دخل القطاع الصحي في السودان مرحلة الانهيار، بعدما تضاءل سوق الدواء بنسبة 70%، وأصبحت الخدمات الطبية متردية، نتيجة نقص المعدات، ونفور الأطباء، بسبب الاعتداءات عليهم.
وقد تأزم الموقف أكثر جراء عدم توافر الإمداد الدوائي، في أعقاب الأحداث التي شهدتها ولاية الجزيرة والمخاطر المتوقعة من فقدان الأدوية، خاصة المنقذة للحياة، في وقت تضاءلت كمية الأدوية المتوافرة في البلاد إلى ما دون 30%.
وتدهور الوضع الصحي في السودان إلى حد الانهيار، بعدما أجبرت الحرب العديد من الأطباء على التخلي عن مهنتهم بسبب تعرض معظم الكوادر الطبية للاعتداء والضرب والقتل من عناصر قوات الدعم السريع، مع أن استمرار المعارك، منذ منتصف إبريل/ نيسان الماضي، حرم المنشآت الصحية من الأدوية والمستلزمات الأساسية، فيما تقود حالة الفوضى أيضاً إلى تقليص قدرة الأطقم الطبية على إنجاز المهمات الطبية المنوطة بها.
وأفاد أطباء “العربي الجديد” بأن القطاع أصبح على شفا الانهيار، بعدما توقفت المستشفيات الكبيرة في البلاد، ودُمّرت مرافق طبية أخرى، حكومية وخاصة، فضلاً عن تعرّض مئات الصيدليات للتدمير أو النهب منذ بدء الأزمة.
وفي أعقاب استيلاء “الدعم السريع” على مدينة ود مدني، حذرت نقابة الأطباء من أن اتساع رقعة الحرب وتمددها إلى عاصمة ولاية الجزيرة يضع البلاد أمام واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في ظل الصراع الراهن.
وبعد اندلاع الحرب في الخرطوم ومدن أخرى، أصبحت ود مدني ملاذاً آمناً نسبياً لمرضى القلب والسرطان والكلى والحالات الطبية المستعصية، من الذين يواجهون مصيراً مجهولاً بسبب إغلاق المستشفيات ونقص الدعم الصحي والموارد الطبية ونزوح الأطباء والكوادر الصحية.
ولفتت نقابة الأطباء إلى أن غالبية المستشفيات أصبحت خاوية وغير قادرة على تقديم الخدمات الطبية اللازمة، حيث جرى احتلال مستشفى الجزيرة للطوارئ والإصابات وخرج عن الخدمة، وجرى إغلاق مركز مدني لأمراض وجراحة القلب، بعدما أصبح مباشرة في مرمى نيران الاشتباكات العسكرية، فضلاً عن توقف الخدمة في باقي المستشفيات التخصصية. وأضافت: “تزداد الأمور تعقيداً بإغلاق الصيدليات ونقل الأدوية التجارية خارج ود مدني”.
وحذرت منظمة الصحة العالمية من أن النظام الصحي في السودان قد وصل إلى نقطة الانهيار نتيجة للضغط الكبير على المرافق الصحية وانخفاض قدرتها على استيعاب الاحتياجات المتزايدة الناجمة عن تفشي الأمراض وسوء التغذية.
وكشف تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية أن 11 مليون شخص يحتاجون إلى مساعدات صحية عاجلة، وبيّن أن 70% من المستشفيات في الولايات المتضررة توقفت عن العمل جراء النزاع، بينما تعاني المستشفيات المتبقية من الإنهاك بسبب تدفق الأشخاص الذين يلتمسون الرعاية، وغالبيتهم من النازحين داخلياً.
وبدأت أزمة شح الدواء في السودان منذ يناير/ كانون الثاني 2020، عندما ألغى بنك السودان المركزي تخصيص 10% من حصيلة الصادرات غير النفطية التي كانت توجه لاستيراد الدواء.
وفي عام 2021، أوشك مخزون الأدوية الضرورية والمنقذة للحياة على النفاد، بعدما تسبّبت احتجاجات في إغلاق ميناء بورتسودان.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت ندرة بعض الأدوية الضرورية كأمراض السكري وضغط الدم تلوح في الأفق، وزادت أسعار بعض الأدوية 200%، وباتت أصناف من الأدوية غير متوافرة، مما اضطر بعض المؤسسات العلاجية الخاصة لشراء العقارات والأدوية الطبية من السوق السوداء بالتعاقد مع بعض التجار القادمين من خارج البلاد.
