هل حرب السودان جزء من مخطط تقسيمه لدويلات؟
أصبحت البلاد ساحة معركة رئيسة للمنافسة الأيديولوجية
تضافرت عوامل عدة أدت إلى انفصال جنوب السودان، أهمها فشل الحكومات الوطنية المتعاقبة في الحفاظ على الوحدة، ومع أن الحرب الأهلية بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي، لكن دور الإسلاميين كان كبيراً في تأجيجها خلال تسعينيات القرن الماضي وما بعده والوصول بها إلى نقطة اللاعودة. ومنذ الثمانينيات أصبحت الدولة ساحة معركة رئيسة للمنافسة الأيديولوجية بين نموذجين متعارضين، “الجبهة الإسلامية” التي كانت تقاتل لإقامة دولة إسلام سياسي، و”الحركة الشعبية لتحرير السودان” التي ترى أن رسالتها علمانية الدولة، وفي الوقت ذاته تقاتل من أجل شعب جنوب السودان. وعندما عقد اتفاق السلام الشامل “نيفاشا”، عام 2005، لم يكن اتفاقاً من أجل أن يبقى السودان موحداً، أو ما كان يوصف بـ”الوحدة الجاذبة”، وإنما حمل بذور تقسيم السودان في أحشائه. وتلطيفاً لهذا الهدف، أقيم الاستفتاء ليختار أبناء الجنوب بين أن يبقوا ضمن السودان الموحد أو أن ينفصلوا إلى دولة مستقلة، وكانت النسبة الكبرى من نصيب خيار الانفصال.
وفكرة تقسيم الدولة في السودان قديمة، إذ كانت أصوات عدة تعتقد أن الحدود الإدارية التي وضعها الاستعمار الإنجليزي، على أساس مصالحه من دون مراعاة للمكون البشري المثقل بالفروق الإثنية والتنوعات القبلية، والاختلافات الدينية والثقافية، ولكن في إحدى فترات الاستعمار، اضطربت سياسة الحكم وقام المستعمر بتقسيم البلاد إلى مقاطعات كبرى تحوي كل واحدة منها اثنتين أو ثلاثاً من المديريات حيث دمجت مديريات حلفا ودنقلا وبربر، وسميت المديرية الشمالية، كما دمجت مديريتا الفونج والنيل الأزرق، ودمجت المنطقة ما بين النيلين الأزرق والأبيض ابتداءً من جنوب الخرطوم إلى مدينة ود مدني وحتى حدود القضارف، وسميت مديرية الجزيرة. وكذلك دمجت مديريتا بحر الغزال ومنقلا وسميت بمديرية خط الاستواء. وفسرت هذه الخطوة بأنها لتقسيم السودان إلى أقاليم كبرى يكون لكل منها مدير إنجليزي ومأمور من المواطنين، وفق السياسة البريطانية التي اتبعتها في الهند ونيجيريا باستقلال بعض المناطق بحكمها وإدارتها واقتصادها وتعليمها عن المركز. وعهدت بإدارة بعض الشؤون الاجتماعية إلى الإدارة الأهلية، ولكن في عدد من التجارب كانت مثيرة للنعرات القبلية.
مخطط التقسيم
عندما وافق الكونغرس الأميركي بالإجماع في جلسة سرية على مشروع برنارد لويس في عام 1983، الذي كان يهدف إلى تقسيم المنطقة العربية، كانت “الجبهة الإسلامية القومية” بزعامة حسن الترابي منغمسة في استمالة الرئيس جعفر النميري لإقامة مشروعها الذي خطط له بأن يمتد من الخليج إلى المحيط. وأول ما حصل عليه الترابي داخلياً هو التمكن من إزاحة خصومه الأيديولوجيين، وإقناع النميري بفرض قوانين سبتمبر (أيلول)، وقبل أن يتمكن من بث الصورة الجديدة للسودان للدول في الإقليم إيذاناً بالتبشير بمشروعه، ثار الشعب على النميري وأسقطه عام 1985.
في الاتجاه الآخر، كان مشروع لويس يموج على نار هادئة، وشملت خطته للتقسيم لصالح إسرائيل، تقسيم السودان إلى أربع دول هي النوبة التي كان يفترض أن تلتحم مع النوبيين جنوب مصر، ودولة الشمال المسلم الذي يضم إقليم الجزيرة ونهر النيل أو ما يعرف بالشريط النيلي، ودولة الجنوب المسيحي، ودولة دارفور. واستثمر التيار الإسلامي، في هذه الخطة، كثيراً، تارة بالتخويف من العلاقات مع الغرب، وتارة أخرى بكيل الشتائم للولايات المتحدة في الأهازيج والأناشيد الحماسية التي كانت تؤديها ميليشيات “الدفاع الشعبي” ذراع التيار في الجيش. ومواصلة لهذه الموجة، قال الرئيس السابق عمر البشير إنهم يدركون الخطط الموضوعة لتقسيم السودان إلى خمس دول، هي الجنوب، ودارفور، وشرق السودان، وكردفان، ووسط السودان في محاولة لفصل المنطقة العربية عن القارة السمراء، والإسلام عن الديانات الأخرى في أفريقيا.
