في سبعينيات القرن المنصرم، سخر إِسلاميو السودان مما يرونه انصياعاً مطلقاً من قبل نظرائهم الشيوعيين للاتحاد السوفياتي، إلى حد استعارة المقولة الشهيرة “لو تساقطت الثلوج في موسكو لارتدى الشيوعيون في الخرطوم معاطفهم”.
اليوم يرتكب إِسلاميو السودان الخطيئة نفسها، وهم يرسمون مستقبل علاقاتهم مع سياسيي الداخل بالتأسيس على مواقفهم إزاء ما يجري لحكومات الإِسلاميين حول العالم.
وتمت آخر عمليات الفرز إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
أسئلة ملغومة
يثير موقف النظام الحاكم في السودان حالياً تساؤلات جدية عن سر التأييد المطلق لأحفاد العثمانيين، الذين نكلوا بأجدادهم خلال حقبة استعمارية مظلمة (1821-1885).
ما الذي يجعلهم مناصرين لرئيس “منصاع لنصوص دستور علماني” بموازاة تشددهم في إظهار إِسلامية دولتهم ورفضهم لكل دعاوى مدنية الدولة، أو علمانيتها؟
قبل وضع إجابات تحت هذا السؤال الشائك، لا بد من الإشارة إلى أن الخرطوم تصدرت العواصم المنددة بمحاولة الانقلاب في تركيا، وسير إِسلامييها في مواكب فرح هادرة بعودة أردوغان للسلطة، ثم وبمزاليج غليظة، أغلقت جميع المؤسسات والمدارس التابعة لفتح الله غولن المتهم من أنقرة، بالوقوف وراء محاولة الإطاحة بحزب العدالة والتنمية. كما صرّح الرئيس السوداني عمر البشير، لوسائل الإعلام عقب المحاولة الفاشلة، قائلاً: “حكومة وشعب السودان يقفان صفاً واحداً مع الرئيس التركي”.
الأسوة الحسنة
التحليل المباشر سيذهب بنا إلى أن مناصرة حكومة الرئيس عمر البشير لنظيره أردوغان، تعود لانطلاقتهما من المنصة الإسلامية نفسها.
ولكن، بقليل من التمعن نجد أن السبب في ذلك وجودي في الأساس. ففي ظل تراجع كبير لرصيد الإِسلاميين في بورصات الربيع العربي، تمظهر في القضاء على حقبة مرسي في مصر، وضعف هيمنة الغنوشي في تونس، لم يتبق من نماذج الإِسلام الحركي في المنطقة سوى نظام الملالي في إيران، ونظام البشير في السودان، وحكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا.
يقول الأمين السياسي لحزب المؤتمر السوداني، الناطق السابق باسم تحالف قوى الإجماع الوطني المعارض، أبو بكر يوسف، لرصيف22، إن إِسلاميي السودان قدموا طوال 27 عاماً قضوها في الحكم نموذجاً سيئاً للإِسلام السياسي، وقطعوا الطريق أمام حركات الإِسلام السياسي في المنطقة، كما تسبب اقتفاء مرسي لآثارهم في الحكم إلى اندلاع ثورة شعبية ضده.
ويحمّل يوسف إِسلاميي بلاده مسؤولية انفصال جنوب السودان عام 2011، وفظائع دارفور التي قادت المحكمة الجنائية الدولية لتوجيه جرائم حرب وإبادة جماعية بحق الرئيس عمر البشير. زد على ذلك حالة التردي الاقتصادي الكبيرة، التي يدفع ثمنها الأهالي على هيئة إتاوات وزيادات في أسعار السلع والخدمات.
ويعتقد يوسف أن الخوف يساور إِسلاميي السودان من ذهاب النظام التركي بكل معدلات نموه الاقتصادي وسياساته الرامية لوضع أنقرة ضمن العواصم الأوروبية. لأن من شأن ذلك أن يجعلهم بكل تركتهم وحيدين في الساحة، قبالة مجتمع دولي يناصبهم العداء وضد شارع عانى الأمرين من تردي أحواله الاقتصادية، وينتظر التحاقه بشعوب الربيع العربي.
عند هذه النقطة، ينفي الأمين العام للحركة الإِسلامية في السودان (الحاضنة الفكرية للإِسلاميين)، “الزبير أحمد الحسن”، أن يكون وجودهم في السلطة مرهوناً بما يجري خارج الحدود.
