فورين بوليسيي – التقرير
“مصائب قوم عند قوم فوائد”.. هكذا يقول تعبير عربي شائع في السودان، ويمكن أن يكون بكل سهولة شعارا للبلاد، فالأحداث المأساوية لديها يد في التآمر لإطالة عمر النظام السوداني، أو بالأحرى، النظام السوداني لديه يد في استمرار الأحداث المأساوية، لاستغلالها للبقاء في السلطة.
وأحدث كارثة استفادت منه حكومة عمر البشير-الذي أصبح منبوذا دوليا عندما دعا أسامة بن لادن وإرهابيين آخرين إلى السودان في عام 1990، ولاحقا تميز بالحصول على لقب أول رئيس دولة متهم من قبل المحكمة الجنائية الدولية، عن الجرائم التي ارتكبت في دارفور- هي قضية اللاجئين، الأزمة واسعة النطاق التي تجتاح أوروبا، فقد تمت دعوة حكومة البشير بشيء من البرود، من أجل التعاون مع الاتحاد الأوروبي، لوقف حركة المهاجرين واللاجئين عبر الأراضي السودانية.
وعلى ما يقرب من ثلاثة عقود، واجهت الخرطوم شللا تاما بسبب العقوبات من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومنذ اتهام المحكمة الجنائية الدولية للبشير في عام 2009، كان البشير هاربا من العدالة في الكثير من دول العالم –فقط كان يستطيع زيارة عدد قليل من البلدان في إفريقيا والخليج العربي دون خوف من الاعتقال- والآن يتم اختيار حكومة البشير للحصول على مبلغ كبير من الاتحاد الأوروبي (نحو 2 مليار دولار) “من أجل الصندوق الاستئماني للطوارئ من أجل إفريقيا”، الذي يهدف إلى مكافحة الهجرة في مصدرها، من خلال تعزيز التنمية وتعزيز أمن الحدود. وبالنسبة للسودان، فإن أزمة اللاجئين جاءت هبة من السماء.
ولمجموعة من الأسباب -موقعها الإستراتيجي بالقرب من ليبيا ومصر، والمناطق النائية، التي لا تسيطر عليها الحكومة إلى حد كبير، والحدود التي يسهل اختراقها- أصبحت السودان نقطة عبور رئيسية للاجئين والمهاجرين من إريتريا وإثيوبيا وسوريا، الذين يأملون في الوصول إلى أوروبا. وتاريخيا، كانت الحكومة السودانية مسترخية في مقاومة الهجرة عبر أراضيها. لكن في ضوء ما يتلقونه من أموال من الاتحاد الأوروبي، وإمكانية تطبيع العلاقات مع الدول الأوروبية، فقد أصبحت -فجأة- أكثر انضباطا بكثير في تقنين حركة الناس داخل حدودها.
ويقول اللاجئون في السودان إن المسؤولين الذين قبلوا في السابق رشاوى من الناس على هذه الخطوة، يظهرون الآن عدم استعدادهم للقيام بذلك، وأصبحت قوات الشرطة في الخرطوم -والمعروفة بالفوضى- فجأة أكثر تنظيما، عندما يتعلق الأمر بالقبض علي المهاجرين، لا سيما من إريتريا. وفي مايو، قيل إنه تم اعتقال ما يقرب من 1000 إريتري في الخرطوم، وإما أنه تم اقتيادهم إلى السجون هناك أو ترحيلهم إلى إريتريا. ثم في يونيو، تم القبض على “مريد مدهني” في السودان ، وهو مهرب إريتري يعتقد أنه مسؤول عن وفاة ما يقرب من 400 مهاجر غرقا عام 2013، قرب جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، وتم تسليمه إلى إيطاليا.
لكن هذه اليقظة العالمية الجيدة لم تكن من قبيل المصادفة. ففي أبريل، أعلن نيفين ميميكا مفوض الاتحاد الأوروبي للتعاون الدولي والتنمية، رسميا حزمة مساعدات بحوالي 110 ملايين دولار إلى السودان، عن طريق الصندوق الاستئماني للطوارئ لإفريقيا، وخصصت ظاهريا للحد من الفقر وخلق فرص العمل، وتحسين تقديم الخدمات الأساسية في المناطق المهمشة والمتضررة من النزاع. وقال ميميكا في بيان له: “سيكون لدينا قريبا دعم جديد بـ110 ملايين دولار، ترتكز أساسا على تحسين الظروف المعيشية لأولئك الذين يتخذون السودان وطنا لهم، ما يساعد العائدين إلى البلاد في الانخراط مجددا في المجتمع، وتحسين الأمن على الحدود”.
