جريدة بريطانية : لماذا يتجاهل العالم كارثة السودان؟

قالت مجموعة من 50 منظمة لحقوق الإنسان بقيادة المديرة التنفيذية لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” تيرانا حسن، إن السودان “لم يعُد على شفا الفظائع الجماعية، لقد سقط من الحافة”.

بعد 16 شهراً من اندلاع الحرب في السودان بين الجيش وقوات “الدعم السريع” في أبريل (نيسان) 2023، لا يحظى الوضع الإنساني إلا بقدر ضئيل من الاهتمام، فقد تعهد المجتمع الدولي بعد بلوغ الحرب عامها الأول في أبريل الماضي بتقديم 2.2 مليار دولار أميركي لرفع المعاناة عن كاهل الشعب السوداني، النازحين منهم بالداخل واللاجئين في دول الجوار. لكن وعود المانحين الدوليين لم تتحقق إلى حد كبير، إذ لا تزال خطة الاستجابة الإنسانية تعاني نقصاً حاداً في التمويل، فلم تتلقَّ سوى 21 في المئة من التمويل المطلوب حتى الآن، بحسب ما أوضحت المنظمة الدولية للهجرة التي أضافت أن “العالم لا يبذل ما يكفي من الجهود لمكافحة أزمة السودان”.

حرب منسية

استغرق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ما يقارب عاماً لتبني قرار في شأن السودان يدعو إلى الوقف الفوري للأعمال العدائية ووصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق. وإقليمياً لم يدرج مؤتمر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي الوضع في السودان كبند مستقل على جدول أعماله خلال قمته السنوية في فبراير (شباط) الماضي، وهي القمة الأولى منذ اندلاع النزاع.

هذه الحرب التي يستمر فيها القتال مع عدم وجود تدابير لحماية المدنيين، وتزداد خلالها الحاجة العاجلة للمساعدات لمنع المجاعة أو الحد منها والتقليل من المعاناة، وصفها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أشهر بأنها “حرب منسية”، بينما قال مراقبون لحقوق الإنسان إن “المجتمع الدولي أصيب بالتعب بسبب الصراع في السودان مع انحراف البلاد نحو دولة فاشلة”. وذكرت مجموعة من 50 منظمة لحقوق الإنسان بقيادة المديرة التنفيذية لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” تيرانا حسن، أن السودان “لم يعُد على شفا الفظائع الجماعية، لقد سقط من الحافة”.

وكتبت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، مقالة في صحيفة “نيويورك تايمز” بعنوان “الصمت الذي لا يغتفر في شأن السودان”، رأت فيها أن “الحرب حولت السودان إلى جحيم حي، لكن حتى بعد أن صنفت جماعات الإغاثة الأزمة الإنسانية في البلاد أنها من بين الأسوأ في العالم، لم يحظَ السودانيون إلا بقدر ضئيل من الاهتمام أو المساعدة”.

في يونيو (حزيران) الماضي أطلق نشطاء سودانيون حملة بعنوان “العالم يتجاهل السودان”، ومن بينهم لجان المقاومة في المدن المتأثرة بالحرب، لإطلاع المجتمع الدولي على المعاناة التي يعيشها السودانيون، والمتعلقة بالنقص الحاد في الغذاء والخدمات الطبية والعلاج، إضافة إلى أزمة الفيضانات التي أثرت في المناطق التي اجتاحتها بانتشار الأوبئة وانهيار المساكن، وبصورة كبيرة فيمن يعيشون ضمن معسكرات اللجوء أو المباني المتهالكة المستخدمة كأماكن للإيواء.

مجاعة وشيكة

بسبب الحصار المفروض على مناطق كثيرة وسيطرة طرفي النزاع على أجزاء من أقاليم السودان، تعذر وصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها، وهذا الوضع خلقته الحواجز العسكرية أو ما يُسمى “الارتكازات”، إذ تفرض قيوداً على حركة المدنيين مما يدفعهم إلى اعتماد طرق بعيدة وخطرة، إضافة إلى تعرض مناطق السيطرة نفسها للاشتباكات.

