نهاية الحرب بداية تفعيل مشروع تقسيم السودان
الكاتب: عزمي عبد الرازق
يومًا تقريبًا مرّت على حرب السودان، حصيلة القتلى وسط المدنيين نحو 300 ألف قتيل، ملايين النازحين داخل وخارج السودان، عشرات المرافق الحكوميّة والمصانع ومراكز البحوث والجامعات والمستشفيات تضرّرت بدرجات متفاوتة، والحبل على الجرار، وهو حبل طويل غامض يلتفّ حول رقاب السودانيين، دون أن يعرف أي منهم- حتى الأطراف المتقاتلة- متى ينتهي هذا القتال، أو من هي الجهة الخارجية التي تستثمر فيه، ولماذا؟
الهويات القاتلة
لا أحد يريد الحرب بالطبع، فهي من أخطر المهددات الوجودية، وإن كانت في بعض الأحيان ضرورية- خصوصًا عندما تصبح دفاعًا عن النفس- لكنها أيضًا وباء يجب القضاء عليه، على حد قول الكاتب البريطاني هربرت ويلز: “إذا لم نقضِ على الحرب فستقضي علينا”.
ولعل أخطر ما في هذه الحرب، أنها أخذت الجميع على حين غِرة، والآن بدأت تتكشف دوافعها، أو بالضرورة الجهات التي تقف خلفها، والأسباب الخفية وراء القتال، بعد أن وصل مرحلة الذروة، وتهيئة الشعب السوداني لسيناريو التقسيم، عوض الفناء، كما حدث في جنوب السودان، عندما اندلع التمرد في النصف الثاني من القرن الماضي، على يد “أنانيا”؛ أي “سم الأفعى”، ثم تولت الحركة الشعبية المهمة، التي انتهت بفصل جنوب السودان في التاسع من يوليو/تموز 2011، ولم يكن ثمّة أحد يعرف على أيّ من بقية الأقاليم سيأتي الدور، رغم التّحذيرات التي أطلقها الخبراء والباحثون منذ وقت بعيد من خطورة السياسات الغربية التي تهدف إلى تقسيم السودان إلى أربع دول: جنوب السودان، ودارفور الكبرى، ودولة البجا في الشرق، وأخيرًا دولة شمال السودان، دون حاجة للاستهتار بنظريّة المؤامرة، وذلك بعد أن تمّ تفعيل خطة التقسيم التي انتقلت من الأوراق إلى الواقع بالفعل، وَفقًا لمشروع برنارد لويس المؤرخ والباحث الأميركي، وهو مستشرق من أصول يهودية يُعتبر عرّاب مشروع تقسيم الشرق الأوسط، وتدمير الثقافة العربية والإسلامية.
المؤامرة على دارفور
ربما كان السؤال المؤرق: أي الأقاليم سيلحق بجنوب السودان؟ وهو سؤال يستدعي البحث عما وراء هذه الحرب وحشد التبريرات لها، وهي تبريرات كلها واهية، خصوصًا تلك التي يلوّح بها الدعم السريع، مثل البحث عن الديمقراطية والقضاء على دولة 1956، تاريخ استقلال السودان، والتي تعني لهم هيمنة الشمال على الحكم منذ ذلك التاريخ، رغم أنها دعاية ساذجة؛ لأن صاحب اقتراح الاستقلال من داخل البرلمان هو النائب عن دائرة نيالا، عبد الرحمن دبكة، وبعد ذلك لم تتغيب دارفور عن ركب المشاركة في إدارة البلاد طوال سبعة عقود.
الآن وفقًا للتطورات الميدانية- وعلى وجه التحديد، ما يحدث في دارفور- هنالك مؤشرات تغذي مشروع التقسيم، منها انسحاب الجيش السوداني من الحاميات الغربية في الجنينة ونيالا والضعين، وترك دارفور للدعم السريع ليفعل بها ما يشاء، فقط تبقت الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور، والتي تتحصن فيها الحركات المسلحة التي وقعت اتفاقية سلام جوبا، وأعني بها: حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور، إلى جانب حركة القائد مصطفى تمبور، وجميعهم قرروا الخروج من الحياد والقتال إلى جانب الجيش السوداني؛ دفاعًا عن وحدة السودان، وهو تقريبًا الموقف الذي أبطأ مشروع التقسيم، بعد أن وقفت الفاشر عصية في وجهه، وفي حال لم يتمكن الدعم السريع من السيطرة على الفاشر، أهم مدن دارفور، فسوف تحتاج الجهة التي أجبرت الدعم السريع على تهدئة جبهة الخرطوم، والتركيز في دارفور، إلى مراجعة خططها العسكرية بعد إذكاء نيران الهويات القاتلة، لا سيما أن التعقيدات الإثنية في غرب السودان، يصعب معها الفتْل على جديلة ذلك المشروع الانفصالي، وبالضرورة فإن دارفور، الغنية بالذهب واليورانيوم- وهو دافع التدخلات الأجنبية تحديدًا- لن يتمكنوا من تطويعها بسهولة، لكثرة الحركات والجيوش المسلحة والقبائل الساعية للمجد.
من هنا يأتي الخطر على السودان
من هنا يأتي الخطر على الدولة السودانية الموحدة، والتي هي اليوم في أمسّ الحاجة لجهود بنيها كافةً، واستشعار المخاطر، والقضاء على النزعة الانفصالية التي بدأت تأخذ منحى تصاعديًا، وتنحية التدخلات الأجنبية والدفاع عن السيادة الوطنية، وقبل كل شيء التركيز على المبادرات والحلول الداخلية، وبذلك يمكن قطع الطريق أمام مؤامرة التقسيم.
أمّا الرهان على الأجنبي، الذي لا يأبه إلا لمصالحه، وترك العملية السياسية تتحرك في ردهات فنادق نيروبي وأديس أبابا، بصبغتها التي تقوم على إقصاء أطراف بعينها، ومحاولة شيطنة وعزل التيار الإسلامي، أو القضاء عليه، وهو أكثر رسوخًا وجماهيرية، ونعتهم بالفلول، فلن يجلب ذلك الاستقرار. التحدي الآن أكبر من حظوظ النفس وتصفيات الحسابات السياسية، فالمطلوب من الجميع، ساسة وعساكر، التسلح بالإرادة الوطنية المتبصرة، لا الإرادة العمياء، كما وصفها الفيلسوف آرثر شوبنهاور، وأن يضعوا نصب أعينهم، آمال وتضحيات شعبهم، وهو شعب- كما وصفه الروائي الطيب صالح- ” عبارة عن أناس بسطاء لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا.. يكدون ليل نهار من أجل اللقمة الحلال ويقدمونها للأبناء والأهل عن طيب نفس، هؤلاء الطيبون يدفعون ثمن حماقات الساسة وطموحات الكبار وصراعاتهم جميعًا في سبيل القوة والمجد.. تطحنهم الحرب الأهلية كل يوم بالجوع والنزوح والأمراض والأوبئة، قليلون في هذه النخبة مثل حمد ود حليمة في قصة (مريود) عندما دعته نفسه للمجد زجرها”.
من المهم أيضًا عدم تجاهل آثار الحرب على الإنسان، التي هي الآن في نهاياتها، وضرورة حشد الدعم الدولي لإعمار السودان، وتعويض المتضررين، وعودة الحياة لطبيعتها، وضمان سلامة الجميع، حتى يسير الراكب من الخرطوم إلى الجنينة، في أقصى غرب دارفور، لا يخشى سوى الظمأ ورياح الصحراء العنيدة.
المصدر: الجزيرة