وذكر أيضاً أن التقسيم سيطال مصر التي ستوزع إلى ثلاث دول، دولة للنوبيين المصريين ينضمون إلى النوبيين في السودان بعد تقسيمه، ودولة للأقباط في الأقصر وأسوان، ودولة في دلتا النيل تكون تابعة لإسرائيل. ولأن حديثه ذلك كان بعد توقيع اتفاق “نيفاشا” بعامين، وكانت البلاد على أعتاب انفصال الجنوب، فقد فسر بأنه يريد أن يبرئ حكومته من وزر الانفصال. وظل، كلما ضاق عليه الخناق، يتحدث عن “الضغط والتآمر الأميركي على السودان”، وتكرر ذلك في أوقات متفرقة، عندما كانت تشتد العقوبات الأميركية أو الاحتجاجات أو بغرض استجداء دعم الدول العربية لنظامه.
تجانس إثني
وتبني الإسلاميون فكرة التقسيم، وقدمها في مؤتمر نظمه النظام السابق عام 2005، وزير المالية والتخطيط الاقتصادي عبدالرحيم حمدي، الذي كان يعد أيضاً من كبار رموز الإسلاميين، ويتلخص المشروع، الذي اشتهر باسم “مثلث حمدي”، في تطوير السودان وفق تجانس إثني وديموغرافي، أما بقية الأقاليم المتوترة، فيمكن أن يلبي حقها في تقرير مصيرها. وقدم حمدي مشروعه الذي يشمل المنطقة الواقعة بين إقليم دنقلا في الشمال، وسنار في الجنوب الشرقي، وكردفان في الجنوب الغربي، وهي في رأيه أكثر تعبيراً عن “السودان العربي الإسلامي”، والمنطقة الأكثر تعليماً وذات تطور نسبي وعلى درجة من التحضر من بقية الأقاليم البعيدة. وكانت فكرة الحكومة وقتها، التي عبر عنها حمدي، هي أن هذه المنطقة مهيأة أكثر من غيرها لأن تكون ظهيراً وحليفاً استراتيجياً للنظام الحاكم في انتخابات عام 2009.
ومن أكثر المروجين لفكرة التقسيم من رجال الصف الأول في نظام البشير أيضاً، كان وزير الدولة بوزارة الخارجية وقتها، علي كرتي الذي قال، عام 2008، إن “منظمات يهودية تبلغ نحو 150 منظمة في الغرب ولها فروع في إسرائيل تجمع أموالاً طائلة من أجل دعم حركات التمرد، خصوصاً [العدل والمساواة]”. وأكد أن “هذه المنظمات تساندها جهات داخلية تعمل على تنفيذ مخطط أميركي استراتيجي هدفه تقسيم السودان إلى خمسة أقاليم”. وهذا يفسر بطريقة أو بأخرى السلاسة التي تم بها انفصال جنوب السودان، ثم طرح “المشورة الشعبية” لمنطقة جبال النوبة والنيل الأزرق، والاستفتاء حول حق تقرير المصير لإقليم دارفور، وشرق السودان. ويرجح كثر أن نظام البشير، لو استمر أكثر من ذلك، لانفصلت هذه الأقاليم واحداً تلو الآخر. وما يحدث الآن، ما هو إلا تجسيد لذلك المشروع الذي تذرع من تبنوه باقتراحه كحل لإنهاء الحرب. وإذا لم يكن لدى أعضاء النظام السابق الجرأة اللازمة لطرحه علانية لتيقنهم من عدم قبول الشارع أية مقترحات من جانبهم، فيرجح أنهم قاموا بتمريره من خلال آخرين، كما أنه يلبي، في الوقت ذاته، طموحات جهات خارجية ولكن تختلف دوافع وآليات تنفيذه.
حقوق الأقاليم
ويرجع نشاط نزعة التقسيم خلال الحروب السودانية، إلى أن حل الأزمات يتراءى بحيازة كل طرف من الجماعات المتحاربة لمنطقة معينة، ليفرض عليها سيطرته ويحتكر الاستفادة من مواردها. وتجتر كذلك عندما تعجز النخب السياسية عن إدارة التنوع الثقافي والاقتصادي والاجتماعي في السودان، وتفشل في توظيفه لبناء دولة وطنية تتساوى فيها حقوق المواطنين وواجباتهم، وتسود فيها الحريات العامة وحكم القانون.
