المشهد السوداني في أعقاب منصة جنيف ليس كقبله، إذ وضح للفاعلين الإقليميين والدوليين مدى تمسُّك البرهان بحلفائه السياسيين من النظام السابق وبحلفائه العسكريين من الفصائل المسلحة، ولا يوجد سيناريو يطرحه الجيش لمسار سياسي محدد يمكن أن يكون منصة تفاعلية مع المدنيين، سواء أكانوا قوى سياسية أو إدارات أهلية أو غيرهما
لم يراوغ المبعوث الأميركي للسودان توم بيرييلو في الإقرار بفشل مجهوداته الطويلة في شأن عقد منصة معنية بوقف إطلاق النار في السودان، وإذا كان قد أقدم على تحميل الجيش السوداني مسؤولية هذا الفشل، بوصفه الطرف الذي لم يسهل مهمته، إذ لم يحضر وفد ممثل له لا إلى جنيف ولا القاهرة.
كذلك بيرييلو وبصورة موازية لم يدعم الطرف الآخر، أي قوات “الدعم السريع”، بل إنه أفصح عن عدم رغبة بلاده في أن يكون “الدعم السريع” جزءاً من المعادلات السودانية المستقبلية بجميع أنواعها، وهو ما فعله أيضاً مع إخوان السودان المعروفين بعنوان الجبهة القومية الإسلامية، وذلك في أداء ربما يكون غير مسبوق لطرف قائم بأدوار التسهيل والوساطة في أزمة معقدة مثل الأزمة السودانية.
حكومتان مدنيتان
على أي حال منصة جنيف المنبثقة من منبر جدة أنتجت تحالف الألب، الذي يضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، ويضع في أولوياته بعد فشله في عقد التفاوض السوداني السعي لتطويق الأزمة الإنسانية في السودان طبقاً للبيان الختامي، لكن هذا لا يعني ربما حصر مهام هذا التحالف في الأدوار ذات الأغراض الإنسانية فقط.
طبقاً لهذا التقدير ربما تبرز اتجاهات لأدوار محتملة لهذا التحالف على الصعيد السياسي والإنساني، وذلك في سياق مواز لحالة تصعيد عسكري متوقع في السودان ستكون انعكاساً لصراع بين الولايات المتحدة وروسيا على وجه الخصوص.
أما على الصعيد المحلي، فإن سيناريو تكوين حكومتين في السودان تكون كل منهما تابعة لطرف عسكري بات غير بعيد في ضوء تصريحات قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان، ومحمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع، اللذين أعلنا عن اتجاههما إلى تكوين حكومتين مدنيتين متوازيتين، على أن تكون الأولى في بورتسودان والثانية في الخرطوم، وهو تطور مؤسف مماثل للحال في ليبيا التي أسفرت الانقسام العسكري والسياسي فيها عن موت سريري للعملية السياسية.
التداخل الروسي
ربما يكون غير خاف أن زيارة مدير الاستخبارات العامة المصرية عباس كامل لبورتسودان كانت في شأن إطلاع البرهان على كواليس جنيف، وأيضاً تعبيراً عن مخاوف إقليمية ودولية من حيازة الروس نقطة ارتكاز أو قاعدة عسكرية على الشواطئ السودانية في البحر الأحمر.
وتبلورت هذه المخاوف مع الوجود الروسي الذي بات محسوساً في بورتسودان لزائريها، كما أن تفعيل الاتفاق القديم بين السودان وروسيا في شأن الوجود الروسي في البحر الأحمر يبدو أنه قد بات محسوماً على الجانب السوداني، في ضوء تصريحات السفير الروسي لدى السودان في هذا الشأن، وفي ضوء الزيارات المتتالية الرفيعة المستوى التي قام بها مسؤولون سودانيون لموسكو خلال الأشهر الأخيرة.
ويمكن تفسير موقف الفريق عبدالفتاح البرهان المتشدد في شأن التفاوض، وتصريحاته عشية انتهاء منصة جنيف أنه مستعد للقتال على مدى القرن المقبل، بأنها تعبير عن ثقة في شأن حجم التسلح الموعود به من روسيا وإيران، وأن هذا الدعم كفيل بتحقيق نصر شامل طبقاً لرؤيته.
