حزام السودان: إنها الفتنة الإثنية الكبرى

(1)
ماذا لو قُيّضَ لطه حسين، ويكتب له الله، والذي بيده الأعمار، عمراً ليشهد معنا ما نشهد من هذه الفتنة الماثلة في ساحات القارّة الأفريقية، والتي أشعلها أقوام في “حزام السودان” عن قصدٍ وعن ترصّد؟
ذلك حزام تاريخي تجاهلوه، لينتقي أصحاب الغرض اسماً بديلاً له، حزام “الساحل والصحراء” الذي يمتدّ جنوب الصحراء الكبرى، من سواحل البحر الأحمر شرقي القارّة الأفريقية إلى غربيها عند سواحل المحيط الأطلسي. أتُرى، سيكتب العميدُ أثراً ثانياً عن فتنة كبرى جديدة، تجري أمام أعين المجتمع الدولي، هي الفتنة الإثنية في حزام السودان، على غرار منجزه الفكري الرّصين عن الفتنة الكبرى، التي هزّت الدولة الإسلامية والخلافة الراشدة، عند اعتلاء الإمام علي سدة الخلافة، بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفّان، ثُمّ انقسام الأمّة التي أجمعت على أنها الفتنة الكبرى؟
(2)
نار الانقلابات العسكرية زاد أوارها في إقليم حزام السودان التاريخي، فاندلعت من الانقلاب العسكري في دولة السودان، ليصل لهيبها إلى دولة تشاد بمقدار، ثم إلى بوركينا فاسّو ومالي والنيجر، فكأنّ حزام السودان قائمٌ على هشيم جافّ جاهز للاحتراق، وليس على ثروات من الطبيعة، قوامها مياه وزراعة ومعادن وذهب ونفط. هي نار تشابه في اندلاعها تلك النيران التي التهمت غابات أوروبا وأستراليا وأميركا، فعملت قدرات الإطفاء على التقليل من أخطارها، ولكن أمكن احتواؤها بفعالية قليلة.
ها نحن نرى أن نيران الانقلابات العسكرية في أنحاء القارّة الأفريقية بات أمرُها محيّراً عند أهلها الأفارقة، مثلما عند المنظمّات الدولية والإقليمية… لا يستقيم النظر إلى حال ذلك الإقليم إلا باستبصار خلفية تاريخه وجغرافيته، وعبر قرون انطوت، وليس عقوداً أو سنوات قصيرة. هو حزام السودان الذي تمازجت فيه ملامح العقيدة الإسلامية بلسانها العربي مع الحضارات الأفريقية القديمة، ومناطق غربي القارّة، على فترات بعيدة. من دون الولوج إلى زيارة التاريخ لتفاصيل أكاديمية محضة زائدة، نشير إلى أن طرق (ومسارات) الهجرات الإسلامية وتغلغلها في أعماق ذلك الإقليم وأطرافه، والتي امتدّت من الشرق عند سواحل البحر الأحمر، لتشمل مساحاتٍ شاسعة مِن الصحراء الكبرى، إلى سواحل أفريقيا الغربية المطلّة على المحيط الأطلسي، هي التي أنتجتْ ذلك التمازج والتداخل بين عناصر عربية وافدة وأخرى أفريقية مقيمة. يتبين في الأطراف الشمالية من ذلك الحزام وضوح أثر العنصر العربي، والذي تضمحلّ تجلياته في السّحنات والملامح واللسان في الأطراف الجنوبية من حزام السودان، فيضعف الأثر العربي، إلا أنّ انتشار الأثر الإسلامي على المذهب المالكي قد تمدّد وانتشر إلى معظم أنحاء حزام السودان. ولنا أن نلاحظ أثراً للطقوس الأفريقية القديمة في الأذكار والممارسات الصوفية، ما ميّز أكثر المجموعات الإثنية على تنوّعها في ذلك الحزام، ولها جذور تاريخية وثيقة الصلة بانهيار الدولة الأموية في الأندلس، والنزوح العكسي إلى أقاليم الشمال الأفريقي، ونشوء دويلات الطوائف التي سادتْ في أنحائه.

