كشف عن ذلك الكاتب الصحفي تيد سنايدر في مقال له بـ “المحافظ الأمريكي” The American Conservative، أشار فيه إلى ثلاث محاولات منفصلة للمفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، قدّم فيها الطرفان تنازلات معقولة واقتربت إحداها (في إسطنبول) إلى حد التوقيع على تسوية سلمية بين الطرفين المتصارعين، إلا أن الولايات المتحدة أوقفت المفاوضات الثلاث.
المفاوضات الأولى: بيلاروس
في 25 فبراير 2022، وبعد يوم من بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة، أعرب الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي عن استعداده للتخلي عن مسعى بلاده للحصول على عضوية “الناتو”، وأعلن كذلك أنه لا يخشى التفاوض بشأن الحياد والضمانات الأمنية مع موسكو. كان هذا التنازل بمثابة العلامة الأولى على أن كل من أهداف روسيا وأوكرانيا قد تتحقق، وأن الحرب يمكن أن تنتهي بتسوية دبلوماسية.
من المرجح أن يكون تنازل زيلينسكي آنذاك بسبب عاملين: العامل الأول هو قوة العملية العسكرية الروسية نفسها، والثاني هو تصالحه مع عدم احتمال موافقة “الناتو” على طلب أوكرانيا بالانضمام. وصرح زيلينسكي حينها: “لسنا خائفين من التحدث على روسيا. لا نخشى أن نقول كل شيء عن الضمانات الأمنية لدولتنا. لا نخشى الحديث عن الوضع المحايد. نحن لسنا في الناتو الآن.. نحتاج للحديث عن نهاية هذا الغزو. نحن بحاجة للحديث عن وقف لإطلاق النار”.
كذلك قال مستشار الرئيس الأوكراني ميخائيل بودولياك: “إن أوكرانيا تريد السلام ومستعدة للمحادثات مع روسيا، بما في ذلك حول الوضع المحايد فيما يتعلق بحلف الناتو”، وقال كذلك لـ “رويترز”، 25 فبراير 2022: “إذا كانت المحادثات ممكنة فينبغي إجراؤها. وإذا قالوا في موسكو إنهم يريدون إجراء محادثات، بما في ذلك بشأن الوضع المحايد، فنحن لا نخاف من ذلك. يمكننا التحدث عن ذلك أيضا”.
في الوقت نفسه، كان زيلينسكي حينها، 25 فبراير، محبطا أيضا من “الناتو”، حيث قال: “سألتهم: هل أنتم معنا؟ أجابوا بأنهم معنا، لكنهم لا يريدون ضمّنا إلى التحالف. لقد سألت 27 من قادة أوروبا حول ما إذا كانت أوكرانيا ستصبح في الناتو، سألتهم مباشرة. كلهم خائفون ولم يردوا”.
في يوم 27 فبراير، وبعد 3 أيام فقط من بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، أعلنت روسيا وأوكرانيا أنهما ستجريان محادثات في بيلاروس. كان الوفد الأوكراني ذاهبا برغبة التفاوض بشأن الحياد. قال زيلينسكي: اتفقنا على أن يجتمع الوفد الأوكراني مع الوفد الروسي دون شروط مسبقة”. بعد الجولة الأولى من المفاوضات، عاد الوفدان إلى الوطن لإجراء مشاورات، بعد أن حددا الموضوعات ذات الأولوية. كان من الأمور المشجعة أنه تم الاتفاق على جولة ثانية من المفاوضات، وقد عقدت تلك الجولة في بيلاروس، على الحدود بينها وبين أوكرانيا، 3 مارس.
ومع ذلك، وعلى الرغم من أن أوكرانيا كانت على استعداد لمناقشة الحياد و”إنهاء العمليات العسكرية”، فإن الولايات المتحدة لم تكن على استعداد لذلك. وفي 25 فبراير، في نفس اليوم الذي أعرب فيه زيلينسكي عن استعداده للحوار، وعدم خشيته من الحديث عن الوضع المحايد، سئل المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس في مؤتمر صحفي حول رأيه في المحادثات بين روسيا وأوكرانيا فقال: “إننا نرى أن موسكو تقترح أن تتم الدبلوماسية عند فوهة البندقية، أو عندما تستهدف الصواريخ وقذائف الهاون والمدفعية الروسية الشعب الأوكراني. تلك ليست دبلوماسية حقيقية. وليست هذه شروط الدبلوماسية الحقيقية”. قالت الولايات المتحدة لا لمحادثات بيلاروس.