هذا الحصار عزل المدنيين وأعاق إمكان الوصول إلى الغذاء والماء لأشهر عدة بسبب بعض التجاوزات المتعلقة بحماية طواقم المنظمات المقدمة للمساعدات الإنسانية، كما سحبت الأمم المتحدة الموافقة من الإدارات التي يساندها الجيش السوداني، مما عرقل نقل الإمدادات من تشاد إلى دارفور عبر معبر أدري الحدودي.

وأخيراً أعلن بيان مشترك من الإمارات والسعودية ومصر والولايات المتحدة وسويسرا والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة قرار القوات السودانية فتح معبر أدري في خطوة “لإنقاذ الأرواح”، وعبرت الأطراف الدولية المجتمعة في جنيف لمحادثات أزمة السودان السبت الماضي عن ترحيبها بقرار مجلس السيادة السوداني برئاسة الفريق عبدالفتاح البرهان بفتح المعبر لمدة ثلاثة أشهر لإدخال المساعدات الإنسانية وفق إجراءات معينة.

وأفاد نائب مفوض “العون الإنساني” عثمان عبدالرحمن بأن “المانحين التقليديين قدموا مساعدات ضئيلة بنسبة 33 في المئة من جملة الحاجة الكلية البالغة مليار و700 مليون دولار”، وذكر أن المفوضية عقدت اجتماعات مع المنظمات وتواصلت مع بعض الدول الشقيقة والصديقة، وطلبت منها تقديم مساعدات للمحتاجين.

وقال مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) “فشل المجتمع الدولي قد يترك الملايين معرضين لخطر المجاعة في السودان”، في حين أورد عضو “لجان مقاومة ود مدني” عاطف بلة أن “السودانيين يواجهون أسوأ أزمة جوع في مناطق الاشتباكات. وأدى الصراع إلى إفشال الموسم الزراعي، وحتى المحاصيل القليلة التي زُرعت في المشاريع القومية مثل مشروع الجزيرة وغيرها أدى اجتياحها ونزوح سكانها إلى تعطيل موسم الحصاد”.

وأضاف بلة أن “السكان في هذه المناطق كانوا يعتمدون في غئائهم بعد اندلاع الحرب وتوقف التصدير وسوق العمل على العائدات القليلة من الزراعة، وعندما فروا بسبب الاشتباكات لم يستطيعوا تحمل كلفة الغذاء في مناطق النزوح فتأثروا بأزمة الجوع وتعرضوا لسوء التغذية”، منوهاً إلى أنه إذا لم يتدارك المجتمع الدولي الأمر، فإن السودان بما فيه المناطق الزراعية مقبل على مجاعة وشيكة.

لكن عبدالرحمن عاد لينفي وجود مجاعة في السودان، خصوصاً ضمن المناطق التي تمت تسميتها مثل “مخيم زمزم” بولاية شمال دارفور، وردّ نقص المواد الغذائية والدواء إلى اعتراض قوات “الدعم السريع” دخول شاحنات المساعدات الإنسانية، قائلاً “الحديث عن المجاعة في البلاد هو لدواعٍ وأغراض سياسية لاستباحة حدود السودان”.

تدمير المستشفيات

أصدرت وزارة الخارجية السودانية بياناً استنكرت فيه تجاهل المجتمع الدولي والولايات المتحدة، خصوصاً إدانة قصف قوات “الدعم السريع” للمستشفيات، وأوضحت أن “القوات قصفت مستشفى النساء والتوليد التخصصي بالفاشر (المستشفى السعودي) مما أدى إلى وقوع ضحايا وتدمير قسم الحوادث الذي كان يعمل منفرداً بعد تعطل بقية المرافق الطبية نتيجة لاستهدافها”، وذكرت أن “هذا الاستهداف الممنهج طاول قبل أيام مستشفى الولادة (الدايات) بأم درمان، بعد تشغيله بيوم واحد وإعادة افتتاحه وإصلاح الأضرار التي لحقت به خلال عام من احتلاله وتحويله إلى ثكنة عسكرية من قِبل ’الدعم السريع‘”.

