(فيضان خور بركه اجتاح المدينة وغمرها بشكل تام.. المياه غمرت المستشفى وحاصرته.. ارتفاع المياه في محيط المستشفى بلغ نحو متر ونصف.. والكوادر الطبية والمرضى اضطروا للسباحة وخوض المياه للوصول إلى المستشفى ) يقول الدكتور مدثر أحمد يحيى المدير الطبي لمستشفى طوكر لراديو دبنقا.
ويضيف:” اضطررت لقطع المسافة بين سكن الأطباء والمستشفى سباحة إثر استدعائي بشكل عاجل لإجراء عملية قيصرية، وبحمد الله فإن العملية قد نجحت والأم ومولودها بخير”
تسبب اجتياح خور بركه لمدينة طوكر يوم الأحد الماضي في عزل المدينة والمناطق التي تقع جنوبها عن بقية أرجاء الولاية، وأدى إلى وفاة 14 شخصاً على الأقل من بينهم أسرة كاملة ما تزال تحت الأنقاض، بجانب متطوعين جرفتهم المياه أثناء محاولات تعزيز الجسور الترابية.
ووفقاً لغرفة طوارئ أرياف البحر الأحمر فإن الفيضان أدى إلى انهيار نحو الفي منزل كليا و1400 منزل جزئيا. كما قضى على آلاف المنازل الاضطرارية، وتضررت 80 في المائة من المتاجر والمخازن، كما غمرت المياه المرافق الحكومية والخدمية بصورة كاملة. فضلاً عن جرف أجزاء من الطريق الترابي الذي يبلغ طوله 17 كيلومتراً ويربط مدينة طوكر بالطريق المسفلت القادم من سواكن.
وبحسب مصفوفة تتبع النزوح التابعة لمنظمة الهجرة الدولية فإن أكثر من 500 أسرة نزحت في طوكر جراء الفيضان.
وعلى الجانب الجنوبي من خور بركه، ومنذ جرف الخوف لجسر دولبياي جزئيا نهاية الاسبوع الماضي، يقف العشرات من سكان قرية مرافيت بمحلية عقيق في ولاية البحر الأحمر يومياً استعداداً للعبور إلى الضفة الأخرى عبر الواح “الفلين” وذلك لجلب بعض السلع الأساسية والغذائية، حيث شارفت السلع في المنطقة على النفاد.
وأدى انهيار جسر دولبياي، الذي يربط بين محليتي عقيق وطوكر، جزئيا إلى عزل محلية عقيق بصورة تامة.
أضرار كبيرة
ويقول تاج السر صالح وهو أحد رجال الإدارة الأهلية في لراديو دبنقا إن الوضع في طوكر بالغ السوء وإن رئيس مجلس السيادة ووالي الولاية وجميع الوفود الحكومية والأهلية لم يتمكنوا من الدخول إلى المدينة مشيرا إلى هبوط المروحية التي كانت تقل رئيس مجلس السيادة، في إحدى الهضاب الطرفية وإن المركبات لم تتمكن من الدخول إلى المدينة منذ يوم الأحد الماضي. وتتكدس جميع المساعدات في منطقة الزيرو التي تبعد 17 كيلومترا من طوكر في انتظار اكتمال صيانة الطريق.
ويضيف “ارتفع منسوب الماء داخل المدينة إلى أكثر من متر، واضطر المواطنون لاستقلال المراكب أو الواح الفلين للتحرك داخل المدينة، فيما اضطر بعض المواطنين للجوء إلى المناطق المرتفعة وسط أوضاع إنسانية بالغة السوء.
ويوم الأربعاء، وصلت الدفعة الأولى من المتضررين إلى مدينة بورتسودان على متن 8 من عربات اللوري ويبلغ عددهم نحو 400 شخص وذلك بعد أيام من خوض المياه والوحل.
بدوره يقول، هاشم آدم عمر إن مياه خور سعبت غمرت منطقة مرافيت بمحلية عقيق التي تقع في الاتجاه الجنوبي من طوكر مما أدى إلى انهيار عدد كبير من المحلات التجارية في المنطقة، فيما آوى المواطنون إلى الجبال والهضاب المجاورة.
وقدرت مبادرات محلية عدد المتضررين في مرافيت والمناطق المجاورة لها بأكثر من 1200 أسرة. وشهدت المنطقة كوارث طبيعية متكررة خلال السنوات الماضية.
تاريخ حافل
وتقع محليتا طوكر وعقيق جنوب ولاية البحر الأحمر، وكانت مدينة طوكر تمثل مركزاً زراعياً وتجارياً مهماً، ويعتبر مشروع دلتا طوكر الزراعي من أقدم المشاريع الزراعية في السودان حيث تأسس في العام 1867م في عهد ممتاز باشا محافظ سواكن وذلك لزراعة القطن كمحصول رئيس ولكن الظروف المناخية للمنطقة المتمثلة في رياح الهبباي الموسمية دفعت عدداً كبيراً من المزارعين في المشروع إلى تغيير نمط النشاط والاتجاه إلى مناطق بديلة للاستثمار في مجالات أخرى.
