جريدة بريطانية : الجنيه السوداني تنهار قيمته ويبقى مجهول المصير

كانت تقارير اقتصادية أفادت بأن الحكومة السودانية قامت بخصخصة نسبة كبيرة من ميزانيتها لدعم الجيش واستيراد الوقود، مما أدى إلى تأثير سلبي في الاقتصاد وتزايد العبء على الموازنة العامة.

تشهد العملة السودانية (الجنيه السوداني) هذه الأيام انخفاضاً متواصلاً في مقابل العملات الأجنبية بخاصة الدولار الذي بلغ مستوى قياسياً غير مسبوق في السوق الموازية، مما يعد تدهوراً تاريخياً في قيمة العملة المحلية تسبب في تفاقم المعاناة التي يعيشها السودانيون مع استمرار الحرب الدائرة منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023.

وكان سعر الدولار الواحد عند بداية الحرب يعادل 570 جنيهاً لكنه تجاوز الآن الـ2500 جنيه بزيادة قاربت الـ400 في المئة خلال 15 شهراً من اندلاع الحرب، حيث سبب هذا التراجع اضطرابات مصرفية وزاد الضغوط الاقتصادية على البلاد، فضلاً عن تقليص القدرة الشرائية للمواطنين مما أسهم في تفاقم الأزمات الاقتصادية وارتفاع الأسعار وتنشيط السوق السوداء.

لكن ما مصير الجنيه السوداني في ظل تراجعه المتواصل بسبب استمرار الحرب وتداعياتها على الصُعد كافة؟

اختناقات وفجوة

يشير وزير الدولة السابق في وزارة المالية السودانية والمستشار الاقتصادي والمالي لعدد من المنظمات والمؤسسات المالية والتنموية الدولية التجاني الطيب إبراهيم، إلى أنه “نتيجة للأضرار الجسيمة التي ألحقتها الحرب بالقطاعات الحيوية في البلاد مثل الزراعة والصناعة والخدمات تراجع إجمالي الناتج المحلي (جملة السلع والخدمات المنتجة) عام 2023 بنسبة 18 في المئة، وبحوالى خمسة في المئة خلال النصف الأول من عام 2024. وأدى تراجع أداء القطاعات الحقيقية إلى اشتداد الاختناقات في الإنتاج المحلي مما زاد بقدر كبير في الاعتماد على الواردات بخاصة السلع الغذائية والحربية، كما تقلص الحجم الكلي للصادرات التي تعد المصدر المهم للنقد الأجنبي، باستثناء الذهب الذي حافظ على أدائه المعهود، إذ بلغت صادراته 748 مليون دولار في النصف الأول من هذا العام”.

ويتابع “معلوم أن هناك أربعة مصادر أخرى للنقد الأجنبي في السودان غير الصادرات تتمثل في تحويلات المغتربين السودانيين، والاستثمار الأجنبي المباشر، والعون الخارجي من المنح والهبات، والقروض الميسرة، لكننا نجد أن ما انتهجه النظام السابق من سياسات مالية واقتصادية وفساد مالي وإداري، فضلاً عن آثار الحرب الحالية وما سبقها من صراع سياسي، تسبب في تجفيف مصادر الاستثمار والعون الأجنبي والقروض الميسرة، فمثلاً تحويلات المغتربين التي كانت تمول أكثر من 70 في المئة من العجز التجاري تقلصت بين 45 و50 في المئة قبل سقوط النظام السابق بسبب انتقال السوق الموازي إلى خارج البلاد نتيجة لاعتماد الدولة على الإجراءات الإدارية والأمنية بدلاً من اتباع سعر صرف واقعي لتحويلات المغتربين وحصائل الصادر لمحاربة السوق السوداء”.

وزاد إبراهيم “كل هذه العوامل أدت إلى تنامي عجز الميزان التجاري المتمثل في الفرق بين الصادرات والواردات، الذي من المتوقع أن يكون قد ارتفع من 3.9 مليار دولار في نهاية 2022 إلى حوالى 6.5 مليار دولار في نهاية النصف الأول من 2024، فضلاً عن حدوث فجوة في النقد الأجنبي تقدر بحوالى 8 مليارات دولار، إذ بلغت الواردات والحاجات الحربية حدود الـ12 مليار دولار في مقابل حوالي 4.5 مليار دولار صادرات وتحويلات مغتربين، لذا فهذه الفجوة الدولارية هي السبب الرئيس في استمرار تدهور قيمة العملة المحلية”.

