بعد مرور ثمانية أشهر من الحرب المشتعلة بين الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع”، واصل الكثيرون من سكّان العاصمة الخرطوم الصمود في منازلهم، وسط الاشتباكات وسوء الأوضاع المعيشية، لكنهم ظلّوا يتعرضون بشكل متزايد للانتهاكات التي يُمارسها جنود “الدعم” والمتمثلة في عمليات القتل والاعتقال واختطاف النساء، بحسب ما توثق باستمرار المنظمات المحلية والدولية في البلاد.
ويخوض الجيش السوداني قتالاً مع “قوات الدعم السريع” التي كانت تمثل أكبر وحداته البرّية منذ 15 إبريل/نيسان الماضي، وتسبب الصراع في أكبر أزمة نزوح في العالم، فقد نزح 7.1 ملايين شخص بحسب أرقام الأمم المتحدة. ودخل الطرفان في محادثات بمدينة جدة السعودية منذ مايو/أيار الماضي بوساطة من السعودية والولايات المتحدة ومنظمة “إيغاد” (الهيئة الحكومية للتنمية)، وتمّ تعليق المحادثات يوم الاثنين في 4 ديسمبر/كانون الأول الحالي بعد تعثر التوصل إلى اتفاق حول القضايا الخلافية.
ويشتهر مقاتلو “الدعم السريع” التي تأسست رسمياً في عام 2013 بعدم الانضباط والاحتكاك المستمر بالمدنيين، ويطلق عليهم السودانيون اسم “الدعامة”. وظل حلّ هذه القوات أبرز مطالب الثورة التي اندلعت ضد نظام الرئيس المخلوع عمر البشير في عام 2018.
يشتهر مقاتلو “الدعم السريع” التي تأسست في 2013 بعدم الانضباط والاحتكاك المستمر بالمدنيين
وبعد اندلاع المعارك التي استُخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والطائرات المقاتلة، تقاسم الطرفان السيطرة على العاصمة الخرطوم التي تتكون من ثلاث مدن، الخرطوم وأم درمان وبحري، وأصبح السكان مقسّمين بين مناطق السيطرة العسكرية لكل جانب. ورغم نزوح الآلاف، إلا أن هناك من قرّر البقاء، في ظل شكاوى من سوء المعاملة والاعتداءات التي يمارسها الجنود، والتي نالت “الدعم السريع” القدر الأكبر منها.
انتهاكات متواصلة لـ”الدعم السريع” في الخرطوم
وقالت لجان المقاومة (تنظيمات شعبية) في عدد من أحياء الخرطوم، في بيانات أصدرتها أيام 1 و2 و3 ديسمبر الحالي، إن “قوات الدعم السريع” تواصل الانتهاكات في أحياء أم بدة السبيل والفتيحاب والعباسية في أم درمان، وداردوق ونبتة وشمبات في بحري، والكلاكلة في جنوبي الخرطوم. وأضافت أن “الدعم” تهدد وتنهب المواطنين، “ووصل بهم المطاف إلى قتل السكان داخل منازلهم من أجل السرقة”.
وأعلنت لجان مقاومة منطقة أم بدة السبيل في أم درمان، في الأول من الشهر الحالي، في بيان، أن “الدعم” تمارس الانتهاكات والتضييق على المواطنين بالمنطقة بشكل صارخ، “وتحيل حياتهم إلى جحيم وذلك بشكل يومي، مستخدمين السلاح في تهديد ونهب المواطنين المسالمين، إلى جانب اقتحام العيادات والمراكز الطبية”.
ودعت المنظمات الحقوقية الدولية والإقليمية والمحلية إلى ضرورة حماية المواطنين في المنطقة، مما وصفته بـ”صلف وتجبر هذه المليشيات المتفلتة التي أحالت حياة المواطنين إلى جحيم في المنطقة”.
من جهتها، قالت لجان مقاومة “داردوق ونبتة” في مدينة بحري في الأول من ديسمبر، إن عناصر “الدعم” يطلقون الرصاص الحي داخل السوق المزدحم، إلى جانب ممارسة النهب والسلب تحت تهديد السلاح في المتاجر ومخابز المنطقة. وأضافت أنه في يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، “تم نهب الدقيق من معظم المخابز في المنطقة تحت تهديد السلاح ما أدى إلى توقف عدد كبير منها وأثّر على توفر الخبز”.