وكانت روسيا قد تقدمت، 17 ديسمبر 2021، قبل شهرين فقط من بدء العملية العسكرية، بمقترحات بشأن الضمانات الأمنية لكل من الولايات المتحدة وحلف “الناتو”، تضمنت المطالب الرئيسية بعدم توسع “الناتو” في أوكرانيا وعدم نشر أسلحة أو قوات في أوكرانيا.
وفي 26 يناير، رفضت الولايات المتحدة و”الناتو” تقديم ضمانات مكتوبة بعدم انضمام أوكرانيا إلى “الناتو”، وكشف ديريك شوليت، مستشار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أن الولايات المتحدة قالت لموسكو إن التفاوض على توسيع “الناتو” في أوكرانيا لم يكن مطروحا أبدا على الطاولة، وعلق بوتين ببساطة على أنه “تم تجاهل المخاوف الروسية الأساسية”.
جاء الرد الروسي الرسمي في 17 فبراير 2022، وقال إن الولايات المتحدة و”الناتو” لم يقدما أي استجابة بناءة لمطالب روسيا الرئيسية، وأضافت روسيا أنه إذا استمر الحلف في رفض تزويد روسيا بـ “ضمانات ملزمة قانونا” فيما يتعلق بمخاوفها الأمنية، سترد روسيا بـ “الوسائل العسكرية التقنية”.
بعد ذلك بأسبوع واحد، كانت العملية العسكرية الروسية الخاصة بمثابة الرد العسكري التقني الموعود للولايات المتحدة الأمريكية على عدم تقديم تلك الضمانات. إذا كانت العملية مقصود بها أن تكون بمثابة ضربة سريعة خاطفة بهدف إجبار كييف على التعهد بعدم الانضمام إلى حلف “الناتو”، الذي لم تتمكن روسيا من الحصول عليه من واشنطن، فإنه كان من الممكن اعتبار مفاوضات بيلاروس تحقيقا لهذا الهدف في الأسبوع الأول من العمليات العسكرية، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية وقفت أمام ذلك.
المفاوضات الثانية: نفتالي بينيت
كشفت المفاوضات الثانية عن فرصة جديدة لإنهاء العمليات العسكرية، حيث كان هناك مرة أخرى عرض أوكراني بالحياد، إلا أن الولايات المتحدة وقفت أمامها من جديد، ليتضح نمط السياسة الأمريكية بشأن الأزمة الأوكرانية.
في 6 مارس، وبعد أيام فقط من اختتام المحادثات الثانية في بيلاروس، ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن رئيس الوزراء آنذاك نفتالي بينيت قام بزيارة مفاجئة إلى موسكو للقاء بوتين في محاولة للوساطة. وبعد لقاء بوتين، تحدث بينيت مرتين مع زيلينسكي، كما تحدث مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتوجه إلى ألمانيا لإجراء محادثات مع المستشار الألماني أولاف شولتس.
كانت تفاصيل الاجتماعات شحيحة في ذلك الوقت، إلا أن بينيت كشف عنها في مقابلة بتاريخ 2 فبراير 2023، حيث قال: “اتصل بي زيلينسكي وطلب مني الاتصال ببوتين”، ثم أخبر بينيت الولايات المتحدة أنه “كان يحظى بثقة كلا الجانبين”، وأن لديه “أذن بوتين” وبإمكانه أن يكون قناة اتصال.
أطلقت هذه المحادثات سلسلة من المكالمات الهاتفية المتبادلة بين بينيت وبوتين وبينيت وزيلينسكي. ثم سافر بينيت لعقد اجتماعات في موسكو مع بوتين ثم إلى ألمانيا لعقد اجتماعات مع شولتس، ثم تبع ذلك “ماراثون تفاوضي حول المسودات”.
يقول بينيت: “كل ما فعلته كان بالتنسيق الكامل مع بايدن وماكرون وجونسون وشولتس، وبالطبع زيلينسكي”.
