آخرين، مبيناً أن عدد الأطفال داخل معسكرات النزوح بمدينة الأبيض فقط بلغ خمسة آلاف طفل، في حاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية.
في محاولة لمعالجة تردي الأوضاع الأمنية واستعادة الهدوء والاستقرار بعد سلسلة هجمات سابقة شنتها قوات “الدعم السريع” على عاصمة الولاية مدينة الأبيض، أعلن والي شمال كردفان المكلف، عبد الخالق عبد اللطيف، حالة الطوارئ وحظر التجوال بعد تزايد أعداد الضحايا المدنيين متجاوزاً 350 قتيلاً و900 جريح، كما حظر استخدام الدراجات النارية داخل المدينة.
في إطار الاستجابة لحالة الطوارئ في السودان، أعلن صندوق (التعليم لا ينتظر) وهو صندوق الأمم المتحدة العالمي المعني بالتعليم في حالات الطوارئ والأزمات الممتدة، أمس الجمعة، عن تخصيص خمسة ملايين دولار تمويلاً جديداً مخصصاً للتعليم في السودان، كمنحة للاستخدام بواسطة منظمتي إنقاذ الطفولة و”اليونيسف” بغرض مساعدة 86 ألف فتاة وصبي في سن الدراسة مدة عام في كل من ولايتي غرب دارفور والنيل الأبيض.
ويركز الصندوق على الأطفال المتأثرين من النزاع، بالتركيز على تحسين الوصول إلى تعليم جيد وشامل وملائم للأطفال ومراع للاعتبارات الجنسانية، مطالباً المانحين والقطاع الخاص والمؤسسات الخيرية بسرعة حشد مزيد من التمويل للسودان الذي تجاوز إجمالي التمويل المخصص له الآن 28 مليون دولار.
الرعب اليومي
إلى ذلك، قالت منظمة العفو الدولية إن المدنيين في كل أرجاء السودان يعيشون رعباً يومياً لا يمكن تصوره نتيجة الحرب، مشيرة إلى تفشي جرائم الحرب، ومقتل مدنيين في هجمات متعمدة وعشوائية. وطالبت في الوقت نفسه بتوسيع نطاق حظر الأسلحة المطبق على السودان.
وأشارت الأمين العام لمنظمة العفو الدولية أنيس كالا مار، إلى تعرض عشرات النساء والفتيات، ممن لم تتجاوز أعمار بعضهن 12 سنة، للاغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي بأيدي متحاربين من الطرفين، لافتة إلى أن ثمة أشخاص يقتلون في منازلهم أو أثناء بحثهم اليائس عن الطعام والماء والدواء، ويطلق عليهم النار بشكل متعمد أثناء فرارهم.
كانت الحرب المندلعة في السودان بين الجيش وقوات “الدعم السريع” منذ منتصف أبريل (نيسان) الماضي، خلفت كارثة إنسانية متفاقمة، وبات على أثرها 24 مليون سوداني في مهب الجوع والحاجة إلى تدخل إنساني عاجل بينهم 14 مليون طفلاً، كما أجبرت بحسب المنظمة الدولية للهجرة، أربعة ملايين شخص على الفرار من ديارهم، ما بين لجوء أكثر من 926 ألف شخص إلى كل من (مصر وليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا)، ونزوح 3.02 مليون شخص داخلياً.
المصدر: اندبندنت عربية