الدور الأميركي المتواضع في الأزمة السودانية!

منذ اليوم الأول له بالبيت الأبيض في 20 يناير/ كانون الثاني 2021، عمد الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن على إنفاذ برنامجه الانتخابي.. بمعاونة العديد من مسؤولي الإدارة الأميركية، ويأتي على رأس تلك الأولويات والوعود الانتخابية قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي سبيل إرساء تلك القيم، أو قل الوعود، عقدت الإدارة الأميركية قمتين للديمقراطية، في ديسمبر/كانون الأول 2021، ومارس/آذار 2023، وفي ضوء ذلك لم تتخذ الولايات المتحدة من الخطوات ما يدفع عملية الانتقال الديمقراطي في بلد كالسودان مثلا منذ الإطاحة بنظام “عمر البشير”.

وقد أظهر الموقف -حتى وقتنا هذا- محدودية ما يقوم به الدور الأميركي في هذا البلد، حيث لم تعد الولايات المتحدة هي الفاعل المركزي في السودان بعدما كانت الفاعل الدولي المؤثر في إنهاء الحرب بين شمال السودان وجنوبه لعقود طويلة بتوقيع اتفاقية نيفاشا في يناير/كانون الثاني 2005، ودعم استفتاء انفصال جنوب السودان.
ولم تكن أزمة الانتقال الديمقراطي في السودان أولوية لإدارة الرئيس “جو بايدن”، حيث لم يزره وزير الخارجية الأميركي “أنتوني بلينكن” خلال جولاته المتكررة في أفريقيا على عكس وزراء الخارجية السابقين بالإدارات الأميركية الديمقراطية والجمهورية المتعاقبة (كولين باول، كونداليزا رايس،جون كيري، ومايك بومبيو)، فضلا عن تساهلها في التعامل مع القادة العسكريين السودانيين، حيث لم تفرض عقوبات عليهم رغم مطالب المشرعين الديمقراطيين والجمهوريين بذلك وقد تم ذلك في وقت متأخر من الأزمة، ورغم أن سلاح العقوبات كان هو الخيار الوحيد الذي ظلت تستخدمه الإدارات الأميركية المتعاقبة ضد السودان منذ العام 1997، فقد وقعت الإدارة، أول إجراءات عقابية تُفرض بموجب أمر تنفيذي وقعه الرئيس الأميركي، جو بايدن، في مايو/آيار2023، وتستهدف أكبر مؤسسة دفاعية في السودان، “منظومة الصناعات الدفاعية”، التي قالت وزارة الخزانة الأميركية إنها تحقق عائدات تصل إلى نحو ملياري دولار، وتقوم بتصنيع أسلحة ومعدات أخرى للجيش السوداني.
كما فرضت عقوبات على شركة الأسلحة “جياد”، التي تُعرف أيضا باسم “سودان ماستر تكنولوجي”.

وفرضت واشنطن عقوبات على مجموعة “الجنيد”، وهي على صلة بقوات الدعم السريع، وقالت إنها متورطة في تعدين الذهب، ويسيطر عليها قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، وشقيقه، وكذلك شركة “تريديف” للتجارة العامة، التي قالت إنها شركة واجهة يسيطر عليها شقيق آخر لقائد قوات الدعم السريع، وهي متورطة في شراء مركبات لقوات الدعم السريع.

ويقول وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إن بلاده فرضت قيودا على التأشيرات استهدفت عددا من الأفراد في السودان، من بينهم مسؤولون في الجيش وقوات الدعم السريع وقادة كانوا في حكومة عمر البشير، الذي أطيح به قبل أربع سنوات، ولم يُكشف بعد عن أسماء الأشخاص الذين استهدفتهم قيود التأشيرات، وعد بعض المراقبين أن العقوبات الأخيرة غير مؤثرة، لأنها جاءت متأخرة كما أن معظم الشركات التي شملتها العقوبات لا تعتمد على التكنولوجيا الأميركية.

وقد سمح تراجع الدور الأميركي بالسودان لصعود قوى إقليمية ودولية أخري، ولاسيما روسيا عبر ذراعها الأمنية الطويلة في أفريقيا (شركة فاغنر)، لتعزيز نفوذها ومصالحها في السودان، وهو الذي يتوافق في كثير من الأحيان مع استمرار سيطرة القيادة العسكرية السودانية على مفاصل الدولة السودانية، ويتعارض مع المصالح والرؤية الأميركية بحسب الأولويات الانتخابية المعلنة، وقد أصبحت تلك القوى أكثر حضورا وتأثيرا من الولايات المتحدة في المشهد السوداني وأكثر حماسا في المشاركة لتحديد مستقبل السودان.