واتهمت قوات “الدعم السريع” من جانبها الجيش السوداني باستهداف غاراته الجوية البنية التحتية بما فيها المستشفيات، وذكرت في معرض ردها على بيان الجيش أن “الطيران الحربي درج على قصف المنشآت الخدمية كالمستشفيات الواقعة في مناطق سيطرتنا، وأبرزها مستشفى شرق النيل أكبر المستشفيات في مدينة الخرطوم بحري الذي خرج من الخدمة بعد تدمير أجزاء واسعة منه منذ الأيام الأولى للحرب. وتعرض مستشفى ’ابن سينا‘ في الخرطوم ومستشفى ’البراحة‘ بالخرطوم بحري أيضاً للقصف الجوي الموجه من قبل الطيران الحربي”.

وأضافت أن “عدداً من المستشفيات في أقاليم أخرى من بينها مستشفيات ’بابنوسة‘ و’المجلد‘ في ولاية غرب كردفان للقصف وأخرجت من الخدمة. وفي إقليم دارفور أيضاً وجه الجيش غارات جوية لمستشفيات ’الضعين‘ و’نيالا‘، وتسببت الغارة الجوية على مستشفى للأطفال بالفاشر في مقتل طفلين، مما أدى إلى إغلاق المستشفى الذي كانت تديره منظمة ’أطباء بلا حدود‘”.

وحذرت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد الأسبوع الماضي من أن “توقعات الوفيات في السودان ستتجاوز 2.5 مليون شخص، أي نحو 15 في المئة من سكان دارفور وكردفان بحلول سبتمبر (أيلول) المقبل”.

أزمة الفيضانات

وقالت المنظمة الدولية للهجرة في بيان السبت الماضي إن “أكثر من 117 ألف سوداني نزحوا من منازلهم عبر 12 ولاية بسبب الأمطار الغزيرة والفيضانات منذ يونيو (حزيران) الماضي التي تسببت في نزوح مفاجئ بجميع أنحاء السودان”، موضحة أن “هذا النزوح يأتي في وقت أُجبر ملايين اللاجئين والنازحين داخلياً على الفرار من منازلهم وسط الصراع المستمر بين الجيش وقوات ’الدعم السريع‘”.

وأعلنت وزارة الصحة من جانبها عن تفشي الكوليرا وسط الأزمات المتفاقمة التي يواجهها النازحون ووفاة 76 شخصاً نتيجة الفيضانات، فيما أوضح وزير الصحة هيثم إبراهيم أن “تفشي الوباء جاء نتيجة للظروف البيئية السيئة وتلوث مياه الشرب في مناطق عدة”.

وأفادت وزارة الداخلية السودانية بأن “الأمطار الغزيرة التي جاءت بأشد معدل هبوط مسجل منذ عام 2019 أثرت في الأجزاء الغربية والشمالية والشرقية من البلاد، مما أدى إلى فيضانات بالأحياء وتدمير المنازل والمزارع والبنية التحتية”.

وأعلنت منظمة الصحة العالمية عن نحو 11.300 حالة إصابة بالكوليرا في السودان، من بينها 316 وفاة، محذرة من زيادة حالات حمى الضنك والتهاب السحايا.

وقالت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين “أثرت الأمطار الغزيرة والفيضانات في عشرات آلاف الأشخاص في جميع أنحاء السودان، مما تسبب في مزيد من النزوح والإصابات والوفيات”، مؤكدة أن “اللاجئين الذين تستضيفهم المجتمعات المحلية في ولاية كسلا شرق السودان تأثروا بالفيضانات الشديدة والأمطار الغزيرة خلال الأسبوعين الماضيين. كما تضرر أكثر من 400 مأوى في مخيم ’شجراب‘ للاجئين. وطاول الضرر كثيراً من العائلات التي وصلت أخيراً بعد فرارها من العنف في ولاية سنار التي كانت تؤوي مواقع تجمع ومراكز استقبال عدة، في رحلات نزوح ثلاث أو أربع مرات منذ بدء الصراع”.

وقالت المفوضية إنها بالتعاون مع شركائها يبذلون قصارى جهدهم على الأرض لمساعدة الفئات الأكثر ضعفاً، وبالتعاون مع سلطات الولاية تم تحديد أرض جديدة لإنشاء الخيام وإيواء الأسر المتضررة. وأوردت أن “من المتوقع أن يستضيف الموقع الجديد نحو 800 أسرة نازحة حديثاً بسبب الفيضانات بإقامة ملاجئ الطوارئ، بحيث تم تركيب نحو 400 خيمة حتى الآن. وعلى رغم استمرار هطول الأمطار تم نقل ما لا يقل عن 200 أسرة وتوزيع الأغطية البلاستيكية لهم لإصلاح الأسطح المتضررة من العواصف”.