قاسم أقوياء الاستعمار أراضي الضعفاء، والاستعمار في التوصيف اللغوي، هو السيطرة على الأرض والبشر

(3)
جرى التمازج بين العنصرين، العربي والأفريقي، على مدى قرون، بلُحمة أكثر وضوحاً ويمثلها اللسان العربي في الإقليم الشمالي من ذلك الحزام في دول مثل السودان، ومناطق الجنوب في كلٍ من ليبيا، والجزائر، وتونس، والمغرب، وموريتانيا، والصحراء الغربية، ثم أقصى جنوبي الصحراء الكبرى: مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتشاد، وأطراف من نيجيريا، والسنغال، وغينيا. يقل اللسان العربي كلما توغّلنا جنوبي الصحراء الكبرى، لتبقى الفرنسية لغة المستعمر، هي الغالبة في البلدان الواقعة في الجزء الجنوبي للحزام السوداني، فلا تجد انتشاراً للسان العربي في تلك الأنحاء، إلا في تلاوة القرآن وفي قاعات المدارس الدينية. هي لغة العبادات والطقوس الدينية، لا لغة التواصل والتخاطب اليومي بين عامّة الناس هناك. أما النشاط الاقتصادي فقد تميّز بحراك البدو مع أنعامهم في أنحاء حزام السودان وراء الكلأ والماء. زاد التصحّر والجفاف في العقود الأخيرة من ترحلهم شرقاً وغرباً، مع ما يجبرهم ذلك التجوال على التوغّل في أراضي المقيمين، والذين كسب عيشهم هو الزراعة لا الرعي.
(4)
لم تفطن القوى الاستعمارية الكولونيالية، وهي تهجم بعد مؤتمر برلين عام 1884 الذي قنّن ظاهرة التدافع نحو قارة أفريقيا ورسّخها، إلى طبيعة التكوينات الاجتماعية والاقتصادية لسكّان “حزام السودان”، فقد تقاسم أقوياء الاستعمار أراضي الضعفاء، والاستعمار في التوصيف اللغوي، هو السيطرة على الأرض والبشر. لقد أسفر مؤتمر برلين في أوروبا وبرعاية مستشار ألمانيا الأسطوري، بسمارك، أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، عن تقاسم المستعمرات من أراضي الأفارقة، قسمة ضيزى، وإنْ رأوها في حساباتهم قسمة عادلة. لعلّ حالة الإدارة البريطانية، حين استعمروا الهند ونيجيريا والسودان وسواهم في أنحاء أفريقيا وآسيا، كانت تصدُر عن عقيدة الاستعمار الكولونيالي الموصوفة بتعبير الشاعر البريطاني كيبلينغ: “عبء الرّجل الأبيض”، والتي عكستْ ضمناً إعلاء وهْمِ مركزية تفوّق الحضارة الغربية، بما يوفر ذلك المبررّ الأخلاقي لاستدامة ظاهرة الاستعمار الكولونيالي.

بعد القضاء على الاستعمار، ونيل معظم الدول الأفريقية استقلالها، برزتْ صراعات الحدود واستشرت بين الدول الأفريقية

