اتصال بلينكن بالبرهان.. هل جاء متأخرا؟

اتصال بلينكن بالبرهان.. هل جاء متأخرا؟

_ ركابي حسن يعقوب _

قالت وزارة الخارجية الأميركية في بيان لها الثلاثاء 28 مايو/ أيار الحالي، أن الوزير أنتوني بلينكن أجرى اتصالا هاتفيا برئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، بحث من خلاله “ضرورة إنهاء الصراع في السودان (على وجه السرعة)، وتمكين وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق بما في ذلك الوصول عبر الحدود وعبر خطوط المواجهة، وذلك من أجل تخفيف معاناة الشعب السوداني”.

وبحسب البيان فإن الوزير بلينكن تطرق أيضا إلى استئناف مفاوضات (جدة)، وضرورة حماية المدنيين والتخفيف من حدة الأعمال العدائية في الفاشر بولاية شمال دارفور.

اهتمام الدبلوماسية الأميركية بملف السودان في خضم انشغالها بالملف الإسرائيلي الذي يأتي على رأس قائمة أولوياتها منذ السابع من أكتوبر، هو دلالة على وجود ارتباط وثيق بين الملفين

يأتي هذا الاتصال من الجانب الأميركي بالقيادة السودانية في ذروة انهماك وانشغال رأس الدبلوماسية الأميركية بتطورات الحرب الإسرائيلية على غزة، وتداعياتها المتسارعة التي تصب في اتجاه لا يخدم مصالح الولايات المتحدة، كون هذه التطورات تضرب سياجا محكما من العزلة الدولية على إسرائيل حليفتها الكبرى بالمنطقة، وما يمكن أن تلحقه هذه العزلة من أضرار جسيمة بمصالح أميركا بالمنطقة بصفة خاصة وعلى المستوى الدولي بصفة عامة.

اهتمام الدبلوماسية الأميركية بملف السودان في خضم انشغالها بالملف الإسرائيلي الذي يأتي على رأس قائمة أولوياتها منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، هو دلالة على وجود ارتباط وثيق بين الملفين ويعزز من هذه الفرضية أن التواصل تم بمبادرة من الجانب الأميركي وكانت الوسيلة (مباشرة) عبر التواصل الهاتفي، وتشديد الوزير الأميركي على ضرورة إنهاء الصراع في السودان “على وجه السرعة” بحسب بيان الخارجية. مع الأخذ في الاعتبار أن أميركا ظلت تتعاطى مع ملف الحرب في السودان ببرود، وانخراطها فيه كان لا يتعدى إطلاق العبارات الدبلوماسية التقليدية التي تعبر عن القلق وتدعو وتناشد وتطالب الأطراف بالتهدئة، دون أن تتبع ذلك بخطوات عملية جادة للمساعدة على إنهاء الصراع.

فما الجديد إذن هذه المرة وفي هذا التوقيت..؟
سؤال وجيه ومنطقي يفرض نفسه محاولاً البحث عن إجابة وتفسير يزيل كثير من علامات الاستفهام حول حقيقة الدوافع الأمريكية، وتتوالد الكثير من الأسئلة وتتوالى من وحي الخطوة الأمريكية.

نطاق حركة السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية يشمل العالم بأسره حسب وجهة النظر الأميركية، التي تصنف نفسها على أنها القوة العظمى الأولى في العالم، وترى أن كل ما يقع من أحداث في العالم يؤثر سلبا أو إيجابا على مصالحها ومكانتها وسمعتها

لماذا إنهاء الصراع “على وجه السرعة”؟
ولماذا جاءت الخطوة الأميركية بعد يوم واحد من انعقاد المؤتمر التأسيسي لـ (تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية السودانية) المعروفة اختصارا بـ “تقدم” بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا، ولماذا ارتفع مؤشر الاهتمام الأميركي بملف الحرب في السودان مع التقدم الواضح للجيش السوداني وحلفائه من حركات الكفاح المسلح في دارفور والقوات النظامية الأخرى، والمتطوعين للقتال من المستنفرين من الشباب على الأرض وسلسلة الهزائم التي منيت بها مؤخرا ميليشيا الدعم السريع، وفقدانها لكثير من مواقعها في العاصمة الخرطوم، وفي ولايات الجزيرة والنيل الأبيض وشمال وغرب كردفان. وهل للوضع الحالي في مدينة الفاشر بشمال دارفور علاقة مباشرة بالتحرك الأمريكي المفاجئ؟

