في زيارة هي الأولى من نوعها منذ 60 عاما حل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يوم 5 يونيو/حزيران الجاري ضيفا في العاصمة التشادية نجامينا، في خطوة اعتبرها مراقبون أنها سيكون لها ما بعدها على مستوى العلاقات الثنائية أو في إطار الصراع الدائر على منطقة الساحل بين روسيا ومنافسيها من الدول الغربية.
ففي 24 يناير/كانون الثاني 2024 كسر الرئيس التشادي الانتقالي حينها محمد إدريس ديبي حاجز المحاذير والتخوفات وأجرى زيارة لموسكو وُصفت بأنها تاريخية، وقال حينها إنه يأمل تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين.
أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقد صرح في تلك الزيارة قائلا إن روسيا وتشاد تعدان حزمة قوانين في الوثائق الثنائية التي من شأنها توسيع الإطار التعاقدي والقانوني، مشيرا إلى أن موسكو ستواصل تقديم المساعدات لجمهورية تشاد، وأن بلاده مستعدة لمضاعفة المنح الدراسية للطلاب في الدولة الأفريقية.
وتكمن أهمية الزيارة في كون تشاد هي الدولة الوحيدة المتبقية في منطقة الساحل التي لديها وجود عسكري فرنسي وأميركي في أعقاب الانقلابات التي جرت في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتحول أفريقيا الوسطى قبل ذلك إلى منطقة نفوذ روسي، والتي حققت جميعها انسحاب القوات الفرنسية.
وقد وصف المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف تشاد بأنها شريك محتمل، وقال إن الكشف عن مجالات التعاون لا يزال مبكرا، وهناك الكثير مما يجب العمل عليه، حسب وكالة سبوتنيك.
رحلات لافروف والإستراتيجية الروسية
وفي رحلة البحث عن توسيع النفوذ الروسي زار لافروف أفريقيا 17 مرة منذ يوليو/تموز 2022، وهو ما يدل دلالة واضحة على إصرار موسكو على تحقيق إستراتيجيتها الجديدة في القارة السمراء، إذ إنها تعمل بقوة على تقويض نفوذ خصومها الغربيين فيها.
وكان نتاج تلك الزيارات توقيع عدد كبير من الاتفاقيات مع عدد كبير من الدول الأفريقية قياسا على قصر الفترة التي بدأت فيها مقاربتها الجديدة بالقارة.
وعلى الرغم من توقيع الدولتين اتفاقية تعاون في 2013 فإن العلاقات ظلت فاترة بين الطرفين، خاصة بعد وفاة ديبي الأب عام 2021، حيث اتهمت نجامينا حينها موسكو باستخدام مجموعة فاغنر لإثارة تحركات من شأنها زعزعة الاستقرار في حدود تشاد حسب تقارير عديدة، ولكن تسارع تحسن العلاقات بين البلدين ظهر بعد زيارة ديبي الابن إلى موسكو في يناير/كانون الثاني الماضي.
اتفاقيات ثنائية واهتمامات مشتركة
وتأتي زيارة لافروف بعد فترة كافية لتهيئة الأجواء وإنضاج الظروف المناسبة للوجود الروسي الذي يثير حفيظة حلفاء تشاد الغربيين بعد التجارب التي أقصت وجودهم في منطقة الساحل.
وفي المؤتمر الصحفي بين وزيري الخارجية قال لافروف للصحفيين إن المناقشات ركزت على خطط المستقبل والمسارات الإستراتيجية التي حددها زعيما البلدين في يناير/كانون الثاني الماضي.
وركزت المحادثات على تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية والتفاعل الاستثماري، وستشكل موسكو لجنة عمل خاصة لمناقشة المشاريع الواعدة.
واتفق الوزيران على تطوير التعاون في مجال الأمن نسبة لاستمرار التهديدات الأمنية في المنطقة، وتعهد لافروف بتزويد الجيش التشادي بالأسلحة والمعدات العسكرية لتعزيز قدراته الدفاعية وقدرته على مكافحة الإرهاب في البلاد، بالإضافة إلى تطوير شبكة الكهرباء التشادية بحيث يمكنها توفير الطاقة الكهربائية لـ90% من المواطنين، حسب وسائل إعلام محلية.
وأبدى الرئيس محمد ديبي اهتماما خاصا بالاستخدام السلمي للطاقة النووية، وتحدث عن الخبرة المتراكمة لدى شركة “روساتوم” الروسية من خلال التعامل مع الدول الأفريقية.