(5)
المكتشفون القادمون من أوروبا إلى تلك الأصقاع الأفريقية في سنوات لاحقة هم من فطنوا إلى بعض مظاهر لنشاطات وأنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية، بعكسِ المزاعم الاستعمارية التي تختصر وصف سكان تلك الأصقاع بالبدائية. أمّا حين جاء علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا إلى القارّة الأفريقية، وأجروا دراسات ميدانية معمّقة على شعوبها، تبين خطل هذه الادعاءات المزيفة. مثل تلك الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية هي التي توصلت، برصانتها الأكاديمية، إلى أن القوى الاستعمارية أخطأت في اعتمادها تقاسماً عشوائياً فيما بينها لمناطق القارّة الأفريقية، وفصّلت دويلاتٍ صارت مستعمراتٍ لها، ورسمت حدودها السياسية، في عجلة تجاهلت فيها واقع المجتمعات الأفريقية. لقد أفضى ذلك الاقتسام إلى شطر القبيلة الواحدة مثلاً إلى نصفين، واحدة في دولة وأخرى في دولة ثانية، وصار العرق الإثني الواحد، متنازعاً بين دولتين، والنشاط الاقتصادي القائم في بيئة واحدة بات موزّعاً بين دولتين مستعمرتين. كانت عيون الطامعين على نهب ثروات القارّة البكر، لا استنهاض شعوبها.
(6)
هكذا وبعد القضاء على الاستعمار، ونيل معظم الدول الأفريقية استقلالها، أواسط القرن العشرين، برزتْ صراعات الحدود واستشرت بين الدول الأفريقية. انظر إلى أزمة مثلث حلايب بين مصر والسودان، ومثلث أوزو بين ليبيا والسودان وتشاد، ومثلث أليمي بين كينيا وجنوب السودان، وحزام الزاندي بين جنوب السودان والكونغو. أما الصحراء الغربية فهي المثل الأكبر لصراع امتدّ عقوداً طويلة وما زال معلقاً.

واجهتْ معظم الشعوب الأفريقية ضعفاً واضحاً، حين تولّتْ إدارة بلدانها، عشية الاستقلال، نخبٌ واهنة الإرادة

في مرحلة تالية، وبعد القضاء على الاستعمار، شرع الأفارقة في إكمال استقلالهم، بالقضاء على التشتت الذي أحدثه الاستعمار قبل أكثر من قرنين، فأنشأوا منظمة في عام 1963، أسموها منظمة الوحدة الأفريقية، تحوّلت أوائل تسعينيات القرن الماضي إلى الاتحاد الأفريقي القائم حالياً. وحمل الحالم الأكبر رئيس غانا المستقلة، كوامي نكروما، حلمه، مقترحاً على بلدان القارة أنْ تتّحد في دولة واحدة. حلم صعب التحقيق، إذ من الطبيعي ألا يرغب الأقوياء من قدامى المستعمرين أن يحقق الأفارقة حلماً، هو الكابوس الذي سيُبعدهم عن موارد القارّة البكر وثرواتها من النفط والذهب واليورانيوم. لن يعجز أقوياء الاستعمار القديم من التسلل الخفي لحماية مصالحهم تلك، باستعمال فزّاعة الإرهاب الدولي مرّة، أو فزّاعة الانقلابات العسكرية مرّات، سلباً أو إيجاباً، قصد التحكّم في أحوال القارّة الأفريقية.
(7)
واجهتْ معظم الشعوب الأفريقية ضعفاً واضحاً، حين تولّتْ إدارة بلدانها، عشية الاستقلال، نخبٌ واهنة الإرادة، أمام أقوياء مصمّمين على إبقاء شعرة معاوية مع مستعمراتهم السابقة، لكنها لم تكن شعرة، بل حبالاً قيّدوا بها حراك أكثر البلدان الأفريقية، ولم تسلم بلدان “الحزام السوداني” من أطماعهم.
ها نحن نشهد كيف صار ذلك الحزام في هذه الآونة حزاماً لانقلابات عسكرية. انهار نظام الإنقاذ في السودان بانتفاضة شعبية، ثم وقع انقلاب عسكري في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، من جنرالات تماهوا بمكرٍ مع تلك الانتفاضة. أما في تشاد فقد وقع تغيير في السلطة، بما يشبه الانقلاب في تشاد. ولم تسلم بوركينا فاسو، ولا مالي، ولا النيجر، من انقلاب عسكرييها على حكوماتهم، غير أن الأجيال الناهضة في مثل تلك الدول صبّت لعناتها على النّخب التي تولت إدارة بلدانهم، بعد خروج المستعمر، ولكن من يمعن النظر ملياً سيرى أن الأمر ليس تجاذباً بين نخبٍ تتصارع داخل بلدان الحزام السوداني، بل هي أصابع الأقوياء، أو هي أيديهم وأذرعهم بكاملها، تتصارَع في السّاحات الأفريقية، وفي جيوب كلٍّ منها أجندات ساخنة، ومصالح لا يفصح عنها علانية. من يدفع فواتير الاضطرابات نهاية الصراعات، الشعوب الأفريقية المغلوبة على أمور قادتها.
(8)
إنْ أردت مثلاً صارخاً أمامك لغُلبِ شعوب القارة، فإنَّ ما يدور في السودان من حربٍ قضتْ وتقضي، على أخضر السودان ويابسه وبُناه التحتية ومقوّمات نهضته، ناهيك عن الخسائر البشرية الفادحة، هو ما يريك شرَّ الانقلابات العسكرية وعبث الأصابع الأجنبية بها حرصاً على مصالحها الضيّقة.