وهل في جعبة الإدارة الأميركية حل يمكن أن يكون شاملا ومرضيا ومقبولا لدى الشعب السوداني الذي رزح تحت وطأة نار الحرب وويلاتها وذاق الأمرين طوال أكثر من عام جراء الفظائع المروعة التي ارتكبتها في حقه ميليشيا الدعم السريع؟، وما طبيعة هذا الحل؟

من المعلوم أن نطاق حركة السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية يشمل العالم بأسره حسب وجهة النظر الأميركية، التي تصنف نفسها على أنها القوة العظمى الأولى في العالم، وترى أن كل ما يقع من أحداث في العالم يؤثر سلبا أو إيجابا على مصالحها ومكانتها وسمعتها، ولذلك لا بد لها من التدخل صونا لهذه المصالح سواء بصورة مباشرة أو عبر وكلائها الإقليميين.

وبالتالي فإن هذا المفهوم يفرض على أميركا الكثير من التحديات وأولها الاصطدام بمصالح قوى دولية أخرى منافسة تتعارض مصالحها مع مصالحها، وهنا مربط الفرس، ونقطة البداية لفهم الرغبة الأميركية في إنهاء الحرب في السودان “على وجه السرعة.

الانخراط الروسي أثار المخاوف الأميركية من إمكانية أن ترمي موسكو بثقلها في مساعدة الجيش السوداني على القضاء على ميليشيا الدعم السريع وإنهاء الحرب، ومن ثم توطيد العلاقات الثنائية السودانية الروسية

ففي يونيو/حزيران من العام الماضي أجرى مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محادثات مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في موسكو، أوضح خلالها لافروف أن بلاده تتابع بقلق الوضع في السودان ومستعدة للمساعدة في وقف الاعتداءات وتسوية النزاع وتهيئة الظروف لتطبيع الأوضاع، معتبرا أن الأزمة السودانية شأن داخلي وحلها بيد السودانيين، وأن روسيا مستعدة لدعم الشعب السوداني متى ما طلب منها ذلك، مضيفا أن موسكو تقف مع الشعب السوداني ومؤسساته الشرعية القائمة.

ثم في الثامن والعشرين من أبريل / نيسان الماضي زار ميخائيل بوغدانوف مبعوث الرئيس الروسي الخاص للشرق الأوسط وأفريقيا ونائب وزير الخارجية الروسي السودان على رأس وفد روسي كبير، حيث أجرى مباحثات على مدى يومين مع وزير الخارجية السوداني ومسؤولين سودانيين، أكد فيها أن “مجلس السيادة السوداني هو الممثل الشرعي للشعب السوداني”، مستنكرا الدعاوى القائمة على المساواة بين شرعية الدولة السودانية والتمرد، ومشيرا إلى دعم بلاده للسودان في مواجهة كل ما من شأنه تهديد سيادته ومصالح شعبه.

هذا الانخراط الروسي أثار المخاوف الأميركية من إمكانية أن ترمي موسكو بثقلها في مساعدة الجيش السوداني على القضاء على ميليشيا الدعم السريع وإنهاء الحرب، ومن ثم توطيد العلاقات الثنائية السودانية الروسية وما قد يترتب عليه من حصول موسكو على مزايا إستراتيجية في الأراضي السودانية ومياهه الإقليمية التي ظلت تمثل حلما يراود الدب الروسي، وعجزت عن تحقيقه منذ عقدين من الزمان، وأصبح الآن قاب قوسين أو أدنى منها.

السودان وروسيا في الوقت الراهن وفي ظل التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية التي تواجه كل منهما في أمس الحاجة للتعاون وتبادل المنافع، فما يحتاجه السودان تملكه روسيا، وما تحتاجه روسيا يتوفر لدى السودان.

السودان يحتاج إلى السلاح والذخائر التي تمكنه من المضي قدما نحو حسم تمرد الدعم السريع، وهو ما يتوفر لدى روسيا، وروسيا تريد موطئ قدم في المياه الإقليمية السودانية على البحر الأحمر، وهو طلب في وسع السودان تلبيته وفق بروتوكول يتم الاتفاق عليه بين الجانبين وقد أعلن مساعد القائد العام للجيش السوداني الفريق ياسر العطا في 25 مايو/ أيار الماضي أن اتفاقا سيتم إبرامه قريبا مع الجانب الروسي ينص على توريد أسلحة وذخائر حيوية مقابل “مركز لوجستي” روسي على البحر الأحمر.