وفي منطقة الفتيحاب بمدينة أم درمان، قُتل رجلان وامرأة نتيجة قذائف أطلقتها “الدعم السريع”، كما أوقع القصف عدداً من الإصابات بحسب بيان لغرفة طوارئ المنطقة في 2 ديسمبر، ثم أعلنت الغرفة في بيان آخر يوم 4 ديسمبر، مقتل 8 أشخاص بينهم طفل وإصابة العشرات، في قصف لسوق محلي بالمنطقة نفذته “الدعم السريع”، وأوضحت أن “أم دفسو” هو السوق الوحيد في المنطقة الذي يتبضع منه المواطنون رغم شحّ المواد الغذائية نتيجة الحصار الذي تضربه “الدعم” لأكثر من أربعة أشهر.
حصار وقتل وخطف وطلب فدية
وتعد منطقة الفتيحاب واحدة من المناطق التي تخضع لحصار من “الدعم السريع” بسبب موقعها. وسبق للجان مقاومة المنطقة التأكيد عبر بيان في 24 نوفمبر الماضي، أن “الدعم” تحاصر المنطقة منذ نهاية يوليو/تموز الماضي، “وكان يتم التضييق على دخول المواد الغذائية والطبية والحد من حركة المدنيين، وفي منتصف أكتوبر/تشرين الأول شددت “الدعم” الحصار ومنعت دخول المواد الغذائية والطبية والمواصلات”.
لجان المقاومة: “الدعم” تهدد وتنهب المواطنين، ووصل الأمر بعناصرها المطاف إلى قتل السكان داخل منازلهم من أجل السرقة
وتشهد الفتيحاب اشتباكات شبه يومية بين الجيش و”الدعم السريع”، باعتبار أنها منطقة متاخمة من الناحية الشمالية لمواقع عسكرية مثل سلاح المهندسين، سلاح الموسيقى، السلاح الطبي، كلية القادة والأركان وأكاديمية نميري العسكرية، فيما تتمركز “الدعم السريع” على حدودها الجنوبية والغربية.
وفي حي العباسية العريق بأم درمان، قالت لجان مقاومة المنطقة في 3 ديسمبر الحالي، إن أحياء العباسية وبانت وأبو كدودك وحي الضباط والموردة، لا زالت تحت نيران القصف والرصاص العشوائي التي تمارسه “الدعم السريع”، وذكرت أن هناك جثثا تحللت بالقرب ميدان الرابطة بالعباسية، وطالبت المنظمات بالتدخل لأنها بدأت تشكل خطراً كبيراً على سكان المنطقة.
وفي حي شمبات بمدينة الخرطوم بحري، قتل شخصان في 3 ديسمبر جراء قصف مدفعي. وقال المواطن نزار صلاح من سكان الحي لـ”العربي الجديد”، إن القصف المتبادل مستمر، وأودى بحياة شخصين وأصاب آخرين في 3 ديسمبر الحالي، لافتاً إلى أن عناصر “الدعم السريع” موجودون وسط المواطنين، ورغم تعاملهم العادي نوعاً ما لكنه لا يخلو من انتهاكات.
وأشار نزار إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في القصف العشوائي المتبادل، بينما الأحوال المعيشية إلى حد ما مستقرة، والسلع الغذائية موجودة، لكن بعضها غال أو غير متوفر (السكر والزيت)، وهناك بعض المعاناة في الحصول على المياه، وكذلك الكهرباء متذبذبة بسبب الأعطال في الخطوط الناقلة جراء القصف المدفعي. كما توجد بحسب نزار، العديد من المطابخ الخيرية التي توفر وجبات مجانية للمواطنين، ما يخفف عنهم بعض المعاناة.
من جهتها، قالت المبادرة الاستراتيجية لنساء القرن الأفريقي (صيحة) في بيان، في الأول من ديسمبر، إن الدعم السريع اختطفت في 24 نوفمبر الماضي، فتاتين قاصرين أمام والدتهما في حي الصفا بمنطقة الكلاكلة جنوب الخرطوم.
الأم وبناتها الخمس، بحسب “صيحة”، من العالقين في الخرطوم منذ بدء الحرب، وكانت فقدت التواصل مع زوجها منذ مغادرته للعمل في تعدين الذهب في ولاية أخرى قبل عامين. وقالت المبادرة: “الوضع الحالي لهذه الأم لا يمكن تصوّره، فقد أفاد صديق للعائلة بأن الأم تشعر بالعجز التام وتبكي بشكلٍ لا يمكن تهدئته. الفتاتان اللتان تمّ اختطافهما تبلغان 15 و13 عامًا من العمر”.