قدمت قبائل ناصرت قوات حميدتي في حربه السودانية، من أقاصي مالي والنيجر، لتمارس ما يشبه الإبادة الجماعية لقبيلة المساليت

لعلَّ من أفدح ما ترك المستعمر تناقضات في نسيج كلِّ بلد أفريقي خرج منه، وبذوراً حية للصراعات. أفضى التناقض الذي صنعوه بين شمال السودان وجنوبه، وبما يشبه المؤامرة، إلى انفصال جنوب السودان إلى دولة لحالها. أمّا الأزمة في دارفور، فإنها تستعر لتبايناتٍ بين أعراقٍ من وافدين ورحّل، تمتهن الرعي، وأعراقٍ أخرى مقيمة في أرضها، تمتهن الزراعة. وهذا واقع يسهل معه إشعال الفتنة عبر تنافس ساخن واختلاف محتدم، بينَ منشطين اقتصاديين في بيئة واحدة. قد يتحوّل معه ذلك التناقض إلى صراع عِرقي وإثنيٍّ، يتصاعد اختصاراً بينَ “عرب بيضان” و”زرقة”، والزُّرقة صفة بلهجة السودانيين للسّواد، لكأنك ترى معي أن هجران اسم “حزام السودان” قد تمّ، ربما، لشبهة إسقاطات عنصرية منفرّة.
(9)
تورّطت في الأزمة الطاحنة في إقليم دارفور بشكل كامل غربي السودان، ومنذ سنوات طويلة، جيوبٌ من مجموعات عرقية، لها امتداداتٌ قبلية وعرقية مع قبائل في دارفور، تناصر بعضها بعضاً، فيكاد الصراع أن يصير وجهاً قبيحاً لصراع بين “زرقة”، أي أفارقة ذوو سحنات سوداء، و”عرب بيضان”، وهم ذوو سحناتٍ سمراء، أو أقلّ سواداً من “الزرقة”. إنه صراعٌ مرشحٌ للتصعيد في حزام السودان كله. قَدِمت قبائل ناصرت قوات الجنرال حميدتي في حربه بالسودان، من أقاصي مالي والنيجر لتمارس ما يشبه الإبادة الجماعية لقبيلة المساليت، المقيمة في أراضيها الزراعية التاريخية في دارفور، أقصى غرب دولة السودان، منذ مئات السنين.
الخشية كل الخشية أن تتفاقم اضطرابات الحزام السوداني في داخله، مع تصاعد التدخّلات من خارج القارّة ليتحوّل بالفعل إلى حزام انقلابات عسكرية عن جدارة، فتتخذ التحالفات الطائفية والإثنية بُعداً خطراً، تشتعل معه الفتنة الإثنية الكبرى في الساحة الأفريقية، فيما يتهيّأ المحرِّضون الكبار خفيةً لاقتسام الثمرات الغالية، ولا يظهر الطامعون الكبار، بل وكلاؤهُم من نوع “بلاك ووتر” و”فاغنر” هم من يقومون بالمهمة الكريهة نيابة عنهم.

العربي الجديد

Exit mobile version