ماذا بعد غزة ودمشق والخرطوم وكرمان والضاحية؟
_ سمير التقي_
في العقد الأخير من القرن الماضي، وفي جلسة حوار إقليمي برعاية أوروبية، ناقش خبراء استراتيجيون ومؤرخون من إيران وتركيا وإسرائيل (بعدما أكّدوا انّهم مستقلون ولا يمثلون دولهم)، وتوافقوا في الرأي على “أنّ العرب غير جديرين ببناء الدول، وأنّهم يعيشون كقبائل، ولم يكونوا أمماً ولا شعوباً”. فلا يمكن ضبطهم إلاّ تحت سلطة دولة مركزية إقليمية راسخة أخرى. كان هناك عرب في الجلسة، وكنت أنا منهم. قدّمنا حججنا المضادة، لكن العبرة أنّ الجلسة كانت كاشفة لعقل “الشركاء الإقليميين”. بعدئذ، صار هاجسي تلمّس مخاطر هذا السيناريو على الإقليم.
إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتداعي اللاهوتية كمصدر لشرعية الدولة في الشرق الأوسط، جَهُدت المشاريع الشعبوية البديلة في ابتداع شرعيات ارتدادية، تطمح للرجوع نحو الامبراطوريات التليدة، العربية منها او الإسلامية أو الأممية البروليتارية، او الأممية السورية، وغيرها كثير… علها تعوّض غياب شرعيتها، بالعظمة الموعودة.
لكن أياً منها لم يضع في أولوياته تعزيز وحدة الدولة القائمة على قاعدة وطنية تعددية جامعة. بل حاولت الغوغاء خنق مشروع الدولة الوطنية بأسوار من العصبيات الانتقامية والرسالات الخالدة الهائجة. والآن وبعد ما يزيد عن قرن من انهيار الخلافة العثمانية، لا تزال الدولة الوطنية في الإقليم تواجه هذا الغوغاء الراديكالي المتفشي، الذي يدفع بعض دول الإقليم نحو الانحلال التام.
لكن، ما الذي يدفعني لمثل هذا الكلام النظري، الذي صار بديهياً ومكرّراً من دون شك؟.
يقول هنري كيسنجر: “أحد أكبر التحدّيات في السياسة الدولية، هو القدرة على التعرف على بذور الخطر الاستراتيجي، قبل أن تنبت إلى أزمات كاملة”.
نعم، إنني أزعم أنّ إقليمنا المتخبّط، يقترب من لحظة فاصلة تعجّ بمخاطر وجودية لن تستثني أحداً.
كان يمكن لربيع 2011 أن يتجاوز استعصاء شرعية الدولة الوطنية، لكن قوى القديم تضافرت في إجهاضه قسراً، وقتلاً واحتواءً وإفساداً. وما تلا هذا الربيع، لم يكن بيادر الصيف ولا كانت حصاداً مثمراً، بل كان إمعاناً في الغرق في مستنقع التفكّك.
بل انني أزعم أنّه حتى عوامل الضبط الخارجية قد انهارت، وأصبحنا على شفا لحظة تُنذر بتداعي مجمل النظام الإقليمي. فإثر نهاية الحرب الباردة ورغم انهيار اتفاقات يالطا، سمحت التوافقات الدولية والإقليمية في العقد الأول والثاني من هذا القرن، بنشوء وهم بالاستقرار النسبي في الإقليم.
لكن سرعان ما انقشع هذا الوهم. فبعد غزو أوكرانيا، انهارت توافقات تقسيم العمل في الشرق الأوسط بين روسيا وأميركا؛ ثم تلاها انهيار الثقة في عقود التواطؤ بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وبين إيران من جهة أخرى. فلقد تبين بطلان المراهنة على أمن واستقرار مديد في الإقليم بناءً على صفقات يعقدها في الظل رجال استخبارات هذه الدول. وهذه العملية التي انطلقت منذ “إيران غيت”، لم تعد تضمن لا تقسيم النفوذ ولا ضبط المخاطر. وبذلك انهار وانهار التفويض الموكل لروسيا ولإيران.
بانهيار التوافقات وانفلات ضوابط الصراع، تشتعل كل الجبهات، تحضيراً لخريطة جديدة. خريطة تعيد رسم الخنادق والتحالفات. وإذ تنهار منظومة العولمة، وتتداعى مقومات النظام الإقليمي، يتسابق اللاعبون الدوليون والإقليميون لحجز موقعهم على حواف هذا الثقب الأسود.