شلل جميع مصانع الأدوية في السودان
وحذرت منظمات وهيئات محلية ودولية من كارثة إنسانية كبيرة بسبب نقص الدواء في أوساط العالقين بمناطق القتال، في ظل الإغلاق الكامل للصيدليات والمراكز الصحية في عدد من المناطق، حيث توقفت كل المصانع العاملة في إنتاج الأدوية في السودان، وعددها 26 مصنعاً، 3 منها للغازات الطبيعية، واثنان للأدوية البيطرية، و21 للأدوية البشرية، وتنتج ما بين 30 إلى 40% من إجمالي الحاجة المحلية للدواء سنوياً.
وبعد سيطرة قوات الدعم على ولاية الجزيرة، حذرت اللجنة العليا للطوارئ الإنسانية والصحية من أن أكثر من 26 ألفاً من مرضى السرطان والكلى يواجهون خطراً حقيقياً بسبب عدم توفر الدواء. كما جرى تعليق عمل برنامج الأغذية العالمي التابع لهيئة الأمم المتحدة ومنظمة “أطباء بلا حدود” في ولاية الجزيرة، بعدما أحرزت فيها قوات الدعم السريع تقدماً على الجيش، وتكرار الهجمات على مراكز المنظمتين.
ومع تمدد مساحة الحرب في البلاد، تتوسع رقعة معاناة المرضى وتتزايد تكاليف العلاج.
معاناة مع تكاليف العلاج.. وأطباء بلا أمان
وفي السياق، يقول المواطن عيسى أحمد إن تكلفة نفقات البحث عن العلاج باهظة للغاية، مشيراً إلى أنه استطاع نقل والده مريض الكلى إلى ولاية الجزيرة في أعقاب إعادة فتح المراكز بمدينة ود مدني، إلا أنه فوجئ بعد توسع رقعة الحرب بأن عليه الانتقال إلى مكان آخر عبر طرق ملتوية قاسية عبر الدواب وسيراً على الأقدام حتى الوصول إلى مناطق آمنة.
وكما المرضى وعائلاتهم، الأطباء ليسوا بخير. وقال طبيب لـ”العربي الجديد”، مفضلاً عدم الكشف عن هويته، إن بعضهم ترك الخدمة في المستشفيات حفاظاً على أرواحهم، حيث أصبحوا مهددين دوماً من العصابات المسلحة، في حين يرى آخرون أن جميع المستشفيات والمراكز الصحية أغلقت أبوابها ولا يوجد مساحة للعمل تحت أي ظرف من الظروف، مؤكدين أن “لذلك تأثيراً كبيراً على المرضى، حيث تتزايد أعداد الوفيات بنسب غير متوقعة”.
وأكد وزير الصحة هيثم محمد إبراهيم، في اجتماع نوقشت فيه الأوضاع الصحية الأسبوع الماضي، أن السودان فقد الإمدادات الطبية لمعظم المخزون الدوائي الذي كان موجوداً في ولاية الجزيرة والخاص بمرضى السرطان والكلى، إضافة إلى معظم الأدوية والمستلزمات الطبية.
وأكدت عضو اللجة الفرعية لاختصاصي النقابة الطبية أديبة إبراهيم السيد، لـ”العربي الجديد”، أن “انهيار النظام الصحي أصبح واقعاً يصعب تداركه، وأوضاع المرضى أصبحت تتجاوز مرحلة الخطورة”، مبينة أن “تدهور النظام الصحي أدى إلى انعدام الدواء والرعاية الصحية”، في وقت أكدت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان أن “انهيار النظام الصحي يهدد حياة آلاف الأطفال والنساء”.
وتقول الصيدلانية بثينة توفيق أن أدوية الأنسولين والسرطان والتخدير وغيرها من الأدوية المنقذة للحياة بدأت تتقلص، وأكدت أن “كل التقديرات تشير إلى أن النقص في الأدوية المنقذة للحياة بلغت نسبته ما بين 60 و70%”.
وتشدد توفيق: “ليست هذه المشكلة الوحيدة التي تواجه المواطنين، حيث ارتفعت أسعار الدواء والمحاليل الطبية بنسب وصلت إلى أكثر من 700% خلال الأشهر التسعة الماضية”.
كما أن البيانات الرسمية أشارت إلى اختفاء أكثر من ألف و500 صنف من نحو 1700 صنف مستخدمة، منها 160 من الأدوية المنقذة للحياة.
العربي الجديد