ووفقا لبينيت، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أخبرته بأنه لا فرصة للنجاح، قال له بوتين: “بإمكاننا التوصل إلى وقف لإطلاق النار”. ومن أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار هذا، يقول بينيت إن بوتين قدم “تنازلات ضخمة”. وعندما سأل بينيت بوتين عما إذا كان سيقتل زيلينسكي، أجاب: “لن أقتله”. كما تخلى بوتين عن مطالبة روسيا بـ “نزع سلاح أوكرانيا”.
قدم زيلينسكي من جانبه “تنازلا هائلا”، حيث كان بوتين يشتكي من الوعد الغربي المخالف فيما يتعلق بتوسيع “الناتو”، وطلب من بينيت نقل رسالة إلى زيلينسكي: “أخبرني أنك لن تنضم إلى الناتو، ولن أتقدم”. ويتابع بينيت: “زيلينسكي تخلى عن الانضمام إلى الناتو”.
وبعد أن أعطى الوعد بعدم الانضمام إلى “الناتو”، أراد زيلينسكي ضمانات أمنية، فيما رأى بوتين أن الاتفاقات الأمنية مع القوى الكبرى تعادل الانضمام إلى “الناتو”. اقترح بينيت التخلي عن الضمانات المشابهة للانضمام إلى حلف “الناتو” لصالح تبني أوكرانيا لـ “النموذج الإسرائيلي” وإنشاء جيش قوي ومستقل يمكنه الدفاع عن نفسه. وقد وافق كل من بوتين وزيلينسكي على هذا الحل.
بعد أن فاز بهذه الوعود، سافر بينيت إلى ألمانيا وأطلع شولتس والأمريكيين وماكرون وجونسون على آخر التطورات. تبنى بوريس جونسون الخط العدواني، فيما كان ماكرون وشولتس أكثر براغماتية. أما بايدن، فقد كان كلاهما. قال بينيت: “كانت هناك فرصة جيدة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار”، إلا أن نمط السياسة الأمريكية استمر هذه المرة أيضا، كما حدث في مفاوضات بيلاروس. ويقول بينيت: “اتخذ الغرب قراره (بمواصلة ضرب بوتين)”.
كذلك أفاد الصحفي باراك رافيد من “أكسيوس” بأن التنازلات الروسية تضمنت أن نزع السلاح يمكن أن يقتصر على دونباس، وأنه لن يكون هناك تغيير للنظام في كييف، وأن بإمكان أوكرانيا الحفاظ على سيادتها، وقال زيلينسكي إنه “هدأ” بشأن الانضمام إلى “الناتو” وإنه وجد اقتراح بوتين “ليس بالتطرف الذي توقعه”، إلا أن كل ذلك حجبته الولايات المتحدة الأمريكية.
المحادثات الثالثة: إسطنبول
بعد ذلك، وفي مارس، أوائل أبريل عام 2022، انتقلت الجهود المبذولة في المفاوضات إلى إسطنبول. كانت تلك المحادثات هي أكثر المحادثات المثمرة على الإطلاق، حيث نتج عنها بالفعل تسوية “متفق عليها مبدئيا”. فبحلول 20 مارس كان زيلينسكي قد أدرك بالفعل أن أبواب “الناتو” المفتوحة له لم تكن سوى خدعة، حيث قال لمحاوره في CNN: “طلبت شخصيا من قادة الناتو أن يقولوا مباشرة إننا سنقبلك في الناتو في غضون عام أو عامين أو خمسة. فقط قولوا ذلك بشكل مباشر وواضح، أو قولوا لا فقط. كان الرد واضحا جدا، لن تكون عضوا في الناتو، لكن علنا، ستظل الأبواب مفتوحة”.
في محادثات إسطنبول قدم زيلينسكي وعدا بعدم الانضمام إلى “الناتو”، وفي 29 مارس، قال المفاوضون الأوكرانيون إن كييف مستعدة لقبول الحياد إذا قدمت الدول الغربية مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ضمانات أمنية ملزمة بموجب اتفاق دولي.