وفي ظل تراجع النفوذ الأميركي في السودان، فإن الخيارات أمام إدارة الرئيس “جو بايدن” للتعامل مع الأزمة الراهنة باتت تنحصر في خيارين رئيسيين:

اتباع نهج إدارة الرئيس السابق “دونالد ترامب” في الاستعانة بالقوى الإقليمية والدولية الحليفة للولايات المتحدة الفاعلة في السودان لتنسيق الاستجابة للأزمة السودانية، وللضغط على “البرهان” و”حميدتي” للجلوس على طاولة المفاوضات لإنهاء الاقتتال العسكري، والاتفاق على صيغة تحقق الاستقرار والأمن السوداني، الذي لن تقتصر تأثيراته على الداخل السوداني، ولكن سيكون لها تداعيات إقليمية في منطقة القرن الإفريقي ذي الأولوية الكبيرة لواشنطن، وللنفوذ الأميركي في القارة الأفريقية التي تحولت لساحة منافسة إستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، فقد قال وزير الخارجية الأميركي “أنتوني بلينكن” في 24 أبريل/نيسان 2023 إن الإدارة الأميركية “ستنسق مع شركائها الإقليميين والدوليين والقوى المدنية السودانية للمساعدة في إنشاء لجنة للإشراف على التفاوض لوقف دائم للأعمال العدائية، والترتيبات الإنسانية في السودان، وإبرامها، وتنفيذها”، في إشارة لجهود إقليمية للولايات المتحدة مع المملكة العربية السعودية فيما عرف بـ (منبر جدة) المتعثر حتى الآن، أو من خلال جهود الرباعية الدولية والتي تتمتع الولايات المتحدة بعضويتها مع جهود إيفاد عبر القمتين السابقتين بكل من جيبوتي وأديس أبابا المتعثرتين أيضا.
وبعد العديد من المحاولات للعب دور في الأزمة السودانية، توصلت الولايات المتحدة بدعم من شركائها الإقليميين والدوليين لـ 10 هدن لوقف إطلاق النار من خلال منبر جدة، وافقت عليها القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع لكنها لم تفلح جميعها لسبب واحد تعلمه الولايات المتحدة والعالم بأسره وهو عدم قيام مليشيا التمرد بالانسحاب من الأعيان المدنية، وهو ما وقعت عليه أمام رعاة المنبر لأنها تعلم أنها لو انسحبت لانتهت الحرب وتوارت أهدافها التي أطلقتها وهو البحث عن دور عسكري وسياسي بعد الحرب خاصة بعد فشل مخططها للاستيلاء على السلطة.

ولم يكن متوقعا من قبل العديد من المراقبين العسكريين أن تُساهم الهدن الموقعة بين الطرفين في تهدئة القتال بينهما، وقد كان ذلك أيضا قناعة أميركية حيث قال مستشار الأمن القومي الأميركي “جيك سوليفان” إن هناك احتمالًا لشكل من أشكال الصراع الطويل للأزمة السودانية الراهنة، حتى لو تخللته لحظات من هدن لوقف إطلاق النار.

انصياع الإدارة الأميركية لمطالب العديد من المشرعين الديمقراطيين والجمهوريين بمجلس الشيوخ، الذين يقومون بدور أكثر نشاطًا في السياسة الخارجية الأميركية تجاه السودان وتعويض الفراغ الدبلوماسي الأميركي، لفرض عقوبات على القيادات العسكرية السودانية، وشبكاتها بهدف تعطيل مصادر إيرادات الجيش وقبضته على السلطة، مما يوفر فرصة لصعود المكون المدني بالبلاد بحسب رأيهم.

ولا تُعد تلك الدعوات، بفرض عقوبات على المسؤولين العسكريين السودانيين، وليدة تأجج الصدام العسكري الراهن بين “البرهان” و”حميدتي”، ويمكن للإدارة الأميركية البدء في فرض تلك العقوبات كما يري المشرعون الأميركيون من خلال أمر تنفيذي يصدره الرئيس الأميركي، أو بالاستناد إلى قانون “ماجنيتسكي”، لكن هذه العقوبات لن تكون كافية لوقف الاقتتال بين “البرهان” و”حميدتي”، فضلا عن أنها قد تدفعهما إلى التعاون مع القوى المنافسة للولايات المتحدة على النفوذ في السودان، ولا سيما وقد طورت روسيا ومجموعة “فاغنر” علاقاتها واتصالاتها بقوات الدعم السريع، وهي تتطلع لإقامة قاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر لمنحها طريقا للمحيط الهندي.
لقد أظهر تعامل الإدارات الأميركية (الجمهورية والديمقراطية) فشل الولايات المتحدة في تقديم الدعم الكامل والمساعدة لتحقيق الانتقال الديمقراطي الحقيقي في السوادان، خاصة بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، ليتراجع دورها لصالح قوى إقليمية ودولية أخرى مثل روسيا والصين وتركيا، تلك التي لديها مصالح تتعارض مع المصالح الأميركية.

لقد قوض تراجعُ النفوذ الأميركي في الخرطوم والفجوةُ بين الخطاب والسياسيات من خيارات إدارة “بايدن” للتعامل مع الأزمة الراهنة في ظل عدم رؤيتها الواضحة للأزمة، بالرغم من موقفها الصلب من قوات الدعم السريع وتصنيفها لها مليشيا متمردة تقيم علاقات مع مجموعة فاغنر، لكن المشرعين كانوا متقدمين في الفعل والقول على موقف الإدارة المتردد.

فمع التغيرات التي تشهدها الساحة الدولية وخاصة في ظل تعدد القطبية العالمية، تبرز العديد من السيناريوهات تجاه التعاطي مع السودان ودول المنطقة وفقا لتقاطعات المصالح، فهل يجيد أهل السياسية في السودان حفاظا على مصالح بلادهم إعادة التموضع إقليميا ودوليا.

كوش نيوز

Exit mobile version