مثقفو الحرب السودانية

مثقفو الحرب السودانية

الكاتب: محمد جميل أحمد
بدأت الحرب السودانية الأخيرة في الـ15 من أبريل (نيسان) الماضي كصراع اندلع بين الجيش وقوات “الدعم السريع”، وما زالت الحرب قائمة ولم تضع أوزارها، لكن بالتأمل عميقاً في السياق السياسي العام الذي اكتنف صناعة الأحداث الأمنية خلال السنوات الأربع الأخيرة في السودان منذ نجاح ثورة الـ19 من ديسمبر (كانون الأول) 2018 في إطاحة رأس نظام الإنقاذ الجنرال عمر البشير في يوم الـ11 من أبريل 2019، سنجد أنه من السذاجة بمكان لو تصورنا أن نظاماً عقائدياً كنظام الإنقاذ الذي دبر انقلابه الإخوان عام 1989 على حكومة ديمقراطية منتخبة، كان بعيداً من صناعة الأحداث الأمنية خلال السنوات الأربع الماضية من داخل جهاز الدولة العام.

كيف يكون بعيداً بعد أن اضطر مرغماً أمام ثورة شعبية عاتية أن يتنازل عن مكاسب ضخمة راكمها 30 سنة، وأنجز خلالها عمليات إحلال وإبدال جذرية هائلة في أجهزة الدولة السودانية العامة، أحل في مفاصلها المركزية قيادات من أنصاره ومحازبيه، وأقال منها أغلب الكفاءات السودانية المتنوعة في تلك الأجهزة، وهو ما عرف بعملية التمكين التي استمرت طوال عقود ثلاثة.

لهذا سنجد أن نشاط العقل الأداتي للثورة المضادة في إعاقة أهداف الثورة السودانية كان يعكف باستمرار على شحذ طاقته القصوى بما راكم من خبرات إدارة الدولة لـ30 عاماً من أجل كيفية تدبير العودة للسلطة، لا سيما إذا عرفنا، مثلاً أن النظام الإخواني يجعل من تأويله المحرف للإسلام نظرية صحيحة وثابتة – بوصفها الإسلام ذاته – بحيث تكون مسألة العودة للحكم بالنسبة إليه محصورة فقط في تصحيح أخطاء تطبيق النظرية (حتى ولو استمرت الأخطاء 30 سنة) لأن تأويله الفاسد لمفاهيم الإسلام هو ما يبرر للنظام استمرار حتمية العودة المشروعة للحكم لتطبيق “الشريعة”.

مقابلة بين الخير والشر

هذه المقدمة التي نطرحها هنا ليس الهدف منها الحديث المباشر عن الحرب، وإنما الهدف هو أن نقرأ على ضوئها موقف نخبة سودانية تعتبر صفوة فكرية (وبعضهم من حملة الدكتوراه) آثرت أن تقف مع استمرار هذه الحرب العبثية، متخذة من المقابلة بين الخير والشر في موقفها من الحرب حكماً مطلقاً.

لكن بتحليل مضمون هذا الموقف سنجد أنه لا يضمر قيمة أخلاقية، فضلاً عن كونه لا يعكس اتساقاً مع المعرفة إذا ما عرفنا مثلاً أن نخبة كهذه تملك من أدوات المعرفة والتحليل ما لا يمكن معه أن يخفى عنها إدراك هوية ومآلات الخراب السياسي الذي أفسد جهاز الدولة العام على يد نظام الإنقاذ لـ30 عاماً.

فإذا صح ذلك، وصح أيضاً أن قوات “الدعم السريع” هي قوات أسسها نظام البشير وكانت ضمن القوات المساندة للجيش أثناء الحرب الأهلية في دارفور 2003 فكيف يمكننا فهم موقف تلك النخبة السودانية المثقفة في تأييدها للحرب بتلك الطريقة التي تنهض على مجرد مفاضلة مطلقة بين الخير والشر؟

يمكننا أن نفهم موقف النخبة الفكرية للإسلاميين في الوقوف إلى جانب الحرب، على رغم أن كثيرين منهم كانوا من قبل يرفعون شعارات المراجعة والتصحيح وثبت اليوم زيفها بوقوفهم إلى جانب الحرب، لكن كيف يمكننا فهم موقف بعض الرموز المعروفة في النخبة الفكرية السودانية التي لم تكن يوماً من الأيام ضمن صفوف الإسلاميين، فيما هي تصطف اليوم مع النخبة الإسلامية في خندق واحد لمواصلة الحرب؟

إنه من المحزن أن نرى مثقفين سودانيين أفنوا أعمارهم في المعرفة والبحث ثم يجاهرون بوضوح في تأييدهم لهذه الحرب، من دون أن يطرحوا أدلة مقنعة سوى تلك المقابلة التي ذكرناها آنفاً.