ونشرت حينها كل من فيونا هيل وأنجيلا ستنت في مجلة “فورين أفيرز” أنه “وفقا لعدد من كبار المسؤولين السابقين فقد بدا، في أبريل 2022، أن المفاوضين الروس والأوكرانيين قد اتفقوا مبدئيا على الخطوط العريضة لتسوية مؤقتة تفاوضية: ستنسحب روسيا إلى مواقعها في 23 فبراير، عندما كانت تسيطر على جزء من منطقة دونباس وجميع شبه جزيرة القرم، في المقابل، ستتعهد أوكرانيا بعدم السعي للحصول على عضوية الناتو، وبدلا من ذلك ستحصل على ضمانات أمنية من عدد من الدول”.
وقد كشف بوتين مؤخرا عن مزيد من التفاصيل حول الاتفاقية، 13 يونيو الماضي، في إجابته عن أسئلة المراسلين الحربيين في الكرملين، حيث قال: “لقد توصلنا إلى اتفاق في إسطنبول”، ثم كشف عن التفاصيل التي لم يعلن عنها من قبل بأن الاتفاق المبدئي لم يكن مجرد اتفاق شفهي، وإنما أصدرت وثيقة موقعة من الجانبين.
بعد يومين، وفي 17 يونيو، ذهب بوتين إلى ما هو أبعد من ذلك، وفي اجتماع مع وفد من قادة الدول الإفريقية، حاول التوسط في محادثات السلام، قدم بوتين مسودة الاتفاقية بالأحرف الأولى وقال وهو يحمل الوثيقة: “أود أن ألفت انتباهكم إلى حقيقة أنه بمساعدة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، جرت سلسلة من المحادثات بين روسيا وأوكرانيا، من أجل التوصل إلى إجراءات بناء الثقة، وقد تم التوقيع بالأحرف الأولى على مسودة الاتفاقية من قبل رئيس فريق مفاوضات كييف، وهذا هو توقيعه”.
وكشف تقرير صادر عن RT أن الاتفاقية نصت على أن أوكرانيا ستجعل من “الحياد الدائم” سمة من سمات دستورها، فيما ستدرج “روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا والصين وفرنسا كدول ضامنة”.
وكما هو الحال مع مفاوضات بينيت، ورد أن روسيا تخلت عن المطالبة بنزع السلاح الكامل لأوكرانيا، على الرغم من أنه لا تزال هناك فجوة بين مقترحات روسيا وأوكرانيا بشأن تحديد سقف حجم القوات المسلحة الأوكرانية وعدد الدبابات والطائرات وقاذفات الصواريخ.
ويتابع بوتين: “بعد أن سحبنا قواتنا من كييف، كما وعدنا، ألقت سلطات كييف بالتزاماتها في مزبلة التاريخ. تخلوا عن كل شيء”. وألقى بوتين باللوم على الولايات المتحدة، قائلا: “عندما تكون مصالح أوكرانيا غير متوافقة مع الولايات المتحدة، فإن الأمر يتعلق فقط بمصالح الولايات المتحدة، ونحن نعلم أنهم يملكون مفتاح حل المشكلة”.
من جانبه صرح وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو بأن “هناك دول داخل الناتو تريد استمرار الحرب”.
وفي 9 أبريل، اندفع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى كييف لكبح جماح زيلينسكي وأصر على ضرورة الضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وليس التفاوض معه، وأنه حتى لو كانت أوكرانيا مستعدة لتوقيع بعض الاتفاقيات مع روسيا، فإن الغرب لم يكن مستعدا لذلك.
عندما سئل المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكي نيد برايس عما إذا كان زيلينسكي “منفتح على حل دبلوماسي” في مؤتمر صحفي، 21 مارس 2022، أجاب: “إن هذه الحرب التي هي أكبر من روسيا من نواح كثيرة، هي أكبر من أوكرانيا أيضا”.
لقد رفضت الولايات المتحدة تفاوض أوكرانيا مع روسيا لما يحقق مصالحها وأهدافها.
وفي ثلاث مرات منفصلة، حينما كان من الممكن أن تسفر المفاوضات عن اتفاق سلام، قامت الولايات المتحدة بعرقلة تلك المفاوضات لتسمح للحرب بمزيد من الاستمرار والتصعيد، سعيا فيما يبدو وراء المصالح الأمريكية وليس الأوكرانية.
المصدر:rt