لنتأمل مشهد منطقتنا اليوم. من غزة إلى القدس وبغداد إلى صنعاء إلى الضاحية إلى دمشق والخرطوم وكرمان، يصعد الجنس ذاته من الغوغاء. فبثورة او من دون ثورة، بسلاح أو بغير سلاح، بصراعات داخلية أو بعدوان خارجي، بفعل قوى إقليمية او دولية، يدكّ هذا الرعاع أعمدة الدولة الوطنية تحت ضربات الراديكاليات العقائدية. بل يهدّد بشكل فادح باقي الدول التي تمكنت حتى الآن من تحصين نفسها من حمى العصبيات والراديكاليات.
إنّهم رعاع القرن الحادي والعشرين، سواءً تمثلوا بعصابات المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، أو جحافل المشاريع الإسلاموية أو القومية المتناحرة. إنّهم يقتاتون جميعاً على جسد الدولة الوطنية، ليعيدوا إقليمنا “أقواماً وقبائل” كما سبق أن حصل في تاريخنا (وكما قال الخبراء الإقليميون)… لنمضي نياماً نحو عصور جديدة من الانحطاط، فلا دول، بل دويلات للميليشيات، ولا تاريخ بل فوضى، ولا ثقافة بل تقهقر نحو ابتذال وعامية أمراء حرب.
قد لا تتفلّت حرب شاملة في الإقليم، إذ لا شهية للكبار بما تبقّى منه. بل ينبئ النمط الدارج للصراع، بنزاعات محلية مزمنة، لا تقلّ خراباً ونخراً في عظم الشرق الأوسط. لا يسعى أي منها لتأسيس دولة مدنية بحق، بل ينادي كل منها بحصة من جيفة دول دمّروها بأيديهم. انّهم مجرد بيادق في فوضى الساحات، وفي الصراع المحموم على تقاسم ما تبقّى من الإقليم.
فمع كل قطرة دم تُسفك لا يتعزز الوعي بالدولة المدنية للأمة، بل يتعزز التعصّب والانتقام، ويسري العفن حتى نخاع ما تبقّى من سياسة. التحالفات وقتية وطارئة، والخطط غرائزية وثورية طفولية. والكل ضدّ الكل. فلا هي مؤامرة ولا قومة غضب ولا رسالة خالدة ولا امبراطورية دينية ولا من يحزنون.
من شيم التاريخ أنّه كلما كان التحوّل أعمق، كان المخاض وحشياً ومضنياً! فبعد إجهاض الثورة الفرنسية، بقيت أوروبا تغلي وظلت الثورات تذبح، إلى ان استتبت شرعية الدولة الامّة، لا على وعود هتلر وموسوليني الإجرامية، ولا أوهام الإمبراطورية الدموية للشيوعية السوفياتية، بل استتبت الدولة الأمة التمثيلية بتوافق المكونات وتصالح الهويات، لتبدأ طريقها الوعرة نحو الديموقراطية.
في طريقها نحو تأسيس شرعية الدولة الوطنية، تتخذ دول شرقنا الأوسطي ذات المسار العسير. ستبقى تغلي وتفور في موجات متتالية من الاحتجاج المسيّس. ولن ينجو منها الاّ تلك الدول التي ستستبق سرطان الراديكاليات، بتعزيز تنوعها وسلمها الأهلي، لعلّها تتجنّب السقوط في هذا الثقب الأسود.
وحين تستعصي ظاهرة على القمع، وتستمر في قرع باب التاريخ، فلأنّ وراءَها قوى لا تُرد! فإما أن تفلح المنطقة في الخروج من مأزق الراديكاليات، لتؤسس وطنها التعددي الجامع، أو أنّ ثمة سيناريو آخر!.
انّه السيناريو الذي لخّصه الخبراء من “شركائنا الإقليميين”. فطغيان الميليشيات العقائدية، وتهديدها الوجودي لمشروع الدولة، بلغ حداً يهدّد مجرد وجود الدولة الوطنية، ليضعنا من جديد تحت وصاية هؤلاء الشركاء الإقليميين.
ولنا أن نختار!