بأي الأثمان بعنا السودان؟
_ سليمان الأمين _
قبل أشهر، وتحديدا ليلة السابع والعشرين من رمضان، كنت في قطار نيروبي مومباسا أيمم وجهة المدينة المسلمة المطلة على المحيط.. جلست قبالتي سيدة تتحدث الإنجليزية، وتلاطف صبية تبين أنهم من منتخب الناشئين في لعبة الشطرنج، كانت تحاول بلغة إنجليزية طليقة إقناعهم بالتخفيف من هيجانهم وضوضائهم.. وحين غمغمت محوقلة علمت أنها مسلمة، ثم عرفت أنها من السودان.
مضى الجزء الأكبر من الرحلة في حديث عن البلد الضخم الملقب بسلة غذاء العالم العربي، وما يعاني من محنة اقتتال وفتنة حرب داخلية.. سرعان ما زفرت وهي تبوح بأطوار ما يجرى هناك، حيث الرصاص يلعلع حول المدرسة، التي كانت تدرّس فيها الإنجليزية قبل أن تقرر المغادرة إلى مصر والعمل في مدرسة سودانية سرعان ما أُغلقت، لتعاني الأمرّين من سوء المعاملة خلال إجراءات الرحيل إلى كينيا عبر إثيوبيا.. أبى زوجها المغادرة، ورافقها ابنها الذي كان يعمل حارسا أمنيا لدى سفارة أوروبية في الخرطوم.
يحتشد في كينيا آلاف السودانيين في ظروف قاسية، وجلّهم بلا عمل أو مورد رزق.. لا أفق لرجوع قريب إلى أرض الوطن، ولا أمل في حل جذري للمعاناة هنا أو هناك..
لم تشُب نبرة حديثها شكوى ولا حسرة إلا على بعض ما لقيت خلال شهور إقامتها الغريبة في فضاء فيصل مصر الحبيبة، وظلت تحدثني عن الإصرار على السعي، ومحاولة تجاوز الأزمة والبحث عن مخرج..
عادت بي الذكرى لأكثر من خمسة عشر عاما، حين زرت الخرطوم وبهرني كرم أهله وحفاوتهم وعلو همتهم.. وإن نسيت فلا أنسى مبادرة وزير حضر افتتاح ورشة الإيسيسكو التي دُعيت إليها، حين قدم لي هاتفه للتواصل مع أهلي في تونس، لمجرد أنه اكتشف المأزق الذي وقعت فيه وأنا احاول عبثا الاتصال.. يومها سألت عن الأديب الكبير الطيب صالح، وعلمت أنه مقيم في لندن.. هو لم يعش لحظة هجرة الملايين إلى دول الجوار من جراء استعار نار حرب أوقدها أهل البلد.
موسم الهجرة إلى الجنوب هذه.. وجل المرتحلين بلا أوراق أو عناوين، لم ترحمهم وحوش آدمية غرتها المخاطر، وما يتدفق من جهات مشبوهة حالمة بموطئ قدم ومغانم لا تنفد.
لم يجد المهجرون وقتا للسؤال عن حقيقة ما يجري.. لا وقت للتحقيق، ولا فسحة للتأمل والبحث والاستنتاج.. الحشود تتقاطر على تشاد وليبيا وتونس وإثيوبيا وكينيا.
تتعاون منظمات الهجرة والصحة واللاجئين الأممية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في مخيمات وقتية؛ غير أن النزيف أكبر، والكارثة أشد فداحة واتساعا.
وبالأثناء تستمر المأساة ويتسع نطاق الخرائب والدمار، وتتعالى أصوات احتفال الفريقين بظاهر انتصارات باطنها مجازر ودمار.. يخربون بيوتهم بأيديهم العميلة لمن أوعز وموّل، ودجج وأغدق.. الحريق يأتي على الأخضر الموعود باكتفاء غذائي واهم، والأرض تستحيل إطلالة.
لسان حال المنكوبين والمهجرين يشكو بعمق من جراء التجاهل العربي واللامبالاة العامة والصمت الرهيب.. ماذا يستلزم لتنتبه جامعة العرب من سباتها، ويستجيب أهل الكهف للنداء مما يحيق بأهلهم في الخرطوم وأم درمان وفاشر ودارفور وبحري؟ وظلم ذوي القربى أشد مضاضة.. وليل المظالم قصير مهما طال.
جرح السودان الشاخب أشبه بمحنة غزة.. وربما أقسى.. فالجرح الغائر مصدره خنجر قريب.. والكل في البلاء يعاني من قابلية مزمنة للطعن والاستهداف والاستعمار..
بلد هو بمثابة قلب الأمة وشريانها الرئيس، يُبدَّد ويُبتلى بكل هذا الغدر، ويواجه المدنيون عزلا بطش أبناء الوطن المتخاصمين .
السودان الوطن غال جدا، وشعبه متجذر وعصي على المحن، وسيعود شامخا مجددا، رغم نوائب الزمن.
كم من ثور يجب أن يؤكل عمدا وبأيدي الأشقاء حتى نتأكد أن الدور على الآخرين آتٍ لا محالة؟ لمن يشكو الشعب المبتلى الشهيد الشريد؟
كم نخسر بضياع بلد النيلين؟ كيف هان علينا؟ وبأي ثمن بيع السودان؟
هل سقط السودان؟ ومن يسقط الآن؟