وقال لرصيف22: “لا اعتقد بوجود فجوة بين الحركة الإِسلامية والمجتمع حالياً، الحركة الإِسلامية موجودة بعضويتها في الأحياء والأندية وفي المساجد وموجودة في الشارع، ومع الناس في كل ممارساتهم اليومية، وهذا أمر يصدقه ولا يكذبه العمل الاجتماعي أو العمل السياسي الممارس باسم الحركة الإِسلامية، ووجود جماهير لها بمئات الآلاف أو بالملايين كما في الانتخابات الأخيرة 2015”.
لم الشمل
استغل إِسلاميو السودان ما جرى في مصر وتركيا خير استغلال لتوحيد الصف الإِسلامي، مقابل ما يسمونه اصطفافاً يسارياً ضدهم. وبعد سنوات على مفاصلة العام 1999 بين الرئيس عمر البشير وعراب الإِسلاميين الراحل حسن الترابي، عادت علاقة الرجلين لحالها بعد ثورة يونيو على مرسي.
ويوم قال الشعب المصري قولته في مرسي، انتقد الإِسْلَاميون في السودان وصف أكبر تحالف معارض (قوى الإجماع الوطني) لما جرى في الجارة الشمالية بأنه ثورة شعبية. واعتبروا أن ذلك التوصيف إعلان لجاهزية المعارضة لإقصائهم عن الحكم بحال واتتهم الفرصة.
وعليه التأم شمل الأحزاب الإِسلامية السودانية في جبهة عريضة، قبلت الانخراط في الحوار الوطني الذي دعا له الرئيس البشير، وسانده الترابي، وقاطعته القوى المعارضة.
واليوم يتم إطلاق التحذير نفسه عقب ما جرى بتركيا.
يدافع يوسف عن موقفهم المناصر لتحركات الشارع المصري، باعتباره تأييداً لثورة شعبية ضد محاولات “أخونة” الدولة. ويضيف: “في الوقت نفسه نحن نددنا بمحاولة الانقلاب في تركيا، باعتبارنا معادين لدخول العسكر في العملية السياسية، ورافضين لمحاولات الإقصاء بما في ذلك إقصاء الإِسلاميين”.
وينبه يوسف إلى أن النظام في السودان يحاول الهروب من مشكلاته الداخلية ولملمة الإِسلاميين في بوتقة واحدة، برفع “فزاعة” استعداد القوى الليبرالية لإقصائهم من الحكم، ومن الحياة السياسية.
لكن الأمين العام للحركة الإِسلامية في السودان، الزبير أحمد الحسن اعتبر أن الانقلاب الذي حدث في دولة تركيا مؤامرة تبدو داخلية ولكنها إقليمية وعالمية لخفض راية الإِسلاميين. وتابع: “ذلك يقتضي منا أن نكون مستعدين للاحتمالات كافة، ولا بد من تعزيز الصف الداخلي في الحركة الإِسلامية والسودان.
عقدة الذنب
وصل إِسلاميو السودان عام 1989 إلى الحكم بوسيلة الانقلاب على نظام ديمقراطي منتخب، ومع ذلك هم اليوم من مناهضي الانقلاب كآلية لاستلام السلطة.
يفسر أبو بكر يوسف ذلك الموقف على أنه نتاج شعور عميق بالذنب، ويقول: “لم تنجح حكومات الإِسلاميين في محو كونهم حاصلين على السلطة بطريقة غير شرعية. ولا تغير من ذلك الواقع في شيء الانتخابات الصورية ومحاولات فسح المجال أمام مشاركة شكلية لأحزاب حليفة تهتم لمصالحها ولا يهمها الشارع”.
وفي موازاة ذلك، ينوه الحسن بأن انقلاب 1989 أمنته ضرورات موضوعية تخص تلك المرحلة، كان أهمها تهيؤ قوى يسارية تنشط خلاياها داخل الجيش السوداني للاستيلاء على الحكم بوسيلة الانقلاب، وكانت في طريقها لإقصائهم من المشهد السياسي والتنكيل بهم.
ويقطع جازماً أن الحركة الإِسلامية ضد تحصيل السلطة بالانقلاب. يشهد على ذلك إقرارهم لمبدأ تداول السلطة سلمياً عبر انتخابات شفافة ومراقبة دولية تجري كل خمس سنوات. وتساءل في حديثه لرصيف22: “ماذا نفعل إن كانت بعض قوى المعارضة تمانع الدخول في سباق ديمقراطي يكشف الأوزان السياسية الحقيقية، ويظهر بوضوح رضا الناس عن حكم الإِسْلَاميين وحكوماتهم”.
مقداد خالد -رصيف22