ياسر جبارة: الانتهاكات ذات ارتباط بتركيبة قوات “الدعم السريع”
وأشارت “صيحة” إلى أن الأم كانت تقضي النهار في سوق الكلاكلة، وتبيت ليلاً في منزلٍ فارغ في الحي مع مجموعة من النساء، وفي تلك الليلة اقتحم جنود “الدعم السريع” المنزل واختطفوا الفتاتين بالقوّة، وأخبروا والدتهما بأنهم “يحتاجون إليهما” وسط صراخ الأم، وهدّد الجنود قاطني المنزل بالسلاح ومن ثمّ غادروا بالفتاتين.
بدورها، اتهمت هيئة مياه ولاية الخرطوم، “الدعم السريع” باختطاف أحد مهندسيها ويدعى أزهري السر، من منزله بالخرطوم واقتياده إلى جهة غير معلومة. وقالت في بيان يوم 4 ديسمبر، إن ما وصفتها بالمليشيا اعتادت اختطاف عمّال ومهندسي المياه من منازلهم وأماكن العمل والتنكيل بهم، وأضافت أن المجموعة الخاطفة طالبت بفدية قدرها ثلاثة ملايين جنيه (حوالي 5 آلاف دولار – الدولار يساوي 900 جنيه سوداني).
وفي منطقة الحاج يوسف بمدينة بحري، يعاني السكان المتبقون هناك من فوضى عسكرية واعتداءات بسبب وقوع المنطقة تحت سيطرة “الدعم السريع”. وقالت المواطنة حواء، التي تسكن هناك، لـ”العربي الجديد”، إنهم يعانون من الرصاص الطائش الذي يطلقه جنود “الدعم” خصوصاً في مناسبات الزواج التي يقيمونها. وأضافت أنه خلال الأيام الماضية، قُتلت فتاتان وأصيب نحو 6 أشخاص برصاص أطلقه الجنود في عُرس.
وأشارت حواء إلى أن هناك تفلتات مستمرة من عناصر “الدعم” تتمثل في النهب والضرب والاختطاف وطلب فدية، وذكرت أنه خلال الشهر الماضي خطف الجنود جارهم وأعادوه بعد وساطات، ثم خطفوا شاباً آخر وأعادوه بعد أن دفع أهله مبلغ 500 ألف جنيه سوداني.
وتسبب اعتداء مقاتل من “الدعم” في توقف مستشفى بشائر بمنطقة جنوب الحزام، جنوبي الخرطوم، وإضراب العاملين يوم الثلاثاء 5 ديسمبر الحالي. وقال عضو في غرفة طوارئ المنطقة، فضل عدم ذكر اسمه، لـ”العربي الجديد”، إن أحد عناصر “الدعامة” أطلق النار على المدير الطبي للمستشفى وعضو في غرفة الطوارئ، بالإضافة لتهديده الطاقم الطبي المرابط في المستشفى.
وأضاف المصدر أنهم في غرفة طوارئ جنوب الحزام، يستنكرون ويدينون هذا التصرف الهمجي، ويدعمون خيار الإضراب حفظاً لحقوق الكوادر الطبية وكرامتهم، مطالباً “الدعم السريع” بضبط جنودها واحترام المواثيق والمعاهدات الدولية المتعارف عليها، حفاظاً على المرفق العام الذي يخدم مواطني المنطقة الخاضعة لسيطرتهم.
ورأى الصحافي السوداني ياسر جبارة، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن الانتهاكات التي تقع ذات ارتباط تصميمي بتركيبة “قوات الدعم السريع”، وهو أمر موثق في واقعة فضّ اعتصام القيادة العامة بالخرطوم يوم 3 يونيو/حزيران 2019، وفي أحداث مدينة الجنينة عام 2021 وذروتها في الهجوم على منطقة “أردمتا” بولاية غرب دارفور مطلع نوفمبر الماضي.
وأشار جبارة إلى أن نوعية الانتهاكات تتسم بالوحشية، وتنمّ الأساليب عن تجذر منهجية راسخة تقوم على الإخضاع للأشخاص والجماعات المصنفين على أنهم أعداء أو مجرد أهداف، عبر الإذلال الجسدي واللفظي والعنصري والنوعي. واعتبر أنه “بناء عليه، فإن توسيع دائرة الانتهاكات هي رغبة ملحة لدى أفراد الدعم، متى ما كانت السانحة مواتية، يعزز ذلك ضمانة موثوقة من قيادة تلك القوات بالإفلات من العقاب”.
العربي الجديد