عند الحديث عن أسباب تأخر سن الزواج، يجب أن نضبط المصطلحات الصحيحة.. ففي فترة ليست بالبعيدة، كان الشباب يشتكي من تأخر الزواج لأسباب تقريبا جلها مادية، مثل السكن والعمل والظروف الحياتية المزرية، وبعضها اجتماعية محضة. أما الآن، فالتأخر انقلب عزوفا وقطيعة لأسباب مستحدثة وغير موضوعية، ولا تخرج عن كونها مبررات واهية. الشروق العربي، تبحث في الظاهرة، ليس طلبا للحلول بقدر ما هي محاولة لتحديد الأسباب.
إن ظاهرة عزوف الشباب عن الزواج باتت ظاهرة ترهق المجتمع، وتنخر هيكله شيئا فشيئا، حيث لا تزال الأسباب الموضوعية اقتصادية بحتة، خاصة غلاء المهور وأزمة السكن.
من بين أسباب عزوف الشباب الأخرى، العلاقات العاطفية الفاشلة، التي عادة ما تبدأ في سن مبكرة، السمة فيها قلة النضج والتهور، وتنتهي هذه العلاقات بالفشل الذريع، لأن معظمها لا يتسم بالجدية، ويقابل برفض الأهل. الباحثون الاجتماعيون ينوهون إلى نقطة مهمة، هي انتشار مبدإ المساواة في الحرية والتحرر من قيود المجتمع الذي تنتهجه المرأة أكثر فأكثر. المرأة اليوم صارت تتمتع بالاستقرار المادي والنفسي، ما جعلها تؤخر مشروعي الزواج والإنجاب، ريثما تحقق أحلامها وتصل إلى أهدافها، ولكن قطار الحياة قد لا يتوقف في كل المحطات، فتجد المتحررة منهن نفسها تملك المال ولا تملك على من تنفقه.
هناك كارثة بكل المعايير، مرتبطة بشغف الكثير من الرجال بفكرة الاستقلالية وعدم الرغبة في تحمل المسؤولية وتكوين أسرة وإنجاب أطفال، وعدم الثقة في اختيار الشريك الصحيح، حتى أصبحت الصورة الذهنية عن الزواج عموما مشوهة، في نظر شريحة معتبرة منهم.
صار الشباب يفكرون بدل النساء، ويرون بأنهن يرغبن في استمرار استقلاليتهن ولا يبحثن عن تحمل المسؤولية، وهي نفس نظرة الطرف الآخر، فالفتيات ينظرن إلى الشبان على أنهم غير مهيئين لتحمل المسؤولية.
شباب على كف عفريت
سألنا الكثير من الشباب عن سبب عزوفهم، أو تأخرهم، عن الزواج، وكل الإجابات كانت تصب في بوتقة واحدة:
الزواج مكلف والعلاقات مزيفة.. والكثير طرح ظاهرة الطلاق والخيانة، وأيضا الصورة المشوهة التي تسوقها خاصة المؤثرات عن الزواج، حيث يتفاخرن بمشاكلهن وطلاقهن في الستوريهات واللايفات.
منير، في الأربعين، ليس مكترثا للضغوط التي تمارس عليه من عائلته، خاصة والدته، للزواج: “أنا لست مستعدا للتفريط في حريتي، في محيط الأصدقاء.. أرى الكثير من المشاكل والطلاق وأمورا لم نكن نسمع عنها من قبل”. أكرم، لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، ويجد نفسه صغيرا على الارتباط، ويبرر ذلك بأنه لم يجد بعد من يمكنه الوثوق فيها في غابة الذئاب”. أما علي، فهو كهل في الخمسين، لم يعد يفكر في الزواج، بعد قصة حب فاشلة، وبعد أن أدرك- كما يقول- أنه كان يعيش وهما. عبد الرحمن، قصته مختلفة، فهو كان على وشك الزواج، لكنه اكتشف أن زوجته المستقبلية تطالب ببيت مستقل عن أمه، وهو ما رفضه رفضا قاطعا، لذا، قرر العزوف عن الزواج، بعد أن انهار عشه الزوجي قبل البناء.
نبيل، في السادسة والثلاثين، ورغم مركزه وراتبه الممتاز، يؤجل فكرة الارتباط، لأنه لا يؤمن بأن الزواج سيوفر له السعادة التي يجدها في السفر وارتياد المطاعم والخرجات مع الأصدقاء والاستقلالية، “صحيح أن فكرة الأبوة ملحة، لكني لن أغامر باستقلاليتي الآن.. ربما بعد الأربعين”.
عبد المالك، موظف بسيط في شركة خاصة، لا يرفض فكرة الزواج، بل يؤجله إلى حين إيجاد المعلمة أو الطبيبة التي ستساعده على تحمل ثقل المسؤولية وتساعده على توفير متطلبات الأسرة.
وجهة نظر مهدي غريبة، لكنها لا تخلو من معنى، فهو يقول إنه عوّل على الزواج منذ 5 سنوات، لكنه لا يزال يجمع المال للمراسم، خاصة أن تكاليف الزواج تتضاعف كل سنة.
إن حللنا الأسباب التي ذكرناها، نجد أن التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي ساهمت بالنسبة كبيرة في تفاقم ظاهرة عزوف الشباب عن الزواج، بعد أن برز مؤشر جديد أكثر خطورة من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، هو انتشار نماذج فاشلة جعلت الشباب يهابون فكرة الزواج، وأسقطت قدسية تكوين أسرة من أولوياتهم، بالإضافة إلى شروط الزواج التعجيزية، التي لا تزال قائمة إلى حد الساعة. فأرباب الأسر يرون بأن من واجبهم الاطمئنان على بناتهم، بطلب الشقة والسيارة ومهر يقصم ظهر البعير. أما الشباب، فيعلنون عدم قدرتهم على تحقيق أحلام البنات بزفاف أسطوري وشهر عسل في جزر المالديف وأطقم الذهب والألماس والبيت المستقل والقائمة طويلة… وبين هذا وذاك، طار الزواج في مهب الريح.
النيلين