وبيّن أنه “في بداية الحرب وصل سعر الدولار الواحد 570 جنيهاً مع فارق بسيط بين السعر الرسمي والموازي ليبلغ في الـ21 من يوليو (تموز) الجاري 2600 جنيه في مقابل 1991 جنيهاً في البنوك”. لافتاً إلى أن هذه الأرقام الصادمة مؤشر للفارق الكبير في كل دولار بين سعر الشراء بالسوق الرسمية والموازية، مما يفسر تحكم السوق الموازية في أسواق النقد الأجنبي، فضلاً إلى أنه أصبح مربط الفرس بالنسبة إلى تحويلات المغتربين ومصدراً أساسياً في تحديد حركة الأسعار الكلية أي التضخم الذي وصل إلى مستوى غير مسبوق بحوالى 412 في المئة خلال يوليو 2021، قبل أن يبدأ في التراجع التدرجي حتى وصل 63 في المئة خلال فبراير (شباط) 2023، بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء.

ومضى وزير الدولة السابق في وزارة المالية السودانية والمستشار الاقتصادي والمالي لعدد من المنظمات والمؤسسات المالية والتنموية الدولية بالقول إنه “قياساً إلى ارتفاع سعر الصرف من المتوقع أن يكون معدل التضخم قد وصل إلى 252 في المئة، أي تضاعف أكثر من ثلاث مرات خلال الـ14 شهراً الماضية، مما فاقم سوء الأوضاع المعيشية المتأزمة أصلاً وتمدد البطالة وبخاصة بين الشباب والفقراء”.

ونوه إلى أن “استعادة النشاط الاقتصادي سيتطلب تشديد السياسات المالية وخفض الضغوط التضخمية، لكن قبل كل ذلك لا بد من وقف الحرب وكل الأنشطة الحربية والصراعات المسلحة في البلاد، مع التركيز على الإنفاق التنموي بأسبقية قصوى وضبط الإنفاق الجاري غير التنموي لبناء هامش آمن يزيد القدرة على تحمل أعباء الدين وتشجيع الدعم الخارجي وتقليل الاعتماد على الواردات، إضافة إلى القيام بإصلاحات جذرية وبخاصة في قطاعات الزراعة والصناعة والنفط والمعادن من أجل تحسين التنافس واستقرار سعر الصرف ومرونة سوق العمل، وتخزين وتسويق الإنتاج وإعفاء كافة مدخلاته للقطاعات الحقيقية من الجمارك والضرائب والرسوم الإدارية ما عدا ضريبة القيمة المضافة التي تمثل مصدر إيراد رئيساً للدولة”.

وأكد إبراهيم أن من شأن إصلاح الحوكمة والقطاع الخارجي والإطار التنظيمي أن يسهم في زيادة الإنتاج والنمو، لكن تطاول أمد الحرب والصراعات السياسية واستمرار الأوضاع الاقتصادية والسياسات المالية على حالها سيزيد الطلب على الدولار، لذا سيحدث الضغط على أسعار الصرف والمستهلك. موضحاً أن إنعاش الاقتصاد السوداني على المدى القصير مرهون بحصول السودان على دعم خارجي بمقدار 6 إلى 7 مليارات دولار.

إجراءات عاجلة

قال الباحث الاقتصادي محمد الناير “بالفعل حدث تراجع كبير جداً وغير مسبوق في قيمة الجنيه السوداني في مقابل العملات الأجنبية قياساً إلى ما كان عليه الأمر قبل اندلاع الحرب، إذ كان الدولار في المتوسط بحدود 500 جنيه، في حين لامس حالياً الـ 2500 جنيه”.

وتابع “في تقديري أن من الطبيعي أن يحدث تراجع في قيمة العملة الوطنية لأية دولة تعاني الحرب، لكن من غير الطبيعي أن تقف مكتوفة الأيدي ولا تتحرك لاتخاذ إجراءات سريعة وعاجلة للحد من هذا التدهور، فليس من المطلوب أن تعمل الدولة على تحسين قيمة الجنيه أو تقويته، لكن عليها اتباع سياسات تعمل على إيقاف التدهور، وهذا في حد ذاته إنجاز ومكسب كبيران، ثم التفكير بعد إيقاف الحرب في كيفية تقوية العملة”.