ليس مقنعاً اليوم أن تجد مثقفاً سودانياً يضع قضية الصراع بين الجيش و”الدعم السريع” ضمن معادلة حدية للخير والشر ثم يريد بعد ذلك تثبيت صورة مثالية له كمثقف ذي موقف أخلاقي!

إن مسؤولية المعرفة وذمتها التي لا تعفي اليوم أي مثقف سوداني من تبيين موقفه من هذه الحرب على ضوء حقائق المعرفة، هي ما تفضح اليوم أسماء كثيرة لمثقفين سودانيين وقفوا مع هذه الحرب من دون أي مبرر معرفي أو أخلاقي.

أن ذلك الموقف الذي يشمل اليوم مثقفين سودانيين وقفوا مع الحرب ينطبق كذلك على من يقف اصطفافاً مع قوات الدعم السريع، ففي هذا المقلب سنجد الوجه ذاته وإن كانت درجة النسبة والتناسب متفاوتة في الموقفين.

وإلى جانب تلك الأسماء النخبوية التي تعلن عن موقفها مع الحرب، هناك بعض المثقفين السودانيين يحجمون عن القول الصريح حيال من هو الذي أطلق رصاصة الحرب الأولى من بين الطرفين المتحاربين في الوقت الذي على كل مثقف يملك أدوات التحليل أن يرجح لديه حكماً صائباً يكشف له عمن تسبب في الحرب.

فالقدرة المعرفية للمثقف على إدراك من تسبب في الحرب تكمن أهميتها في أنها تمنح المثقف ضميراً وطنياً لا يكون معه أبداً في موقف يسمح له بإعطاء سلطة أخلاقية للحرب، ناهيك عن سلطة سياسية، وهنا تكمن خطورة وحساسية موقف “النخبة” السودانية المثقفة من الحرب.

إن تلك الأصوات في النخبة السودانية إذ تقف مع الحرب؛ تغامر اليوم بمكانتها المعرفية وسلطتها الأخلاقية المفترضة، ومن الأهمية بمكان أن تستدرك تلك الأصوات اليوم تصحيحاً لموقفها من الحرب عبر قول صريح في رفض الحرب لأسباب أخلاقية ووطنية، لأن إصرار تلك الأصوات على موقفها الداعم للحرب – حتى بعد أن تبين لكل مراقب حثيث عبثية هذه الحرب – سيلعب دوراً في التأثير وخلق الاستقطاب بين قراءهم، وفي وإدارة مغالطات سلبية في السجال حول الحرب. فالدور الحقيقي للمثقف يقوم على مسؤوليته الأخلاقية والوطنية في تبصير المواطن بالوعي والمعرفة والحقوق.

وضع مختل

إن ما يقف المرء حائراً في تفسيره أمام مواقف كهذه مع الحرب من بعضٍ المثقفين السودانيين البارزين ربما يجعله يهجر اليقين بعفوية الثقة المطلقة التي يوليها البعض لكل مثقف بارزٍ بالضرورة لأن ذلك قد لا يخلو من فخ الوقوع في اعتناق وعي مزيف حيال الموقف من هذه الحرب بناءً على تلك الثقة العفوية.

ولعل هذا الوضع المختل من جراء وقوف وقوف أصوات بعض مثقفي إلى صف الحرب هو ما عزز الاستقطاب الحاد الذي بدأ يفرزه الموقف من الحرب بين معسكرين نقيضين لا ثالث لهما، يترجم كل منهما مقولة: من ليس معنا فهو ضدنا!

إن أبرز سؤال سيواجه الذين يؤيدون الحرب من المثقفين؛ هو كيف سيكون مبررهم المعرفي والأخلاقي لذلك الموقف إذا ما طرأ تحول في أوساط مؤيدي الحرب من عامة الناس باتجاه الوقوف ضدها؟ كما بدا ذلك أخيرا في مواقف كثيرين من مؤيدي الحرب الذين اتجهوا اليوم إلى رفضها والتحول إلى معسكر “لا للحرب”!

وأمام وضع كهذا كيف يمكن نظرياً تفسير موقف نخبة المثقفين الذين وقفوا مع الحرب انطلاقاً من تلك المقابلة المانوية؟

لا يخلو تفسير موقف بعض المثقفين السودانيين مع الحرب اليوم (بعد أن جنح غالبية مؤيدي الحرب إلى معسكر: لا للحرب) تبعاً لموقف الجيش وتأثيره على اتجاه الرأي العام، من حقيقة أن في هؤلاء المثقفين من غامر بسمعته كمثقف وهو يصطف مع حرب كانت كل المؤشرات تحكم بضرورة معارضتها.

اندبندنت عربية

Exit mobile version