وبالتاكيد يأمل ميميكا في أن العالم سيأخذ ملاحظاته عن اول بندين سلط الضوء عليهما، لكن هذا الأخير -أمن الحدود- هو الذي دفع بالتقارب مع بروكسل في المقام الأول، وامتص الجزء الأكبر من الأموال. وفي مايو، حصلت دير شبيغل ونيو ستيتسمان على وثائق سرية تكشف عن أن الاتحاد الأوروبي خصص أموالا لتدريب شرطة الحدود السودانية، وخطط لتوفير معدات مثل الكاميرات، والماسحات الضوئية، وخوادم للحكومة السودانية، حتى تتمكن من تسجيل اللاجئين الجدد، وبناء اثنين من “مراكز الاستقبال” المغلقة في المدن الشرقية من القضارف وكسلا.
وليس من الواضح إذا كانت هذه الأموال جزءا من حزمة مساعدات 110 ملايين دولار، التي أعلن عنها في أبريل، أو جزء من المنحة المنفصلة بقيمة 45 مليون دولار، وأيضا من الصندوق الاستئماني في حالات الطوارئ، الذي أنشأته الحكومة السودانية، للحصول على جزء من الأموال مقابل إدارة أمور الهجرة. وفي كلتا الحالتين، يجري بالفعل تمويل السودان لوقف تدفق المهاجرين واللاجئين إلى أوروباـ ولبناء سجون في الهواء الطلق لإيوائهم.
وعلى أقل تقدير إنها صفقة تافهة لأوروبا. والاستعانة بمصادر خارجية في إدارة طرق الهجرة من الحكومة، التي تعاني ضائقة مالية مع سجل بائس لحقوق الإنسان، ليست فقط تتسبب في مزيد من المعاناة اليائسة للمهاجرين واللاجئين. لكنها تعزز نظاما يرغب في زوال العديد من الأشياء، بما في ذلك عقوبات الدول الأوروبية التي فصلت الخرطوم عن الأسواق المالية الدولية. ونقلت صحيفة “إيرين” عن المتحدث باسم المديرية العامة للاتحاد الأوروبي للتعاون الدولي والتنمية، قوله إن الصندوق الاستئماني للطوارئ من أجل إفريقيا “يهدف إلى تحسين إدارة الهجرة”، وأنه “لن يتم توجيه أي تمويل للبلدان المستفيدة ، بل سيتم عن طريق الهياكل الحكومية”.
وفي أحسن الأحوال هذا بيان مضلل، وفي أسوأها هو كذب صريح. ففي بلدان مثل السودان، يكون في كثير من الأحيان الخط الفاصل بين القطاعين العام والخاص غير واضح، لا ينبغي للمال أن يضخ عبر القنوات الرسمية، لأنه سينتهي به المطاف في جيوب الحكومة. وحتى لو تم صرف الأموال فقط في المنظمات غير الربحية والمنظمات الشريكة الخاصة الأخرى، فإن الحكومة السودانية ستسيطر على كل جانب من الجوانب العملية فيه، وصولا إلى الذي تقديم عطاءات لمناقصات البناء وعقود التركيب وتشغيل معدات المراقبة. وعندما يتعلق الأمر بالسياسات المالية للحكومة السودانية، فإنه سيكون هناك القليل من المساءلة أو الشفافية، وأنه لمن الصعب أن نتصور الاتحاد الأوروبي عن كثب في درب المال، ولطالما تم القيام بدوريات في طريق الهجرة عبر السودان على نحو فعال وتم إغلاقها.
وعلاوة على ذلك، فإن الكيانات التي من شأنها فرض تدابير جديدة للهجرة، التي صممت من قبل الاتحاد الأوروبي -كالشرطة، ومراقبة الحدود، وما يسمى قوات الدعم السريع- ما هم إلا جزء من الحكومة. وكقوة شبه عسكرية تدعم الجيش السوداني المتعثر، تواجه قوات الدعم السريع اتهامات بارتكاب انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان، بما في ذلك عمليات القتل خارج نطاق القضاء، والتعذيب، والاغتصاب الجماعي.