خدَر نفسي

للإجابة عن سؤال “لماذا لا يتم إيلاء السودان أي اهتمام؟”، رجحت وكيلة الأمين العام للاتصالات العالمية في الأمم المتحدة ميليسا فليمنغ أن “يكون أحد أسباب ذلك ما يعرف بـ’الخدر النفسي‘ الذي يشير إلى الواقع المحزن المتمثل في أن الناس يشعرون بقدر أعظم من اللامبالاة تجاه المأساة كلما زاد عدد الضحايا وازدادت حدة التوترات بين الأطراف المتنازعة”، مضيفة أن “الأزمات الأخرى التي تحدث في الوقت نفسه قد يكون لها تأثير مخدر أيضاً، من تغير المناخ إلى الصراع في غزة إلى حرب أوكرانيا”.

وتتابع فليمنغ أنه “قد تكون لذلك علاقة أيضاً بطبيعة الصراع السوداني، إذ إن الحروب الأهلية خصوصاً، تلك التي يُنظر إليها على أنها أزمات داخلية في بلد بعيد مثل السودان، تحظى باهتمام أقل من الصراعات التي تهاجم فيها دولة أخرى”.

وقال الباحث في معهد “التحرير” لسياسات الشرق الأوسط محمد عثمان، “هذا الفشل للمجتمع الدولي ليس جديداً أو وليد الصدفة بل تمتد جذوره إلى ما قبل اندلاع الصراع، فاتسمت الطريقة التي تعامل بها المجتمعان الدولي والإقليمي مع السودان بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير في 2019، بما في ذلك الأمم المتحدة، بتفضيل المواءمات السياسية على المشاركة الحقيقية القائمة على الإيمان بالمبادئ والحقوق الأساسية. كما أظهرت الحكومة الانتقالية عدم رغبتها في تجديد مهمة البعثة المختلطة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد)، بحجة أنها قادرة على رعاية وحماية المدنيين من دون مساعدة من بعثة حفظ السلام”.

وأوضح عثمان أنه “على رغم توثيق الأمم المتحدة نفسها وغيرها من الجماعات الحقوقية تصاعداً ملحوظاً في أعمال العنف في دارفور خلال الفترة التالية لسقوط البشير، فإن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أخذ وعود الحكومة الانتقالية بحماية المدنيين في دارفور على محمل الجد، وأنهى تفويض بعثة حفظ السلام عام 2020”.

انهيار كارثي

وقال المدير الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة الدولية للهجرة عثمان بلبيسي إن “الجمع بين المجاعة والفيضانات والتحديات الأخرى أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في السودان، وأوصلها إلى نقطة انهيار كارثية”، موضحاً أن “تعذر وصول المساعدات الإنسانية، بما في ذلك العوائق التي فرضها طرفا النزاع، حدّ بشدة من قدرة منظمات الإغاثة على توسيع نطاق عملها وإنقاذ الأرواح، خصوصاً خلال موسم الأمطار الحالي”.

وحذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أنه “من دون استجابة عالمية فورية وواسعة النطاق ومنسقة للأزمة في السودان، فإننا نخاطر بمشاهدة عشرات آلاف الوفيات التي يمكن الوقاية منها في الأشهر المقبلة”.

ونوه مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة (أوتشا) إلى أنه “بعد أشهر من تقاعس المجتمع الدولي، ربما يكون الوضع في السودان وصل إلى نقطة اللاعودة”، متابعاً أن “الأمر يتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة مع نفاد الوقت بسرعة. ونظراً إلى خطورة الوضع الحالي من الضروري إعادة عقد اجتماع للمجتمع الدولي في أقرب فرصة ممكنة لتكثيف الجهود الرامية إلى إنهاء الأعمال العدائية ومعالجة الحواجز التي تحول دون توسيع نطاق الاستجابة الإنسانية، وتنسيق الجهود الدبلوماسية للدفع نحو وصول إنساني غير مقيد باستخدام جميع الطرق عبر الخطوط والحدود”.

 

اندبندنت البريطانية

 

Exit mobile version