أما فكرة تقسيم السودان، التي نمت وترعرعت بعد ذلك، فهي ناجمة عن التهميش السياسي والاقتصادي وزجت فيها قضايا الهوية والدين بأن استغلت بشكل صارخ حتى وصلت إلى مستويات عالية من التوتر بين مجموعات الهويات المختلفة (الإثنية والقبلية والإقليمية)، فعد التقسيم خطوة إيجابية وفرصة للتغيير السياسي. ومع ذلك، ربما يؤدي في النهاية إلى تعزيز مصالح الأطراف المتنازعة في منطقة معينة، لأن المكونات الإثنية في المنطقة الواحدة تكون متناقضة إلى درجة كبيرة، فضلاً عن أن القادة يعتمدون على الولاءات العرقية لحشد الدعم، مع قيام الفصائل بممارسة العنف ضد المدنيين.
وتسهم ذكريات الحرب في الجنوب ودارفور والعنف القائم حالياً في الاستقطاب السريع بين الجماعات الموالية لقادتها، فقد روج قادة “الإنقاذ” لاستعلاء الهوية العربية – الإسلامية المهيمنة، وأحدثت حرب وانفصال جنوب السودان، حيث نشطت الحركة الإسلامية، في ذلك الوقت، مقابل أجندات “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، أزمات متشابكة، ولم يكن لدى نظام البشير أي اهتمام بالآثار التي يتركها في الأقاليم البعيدة بعد أن يتحقق انضمام دولة الوسط والشمال العربية – الإسلامية إلى المحيط الإقليمي العربي وترك بقية الأقاليم لأفريقيا.
وفي الواقع، فإن كل إقليم يمثل صورة مصغرة للسودان، تسكنه مجموعة متنوعة من المجتمعات ومنقسمة بشدة بين السكان الأصليين والوافدين إليهم من الأقاليم المختلفة بغرض التجارة أو العمل أو غيره، وتعاني معظم أقاليم السودان التهميش لأن ثرواتها الطبيعية يستفيد منها المركز من دون تقاسم السلطة وإعادة توزيع الموارد، وهي من أهم أسباب الصراعات في السودان.
توتر متصاعد
أما الحرب الحالية التي اندلعت في 15 أبريل (نيسان) الماضي، فهي انعكاس لنزاعات واضحة ومكتومة طال أمدها في السودان بسبب التفاوتات الاقتصادية، والإقصاء السياسي والحرمان الاجتماعي والثقافي في توزيع السلطة السياسية والاقتصادية بين المركز والأطراف. ولأن التنمية التي أقامها المستعمر كانت بواسطة فرض السلطة والنفوذ، فإن المطالبين بحقوق أقاليمهم في التنمية والوصول إلى الخدمات، حملوا السلاح منذ عقود للوصول إلى هذا الحق من دون جدوى.
وفي أعقاب التوتر السياسي المتصاعد الذي بلغ ذروته بقيام الحرب، نشأ التصور الحالي للتقسيم وهو أن يقسم السودان إلى ثلاث دول، دولة في الشرق تضم أقاليم الشرق والوسط والشمال، ودولة في جنوب كردفان، ودولة في دارفور، ويتردد أن الهدف منها هو خدمة أجندة إسرائيل.
وعلى رغم إقصاء الإسلاميين بعد انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018 عن السلطة، فإنهم برعوا في تغذية الخلافات بين المكونين المدني والعسكري، ثم بين العسكريين أنفسهم، ولم يسلم المدنيون أيضاً من أن يصيبهم داء الانشقاق.
هذه التصورات للتقسيم بما فيها الأخير الذي ينسب إلى قوات “الدعم السريع” بمعاونة “قوى إعلان الحرية والتغيير”، لا يبدو أنها تلبي طموح المكونات الاجتماعية، فهي قائمة على أساس جغرافي، وفي كل إقليم منها تعتمل التوترات الإثنية، وكان يمكن لدول الإقليم أن تلعب دوراً كبيراً في إيقاف هذا التهديد، ولكنها كما كانت بعيدة من السودان أوان انفصال الجنوب لاعتقادها أنه إقليم بعيد عنها ومتاخم لأفريقيا جنوب الصحراء، يتوقع أن تظل مترددة في التدخل في حال تقسيم السودان، وذلك لعوامل أخرى أهمها، الأول، أنه لوقت طويل كان السودان يعد من قبل حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دولة لا تأثير لها على الشؤون الإقليمية، بسبب تراكم الفشل السياسي والاقتصادي وعدوانية نظام الرئيس عمر البشير الذي عرض السودان لأخطاء جسيمة في العلاقات مع بعض دول المنظومة العربية، وسياساته التي نتج منها عزل الدولة إقليمياً ودولياً. والثاني، أنه على رغم أن السودان بدأ يتلمس خطاه في السياسة الخارجية، إلا أن ضعف سلطة الدولة بسبب الانقسامات السياسية والمجتمعية ثم الحرب الأخيرة حدت من قدرة البلاد على ممارسة تأثير كبير في الأحداث في المنطقة، كما أن استجابة قادة الحرب للمبادرات العربية والإقليمية تبدو ضعيفة.
جريدة العرب اللندنية