وقد تم تأسيس شركة في عام 2013 من عناصر الجنجويد والميليشيات سيئة السمعة، التي نفذت الإبادة الجماعية للحكومة في دارفور، وأعطت إجابات مباشرة إلى جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني. وكانت فكرة إنشاء قوات الدعم السريع فكرة ذكية وحاسمة، لمعالجة انتفاضات المتمردين العادية في البلاد، وتكون بمثابة الحارس الشخصي للحكومة المركزية. وتقوم قوات الدعم السريع بدوريات منتظمة للخرطوم، وهي المدينة التي أصبحت على نحو متزايد بلدة حامية، لتأمينها ضد هجمات المتمردين المحتملة – وإنفاذ سياسات الهجرة، التي تحلم بها بروكسل.
ومن المقلق أن أولئك الذين ارتكبوا جرائم الحكومة السودانية في دارفور، يشكلون لأوروبا الآن خط الدفاع الأول ضد اللاجئين غير المرغوب فيهم، لكن الأكثر إثارة للقلق هو حقيقة أن الاتحاد الأوروبي الآن أعطي الخرطوم المصداقية الدولية، في وقت وصلت فيه شرعيتها الداخلية إلى أدنى مستوى على الأطلاق.
وبسبب انخفاض أسعار النفط عانت السوادن من ضائقة مالية، وتلطخت في أعين الكثيرين من مواطنيها عن طريق لجوئهم لعمليات القتل والاعتقال خارج نطاق القضاء، ويواجه السودان أكبر الاحتجاجات الطلابية في الذاكرة الحديثة -احتجاجات تطورت في بعض الأحيان إلى اشتباكات دامية مع قوات الأمن. لكن بدلا من زيادة الضغط على البشير ومواجهته بانتهاكاته ، تسمح الحكومات الأوروبية بهدوء لحكومته بالخروج من العزلة الدولية السابقة. وعلى سبيل المثال، في يونيو، مارتا رويداس، المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية للسودان، قام بزيارة البشير في دار الضيافة الرئاسية في الخرطوم. وكانت ارفع مسؤولة في الأمم المتحدة عقدت لقاء مع الرئيس منذ عدة سنوات. وزار ميميكا نفسه السودان، والتقى مع نائب الرئيس الأول، كذلك المسؤولين السودانيين في وزارات التعاون الدولي، وزارة الخارجية، والداخلية. ويفترض أن زيارة الرئيس لا تزال أمرا بعيدا جدا، نظريا على الأقل.
وليست هذه هي المرة الأولى، التي تصبح فيها الأزمات الخارجية نعمة للنظام السوداني، فبعد الهجمات الإرهابية في 9 سبتمبر، بدأت حكومة البشير بالتعاون الهادئ والوثيق مع الولايات المتحدة بشأن معلومات استخباراتية. وفي المقابل، حظيت الخرطوم بقوة إضافية زادت من قيمتها حول مفاوضات السلام، التي ترعاها مع متمردي الجنوب السوداني، كذلك وعود لتخفيف العقوبات بمجرد حصول جنوب السودان على استقلاله في عام 2011. ولم تف الولايات المتحدة بوعدها بتخفيف العقوبات، بعد اندلاع صراعات جديدة في عام 2011 في النيل الأزرق وجنوب كردفان ، لكنها استمرت في العمل بشكل وثيق مع مسؤولي المخابرات السودانية. واليوم ، يبدي العديد من المسؤولين الامريكيين رغبتهم في إزالة السودان من قائمة الإرهاب في الولايات المتحدة ، وهي الخطوة التي أثبتت أنه من المستحيل تحقيقها سياسيا حتى الآن.
ولدى السودان مجموعة جديدة من أوراق المساومة: اللاجئون اليائسون على استعداد للمخاطرة بحياتهم للوصول إلى أوروبا,، فمن غير المرجح أن جميع أو حتى معظم العقوبات سترفع قريبا – فالرؤية لا تزال سيئة للغاية، بالنسبة لمعظم القوى الغربية- لكن التعاون حول جبهة للاجئين هو الخطوة الأولى الواضحة، نحو إعادة التأهيل للبشير. وإذا كان السودان أصبح موضع ترحيب، فإن الشعب السوداني سيظل عالقا في المستقبل المنظور -في ظل وطأة العقوبات الدولية، حتى يتم رفعها، ووحشية الحكومة- لفترة طويلة بعد ذلك,