وفي مراحل لاحقة أدت سنوات الجفاف والحرب والإهمال الحكومي إلى مزيد من تراجع الأوضاع في المدينة.
ويعتبر ميناء عقيق الميناء التاريخي في المنطقة، وبحسب مرويات التاريخ فإن البطالسة – اليونان أنشأوا في عام 270ق.م، ميناء «بطليموس ثيرون»، والذي يعتقد أنه ميناء عقيق الحالي.
وتبعد مناطق جنوب طوكر حوالي 205 كلم عن عاصمة ولاية البحر الأحمر بورتسودان، وهي تشمل مناطق محلية عقيق التي تبلغ 41 قرية يبلغ عدد سكانها حوالي 151 ألف نسمة يعتمدون على الزراعة والري.
سنوات الحرب
ومنذ سبعينيات القرن الماضي، ظلت المنطقة تمثل خلفية لنشاط الثوار الإرتريين في مواجهة الوجود الإثيوبي حيث كانت تستضيف مقراتهم الإدارية والعسكرية والصحية على طول جبال المنطقة بالتنسيق مع نظام جعفر نميري.
وفي وقت لاحق، شهدت منطقة جنوب طوكر اندلاع قتال دام بين الحكومة السودانية والمعارضة عام 1997، تسبب في مقتل عدد كبير من المواطنين، وتحولت المنطقة إلى مسرح عمليات عنيفة، مما أدى إلى نزوح معظم السكان من المنطقة إلى مدينة بورتسودان، وتعرض من تبقى منهم للتضييق بواسطة الطرفين المتحاربين.
وأسهمت سنوات الحرب الطويلة في المزيد من تهميش المنطقة وإنسانها، كما أدت للانتشار الواسع لحقول الألغام. التي تعتبر الهاجس الأكبر لسكان المنطقة، حيث تقضي سنويا على أرواح عدد منهم.
وبعد اتفاقية أسمرا لشرق السودان في 2006، شهدت المنطقة استقراراً نسبياً ولكن سنوات الحرب أدت إلى الانتشار الواسع لأشجار المسكيت مما أدى لشح المياه وقضى على فرص الزراعة المحدودة. كما أن الألغام المزروعة مثلت هاجساً يؤرق المواطنين، ويؤدي إلى سقوط ضحايا بشكل متكرر.
طرق وعرة
ظلت المطالبات المتكررة بتشييد الطرق في المنطقة تصطدم بجدران التجاهل الحكومي، حيث ينتهي الطريق المسفلت القادم من سواكن في منطقة الزيرو التي تبعد 17 كيلومتراً عن مدينة طوكر، ومن هناك يمتد الطريق الترابي إلى مدينة طوكر الذي يتعرض للجرف بصورة متكررة عند فيضان خور بركه مما يؤدي للعزلة التامة للمنطقة. كما يمتد الطريق الترابي الوعر بين مدينة طوكر وقرورة بمحلية عقيق ل180كيلومتراً، حيث لم يتم تعبيده على الرغم من الوعود المتكررة.
واكتمل تشييد جسر دولبياي الذي يربط بين محليتي طوكر وعقيق عام 2021 وسط تفاؤل بإنهاء معاناتهم ولكن الانقطاع المتكرر للجزء الترابي من الجسر أدى إلى خيبة أمل كبيرة.
موجات عالية
ويقول والي الولاية اللواء مصطفى محمد نور في تصريحات صحفية إن موجات مياه خور بركه وصلت إلى المنطقة بارتفاع 6 أمتار وتسببت في جرف الجزء الترابي من السد بجانب الطريق الذي يربط طوكر بمنطقة الزيرو.
وبدوره، يؤكد المهندس محمد نور منيناي عضو المجلس الاستشاري لشرق السودان إن المدينة استقبلت هذا العام 19 دفعة من مياه خور بركه متجاوزة المعدل السنوي الذي يبلغ 12 دفعة، وأشار إلى أن الدفعات جاءت بارتفاعات عالية مما أدى لتدمير بنية الري وغمر المدينة. وأشار إلى أن ارتفاع مجرى خور بركه عن مدينة طوكر يؤدي إلى تعرض المدينة لمخاطر مستمرة في حال تزايد دفعات المياه.
ينبع خور بركة من المرتفعات الارترية صيفا ويستمر في شكل دفعات متقطعة تغمر منطقة الدلتا في اتجاهها الى البحر الاحمر، لم يرصد انقطاع كامل او غياب تام عن قدوم فيضان خور بركة السنوي عبر التاريخ الحديث المسجل رغم سنوات القحط والجفاف التي تضرب المنطقة.
مستشفى تحت الماء
ووصف الدكتور مدثر أحمد يحيى – المدير الطبي لمستشفى طوكر في مقابلة مع راديو دبنقا إن الوضع في مستشفى طوكر بالغ السوء جراء فيضان خور بركه الذي غمر المستشفى ومحيطة وقال إن الكوادر الطبية والمرضى يضطرون للسباحة أو خوض المياه في المساحة المجاورة للمستشفى والتي يتجاوز منسوب الماء فيها أكثر من متر.