المشكل في هذا التقدير أمران، الأول هو إمكانية حصول قوات “الدعم السريع” على داعمين جدد لديهم أغراض في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً فرنسا. والأمر الثاني هو أن استمرار القتال يعني وجود فاعلين من المنظمات المتطرفة على الأراضي السودانية. صحيح أن الجيش السوداني حتى اللحظة الراهنة لا يزال قادراً على تطويق هذا الاحتمال نسبياً، لكن لا وجود لضمانات فعلية على استمرار هذه القدرة، في ضوء التوسع المحتمل للعمليات العسكرية، والقدرات البشرية المحدودة للجيش.
أما الأمر الثالث، فهو الثمن الإنساني المدفوع في هذه الحرب، إذ يتجاهل البرهان الضغوط السودانية التي تتبلور من كل الحساسيات الاجتماعية، التي تطالبه بالسعي لوقف الحرب والسعي إلى السلام، خصوصاً من التكوينات النسوية، وآخرها الأمهات السودانيات اللاتي قابل ممثلة لهن في بورتسودان أخيراً.
وبطبيعة الحال، المشهد السوداني في أعقاب منصة جنيف ليس كقبله، إذ وضح للفاعلين الإقليميين والدوليين مدى تمسك البرهان بحلفائه السياسيين من النظام السابق وبحلفائه العسكريين من الفصائل المسلحة، وأن رهانه على هذا التحالف مطلق، كما وضح أنه حتى الآن لا يوجد سيناريو يطرحه الجيش لمسار سياسي محدد يمكن أن يكون منصة تفاعلية مع المدنيين، سواء كانوا قوى سياسية أو إدارات أهلية أو غيرهما.
سيناريوهات متوقعة
في هذا السياق، فإن السيناريوهات المتوقعة تبدو على الصعيد الدولي هي اشتعال حرب بين الأطراف المتنافسة على الأراضي السودانية، وذلك على النمط الارتدادي الجاري حالياً بين روسيا وأوكرانيا في منطقة الساحل الأفريقي.
وفي ضوء هذه الحالة التنافسية فربما لن يكون ممكناً تمرير قرارات في مجلس الأمن ضد السودان، على شاكلة حظر طيران أو صدور قرارات تحت مظلة البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو البند الذي يتيح استخدام القوة، إذ ستقف موسكو ضد هذا النوع من القرارات.
على المستوى الإقليمي ربما يتراجع الدعم الذي يحظى به الجيش حالياً، كما سيواجه من واشنطن إجراءات بالغة القسوة، لكنها لن تكون على أية حال قبل حسم الانتخابات الأميركية، وتولي إدارة جديدة أي في يناير (كانون الثاني) المقبل، وربما هذه الفسحة من الوقت المتمثلة في أشهر عدة هي ما يراهن عليه الجيش ربما في حسم الموقف لصالحه.
من جانبه سيحافظ تحالف الألب على تفعيل الاتفاقات المتعلقة بالجانب الإنساني، أي ضمان انسياب دخول المساعدات الغذائية والطبية عبر المعابر المختلفة، وتوسيع عدد هذه المعابر لتشمل كل دول جوار السودان، لكن استمرار انسياب هذه المساعدات لن يكون مضموناً في ضوء التصعيد العسكري المتوقع.
إلى مزيد من اللجوء
وبطبيعة الحال، من المتوقع ارتفاع معدلات اللجوء السوداني إلى دول الجوار، وهو ما يعني ضرورة انتباه لأوضاع هؤلاء في ما يتعلق بحاجاتهم المرتبطة بأوضاعهم القانونية في هذه الدول ومدى تأمينها، وكذلك توفير خدمات كالصحة والتعليم، وأيضاً تلبية حاجات الشباب للعمل والوظائف، وكلها ملفات تعاني تضخمها وتأزمها في كل دول جوار السودان، بما يجعل أدوار منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها، خصوصاً مفوضية اللاجئين يبدو مطلوباً وبإلحاح.
كما أن تمويل هذه الأدوار يكون متطلباً لوفاء الدول المانحة للسودان بتعهداتها المالية، خصوصاً دول مؤتمر باريس المنعقد في أبريل (نيسان) الماضي، وذلك في ما يخص ملف الدعم الإنساني للسودان. وقد تكون حال التراخي الدولي الراهن عن التمويل للملف الإنساني متطلبة نوعاً من الفاعلية والانتباه من جانب منظمات المجتمع المدني الإقليمية والدولية في شأن الضغط لضمان تدفق التمويلات التي جرى التعهد بها، ودعم مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، خصوصاً في مصر التي تتحمل العبء الأكبر من حجم اللاجئين والنازحين السودانيين.
صحيفة اندبندنت البريطانية