وأردف الناير “إذن هناك بطء في قرارات الدولة وقصور في هذا الجانب، ولعل أحد أسباب هذا التدهور هو تعطل مصفاة (الجيلي) للبترول، التي كان لها دور كبير جداً في إنعاش الاقتصاد السوداني، فضلاً عن توقف تصدير نفط بترول جنوب السودان على رغم أن هناك مؤشرات إيجابية بأن العمل في صيانة الخط الناقل قطع أكثر من 80 في المئة، ومن المتوقع استئناف التصدير قريباً مما يساعد في ضخ عملات أجنبية في خزينة البلاد”.

وبين أنه “كان لبنك السودان المركزي فرصة منذ وقت مبكر من اندلاع الحرب عقب حوادث النهب التي طاولت البنوك والمواطنين أن يلغي تداول فئتي الألف والـ500 جنيه في النشاط الاقتصادي، وأن يختصر التعامل بهما داخل الحسابات المصرفية باعتبارها أرصدة إلكترونية، مثل هذا الإجراء كان من شأنه معالجة كثير من القضايا أولها القضية المزمنة الخاصة بوجود أكثر من 90 في المئة من الكتلة النقدية خارج الإطار المصرفي، فضلاً عن عودة الأموال التي نهبت إلى المصارف مرة أخرى مما يؤدي إلى اكتشاف العملات المزورة ومعرفة مصدر الأموال وتقليل المضاربة في الدولار التي تعتمد على وجود كمية من الكتلة النقدية في أيادي المواطنين”.

وختم الباحث الاقتصادي “هناك أيضاً خطوة أخرى لا بد من حسمها وهي قضية استيراد المحروقات التي تتم بواسطة الشركات تماشياً مع سياسة تحرير الاقتصاد، لكن في ظل ظروف الحرب يفترض أن يوكل الأمر للدولة أو المؤسسة العامة للنفط أو أية جهة حكومية متخصصة في هذا النشاط لأن من شأن هذا الإجراء أن يقود لطرح المحروقات بأسعار تقل عن سعرها الحالي ما بين 25 و30 في المئة، مما يساعد في خفض أسعار السلع وغيرها بصورة كبيرة”.

مصير مجهول

وأرجع أحد تجار العملة مصطفى عبدالله، انخفاض قيمة الجنيه السوداني إلى الطلب الكبير على العملات الأجنبية بصورة عامة والدولار بصورة خاصة من قبل المواطنين بغرض تحويل عملاتهم المحلية إلى عملات أجنبية ونقلها إلى الخارج مع تزايد موجات النزوح للأسر السودانية، وذلك خوفاً من المصير المجهول للجنيه السوداني في ظل استمرار الحرب وعدم وجود أفق واضح لإيقافها، كذلك هناك طلب على الدولار من التجار الذين يقومون باستيراد السلع من أسواق الدول المجاورة مثل مصر وأثيوبيا وتشاد”. مضيفاً، “نتلقى في أحيان كثيرة طلبيات لا نستطيع تغطيتها مما يجعل السعر يرتفع على مدار الساعة”.

تشير التوقعات الاقتصادية إلى مستقبل مظلم، مما ينبئ باستمرار ارتفاع أسعار الصرف لتصل إلى أرقام فلكية مما يزيد الضغوط الاقتصادية على المواطنين. في وقت حذر عدد من الاقتصاديين من مغبة تدهور الاقتصاد السوداني نتيجة لاستمرار الحرب للعام الثاني على التوالي، مما يسبب انخفاض قيمة العملات وارتفاع معدلات البطالة. مشيرين إلى أن اقتصاد بلادهم يواجه خطر الانكماش والوصول إلى معدلات نمو سلبية بسبب تراجع الإنتاج وتدهور قيمة العملة المحلية، مما يفرض الحاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة هذه الأزمة.

يأتي ذلك في ظل دور محموم تقوم به السوق السوداء ويعكس واقعاً معقداً للاقتصاد السوداني من خلال تمويل الأنشطة العسكرية وتعزيز الاقتصاد غير الرسمي، مما يسهم في تقويض السياسات النقدية والمالية للدولة.

وكانت تقارير اقتصادية أفادت بأن الحكومة السودانية قامت بخصخصة نسبة كبيرة من ميزانيتها لدعم الجيش واستيراد الوقود، مما أدى إلى تأثير سلبي في الاقتصاد وتزايد العبء على الموازنة العامة، حيث تعتمد الحكومة بشدة على الذهب باعتباره مصدراً أساسياً للدخل، الذي يستخدم كذلك في دعم القوات المسلحة وهو ما يجعل حكومة الخرطوم بحاجة ماسة إلى تنويع مصادر الإيرادات لتحقيق استقرار اقتصادي أكبر.

صحيفة اندبندنت البريطانية

Exit mobile version