مواطنون تشاديون يرحبون بزيارة لافروف إلى نجامينا (الفرنسية)
كيف هيأ الطرفان أرضية الزيارة؟
ويبدو أن زيارة محمد ديبي في يناير/كانون الثاني لموسكو وضعت اللبنة الأساسية، وهي التي أسست للزيارة التاريخية لوزير الخارجية الروسي، وسبقت ذلك أحداث مهمة لعبت دورا مساعدا وكانت مؤشرا ذا دلالات عملية ومهمة قبل الإعلان الرسمي لعودة العلاقات.
ففي منتصف أبريل/نيسان الماضي فاجأت السلطات التشادية ملحق الدفاع الأميركي بخطاب موجه من رئيس الأركان الجوية إدريس أمين -ولم يُرسل عبر القنوات الدبلوماسية المتعارف عليها- يفيد بإلغاء اتفاقية وضع القوات الأميركية التي تحدد القواعد والشروط التي تعمل بموجبها بتشاد (قوات العمليات الخاصة).
وهو ما تم تفسيره بأنه اتجاه لتقليل الوجود الغربي والإفساح للتمدد الروسي، خاصة أن القرار جاء بعد شهر واحد من إنهاء النيجر اتفاقية وجود القوات الأميركية على أراضيها، في حين فسره آخرون بأن تشاد تمارس ضغوطا من أجل اتفاق يحقق لها ما تريد.
وتم الإعلان عن نجاح القوات الروسية في تحرير 21 جنديا تشاديا كانوا محتجزين لدى الجماعات المسلحة لمدة 9 أشهر في عملية مشتركة مع زملائهم من تشاد، حسب وصف وسائل الإعلام الروسية، مما دفع وزير الدفاع التشادي للتعبير عن شكره لروسيا لدورها في تحرير الرهائن، وأكد على موثوقيتها كشريك لأفريقيا على عكس فرنسا والولايات المتحدة الأميركية التي ادعى أنهما تسعيان فقط إلى استغلال الدول الأفريقية.
واستخدمت الحكومة الشركات العسكرية الروسية الخاصة لمساعدة ديبي على إخضاع المتمردين في شمال البلاد، والبدء في استغلال احتياطيات كبيرة من الذهب في سلسلة جبال التبت بالقرب من حدود البلاد مع ليبيا، مما أغضب عددا غير قليل من جنرالات الجيش.
النفوذ الروسي يحاصر تشاد
لم تحط روسيا رحالها في نجامينا إلا بعد أن قامت بترتيب ملفاتها في دول جوار تشاد التي أصبحت ضرورة إستراتيجية، إذ سيسمح تمركزها في تشاد بخضوع مجموع دول الساحل والصحراء لنفوذها، وقد قامت بخطوات مهمة في محيطها:
في ليبيا
رغم الوجود الروسي في شرق ليبيا التي يسيطر عليها الجنرال خليفة حفتر منذ مدة طويلة فإن الفترة الأخيرة شهدت زيارات مكثفة من قبل المسؤولين الروس، فقد زار نائب وزير الدفاع الروسي بنغازي 5 مرات منذ أغسطس/آب 2023، إذ تحدثت تقارير عدة عن تدشين روسيا قواتها الجديدة والتي أطلقت عليها “فيلق أفريقيا” لتتسلم مهام فاغنر.
ومن المتوقع أن يكتمل الفيلق بحلول صيف 2024، حيث تتمركز القوة الأساسية وقوامها 1800 جندي في كل من برقة وفزان، كما أن وزير الخارجية لافروف قال في زيارة له إلى بنغازي إن روسيا ستفتتح قنصليتها، وأشار إلى عودة الشركات الروسية في قطاعات النفط والغاز والبنية التحتية إلى ليبيا.
في السودان
بعد تردد دام سنوات اتخذ السودان قرارا حاسما بمنح روسيا ما أطلق عليه الطرفان “مركز دعم فني ولوجستي عسكري” على البحر الأحمر، جاء ذلك بعد زيارة ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي إلى العاصمة السودانية المؤقتة بورتسودان على رأس وفد من وزارتي الدفاع والخارجية، وبعد أيام قليلة كذلك من اعتماد أوكرانيا سفيرا لها في السودان.