وبطبيعة الحال فإن تواجد روسيا على البحر الأحمر وفي هذا الجزء الحيوي منه يمثل تهديدا للمصالح الأميركية في المنطقة، وبصفة خاصة على إستراتيجيتها في حماية أمن إسرائيل بالنظر إلى العمليات التي تقوم بها جماعة أنصار الله الحوثيين في البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن وبحر العرب واستهدافها للسفن المتوجهة من وإلى إسرائيل للضغط من أجل وقف الحرب الإسرائيلية على غزة، والعلاقة وثيقة جدا بين الحوثيين وإيران، وعلاقات روسيا جيدة مع إيران.

“ضرورة حماية المدنيين وفتح المعابر لتوصيل المساعدات الإنسانية” أمر مثير للسخرية لأنه لا يمكن لأحد أن يصدق هذه الكذبة وفي المخيلة “الفيتو الأميركي” في مجلس الأمن ضد أي قرار داعي إلى وقف إطلاق النار في غزة لتمكين دخول المساعدات لأهالي القطاع

لهذا السبب تريد أميركا من البرهان إنهاء الصراع “على وجه السرعة” وفقا للوصفة الأميركية التي تقوم على القبول بمخرجات مؤتمر أديس أبابا المبني على إعلان نيروبي، مقرونا مع مقررات منبر جدة حتى تفوت الفرصة على روسيا، لكن الخطوة الأميركية جاءت متأخرة، فضلا عن أن الإرادة الشعبية والرأي العام السوداني يرفض هذه الوصفة جملة وتفصيلا ويجمع على القضاء على ميليشيا الدعم السريع على الأرض واستبعاد أي دور للكيانات المدنية المتحالفة معها وعلى رأسها “تقدم”. البرهان ليس في مقدوره -ولا يريد- تجاوز هذه الإرادة الشعبية القوية مهما كانت الضغوط الأميركية.

البرهان لن يريق ما عنده من مياه أملا في مياه بلينكن التي هي سراب بقيعة، وميراث العلاقة مع أميركا ذاخر بنقض العهود والوعود الكاذبة، وروسيا كانت أذكى وعملية أكثر من أميركا حيث شخصت الوضع بما يتوافق مع نظرة الحكومة السودانية حين أكدت على شرعية مجلس السيادة، وعلى عدم المساواة بين ميليشيا الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية، وأن للقوات المسلحة الحق في الدفاع وردع التمرد، وأن الأزمة شأن داخلي وحلها يجب أن يكون سودانيا خالصا، بينما بالمقابل تساوي واشنطن بين الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع، وتصف الحرب بأنها صراع بين جنرالين، وتتهم الجيش بارتكاب انتهاكات وتمتنع عن الضغط على الأطراف الإقليمية للكف عن تقديم الدعم العسكري واللوجستي للميليشيا.

أميركا لم تعد تملك ورقة ضغط واحدة في مواجهة السودان لحمله على قبول وصفتها لإنهاء الحرب، أما حديث بلينكن عن “ضرورة حماية المدنيين وفتح المعابر لتوصيل المساعدات الإنسانية” فهو أمر مثير للسخرية ولا يعدو كونه ذر للرماد في العيون لأن لا أحد يمكن أن يصدق هذه الكذبة وفي المخيلة الفيتو الأميركي في مجلس الأمن الدولي ضد قرار المجلس الداعي إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة لتمكين دخول المساعدات لأهالي القطاع، ووقف المجازر التي تقوم بها إسرائيل، فالأخلاق لا تتجزأ وللعدالة وجه واحد وما من أحد يصدق أن إدارة بايدن تهتم لسفك أي دماء طالما لم تكن هذه الدماء صهيونية .

أما لماذا ارتفع مؤشر الاهتمام الأميركي بملف الحرب في السودان متزامنا مع الوضع الحالي في مدينة الفاشر بشمال دارفور، فالإجابة واضحة وبسيطة وهي أن الموقف العسكري للجيش السوداني في أفضل حالاته، وأن الموقف العسكري لميليشيا الدعم السريع في أسوأ حالاته، وأن معركة الفاشر هي المعركة الفاصلة والحاسمة والخاسر فيها يخرج من اللعبة نهائيا، وتدرك واشنطن تماما أن الميليشيا لن تربح، وبالتالي فهي تريد تقديم طوق نجاة للميليشيا، وتحول هزيمتها على الأرض إلى نصر على طاولة المفاوضات لكن هيهات.

Exit mobile version