جاء الاتفاق تحت إلحاح الحاجة السودانية للسلاح والعتاد العسكري، وتمتد الاتفاقية 25 عاما تنتهي برغبة الطرفين في إنهاء الاتفاق، وسيستقبل المركز الروسي 300 جندي روسي و4 قطع بحرية، بما فيها السفن الحربية.
تفاعلات الزيارة وأصدائها
على الرغم من أن لافروف ظل يجوب أفريقيا باستمرار منذ تدشين الإستراتيجية الروسية الجديدة فيما عُرفت بالعودة الروسية إلى القارة السمراء فإن ما حظيت به زيارته الأخيرة لتشاد -ضمن جولته التي شملت 4 دول أفريقية- كان كبيرا ولافتا.
وقد تناول الإعلام التشادي تلك الزيارة باعتبارها نقطة تحول في تطور العلاقات الثنائية، وأنها تمت وسط تقارب تشاد مع روسيا وابتعادها عن الدول الغربية.
وقال رئيس جامعة نجامينا محمد صالح دوسا حجار إن العاصمة التشادية بدأت استعدادها لتدريس اللغة الروسية، إذ إن لديها تعاونا مع عدد من الجامعات الروسية، واقترح الوفد الروسي إدخال دورات تدريبية متخصصة للشباب على غرار مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
من جهته، قال محمد طاهر زين رئيس تحرير صحيفة رفيق إنفو إن هناك أطماعا روسية في المنطقة، حيث تسعى للتسلل إلى تشاد بعد أن عززت وجودها العسكري في ليبيا والنيجر والسودان وأفريقيا الوسطى.
تخوفات وهواجس غربية
وصفت الصحف الغربية زيارة لافروف الأخيرة إلى أفريقيا بأنها جولة معادية للغرب، وكانت تشاد هي المحطة الأكثر تسببا في التخوفات الغربية باعتبارها آخر المعاقل التي تملك فيها فرنسا نفوذا قويا لا ينازعها فيها أحد منذ الاستقلال.
أما على الصعيد الأوروبي فيحاول سفير الاتحاد الأوروبي في نجامينا كورت كورنيليس أن يبذل قصارى جهده لإيجاد وإظهار موقف أوروبي موحد تجاه الأوضاع في تشاد، وإرسال رسائل تقارب إلى الرئيس المنتخب بعد فترة شابتها الشكوك وتسببت في تأخير الاتحاد الأوروبي مبلغ 2.6 مليون يورو كان مقررا دفعها لتمويل العملية الانتخابية في تشاد ضمن برنامج الانتقال السياسي للأمم المتحدة، حسب صحيفة رفيق إنفو التشادية.
رسائل روسية وتحد تشادي
في ختام زيارته حاول وزير الخارجية الروسي في مؤتمر صحفي مع نظيره التشادي بث رسائل طمأنة للغرب قائلا “صداقتنا مع جمهورية تشاد لن تؤثر على علاقاتها مع فرنسا، لكن باريس لديها منهج مختلف، إما أن تكونوا معنا أو أنتم ضدنا”.
أما وزير الخارجية التشادي عبد الرحمن غلام الله فصرح في المؤتمر الصحفي ذاته بأن “تشاد دولة ذات سيادة تقيم علاقاتها مع من تريد، ولسنا رهائن لأي شخص”.
من جهة أخرى، حذر الزميل الأقدم في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية كاميرون هدسون في ديسمبر/كانون الأول 2023 من سقوط تشاد كآخر دولة في منطقة الساحل، ورافق ذلك تقارير نشرتها أجهزة أميركية تتحدث عن خطط روسية لتقويض النظام التشادي بالتنسيق مع فصائل المعارضة.
وهو ما فسره محللون بأنه تحريض للسلطات التشادية ضد روسيا، ولكن ما جرى بعده بشهر واحد هو أن الرئيس ديبي زار موسكو وبدأ رحلة الاندماج في الحالة العامة لمنطقة الساحل.
ولا تزال تشاد تستضيف أكبر قاعدة عسكرية فرنسية في أفريقيا، كما أنها تعتبر نقطة تجمع للقوات التي انسحبت من النيجر، فضلا عن وجود قوات العمليات الخاصة الأميركية، مما يضع الدولة الأفريقية في موقف صعب للموازنة بين الحلفاء التاريخيين والقادم الجديد الذي بدأ يبسط نفوذه في الدول التي تحاصر البلد من كل الاتجاهات.
المصدر : الجزيرة