ونبه إلى إجراء ثلاث عمليات قيصرية بعد اجتياح الفيضان مدينة طوكر على الرغم من انقطاع التيار الكهربائي. وأكد إن الأطباء والمرضى اضطروا للسباحة وخوض الماء للوصول إلى المستشفى ويضيف: اضطررت للسباحة من سكن الأطباء إلى المستشفى إثر استدعائي لإجراء عملية قيصرية”
ووصف الوضع في المستشفى بالمأساوي مشيراً إلى تضرر العنابر والمخازن جراء الفيضان، وأشار إلى أن المستشفى يعمل ب 40 في المائة من طاقته البشرية.
وأشار إلى مخاوف ممن انتشار الكوليرا والبلهارسيا وتزايد حالات الربو بجانب تفاقم أوضاع المصابين بالأمراض المزمنة داعياً للإسراع في إيصال الأدوية والمعينات بجانب صيانة وتأهيل المستشفى.
وفي محلية عقيق، كشفت مصادر صحية لراديو دبنقا في وقت سابق عن تفشي السرطان والتهاب الكبد الوبائي و الدرن وسوء التغذية، وأشاروا إلى تردي الأوضاع في مستشفى قرورة بالمحلية على الرغم من تأهيله مؤخراً مشيرين إلى عدم وجود اختصاصيين أو غرفة ولادة (عاملة) حيث أن المرضى يجري نقلهم إلى بورتسودان، وأوضحوا أن وعورة الطريق وعدم توفر عربة اسعاف متاحة لنقل المرضى يهدد حياتهم ونبهوا إلى صعوبة وصول الإمدادات الطبية.
سوء تغذية حاد
يعتمد سكان محليتي طوكر وعقيق على النشاط الزراعي والرعوي. ولكن تراجعت الزراعة كثيراً في دلتا طوكر وعدد من المشروعات في جنوب طوكر مثل مشروع ملعيت بسبب انتشار المسكيت .كما أدى المسكيت إلى شح موارد المياه وجفاف أبار المياه.
ووفقاً لتصنيف شبكة الإنذار المبكر للمجاعة فإن محليتي طوكر وعقيق تعانيان من انعدام الأمن الغذائي الحاد “الطارئ” (المرحلة الرابعة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي.
وبحسب لتصنيف برنامج الغذاء العالمي فإنه في هذه المرحلة، تواجه الأسر نقصاً كبيراً في استهلاك الغذاء إلى جانب معدلات سوء تغذية حاد مرتفعة للغاية وأعداد زائدة من الوفيات، أو لا تتمكن من التغلب على نقص استهلاك الغذاء إلا من خلال بيع الأصول القليلة المتبقية لديها. ويعاني ما بين 15-30% من السكان من سوء التغذية الحاد في هذه المرحلة. يستطيع الناس الوصول إلى ثلاث مجموعات غذائية أو أقل مثل الفواكه والحبوب والخضروات، ويتناولون أقل من 2100 سعرة حرارية في اليوم.
ووفقاً لشبكة الإنذار المبكر للمجاعة فإنه على الرغم انخفاض حالات سوء التغذية الحاد الشديد في الفترة من أكتوبر وديسمبر من العام الماضي مع نهاية موسم الأمطار في معظم أرجاء البلاد، فإن بعض المناطق من بينها محليتي طوكر وعقيق أظهرت اتجاهًا تصاعديًا مقلقًا منذ نهاية موسم الأمطار وحتى ديسمبر.
قسوة الطبيعة
ويرى سكان محليتي طوكر وعقيق إن الطبيعة والإهمال الحكومي تسببا في مزيد من تردي الأوضاع الإنسانية، ففي فصل الصيف يعاني سكان قرى ومدن محليتي طوكر وعقيق من أزمة خانقة في المياه مع توقف معظم محطات التحلية. ويضطر المواطنون لجلب المياه من مناطق بعيدة، وفي فصل الخريف تؤدي السيول والأمطار إلى اغلاق معظم الطرق وتفاقم معاناة المواطنين.
وبداية الأسبوع الجاري، قالت جمعية الهلال الأحمر إنها لم تتمكن من اكمال تنفيذ مهمتها الإنسانية في محلية عقيق لتسجيل المستفيدين من برنامج الدعم النقدي للأسر الضعيفة بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي.
وأوضحت إن فريقها لم يتمكن من الوصول إلى منطقتين حيث واجه ظروفاً قاسية أثناء تنفيذ مهمته لتسجيل المستفيدين من برنامج الدعم النقدي للأسر الضعيفة .
أوامر طوارئ
وتعيش محلية عقيق جنوب طوكر تحت وطأة أوامر الطوارئ منذ عام 1997 إثر اندلاع الحرب بين الحكومة والمعارضة وهي مستمرة حتى الآن على الرغم من انتفاء الأسباب وذلك بحجة مكافحة التهريب إلى دول الجوار.
وينص أمر الطوارئ على تحديد مواد غذائية يسمح بنقلها إلى المحلية بكميات محددة وفقا لأذونات صادرة من قبل الأجهزة الأمنية بالولاية وبخطاب حوجه من المدير التنفيذي للمحلية يشمل عدد الكيلوجرامات المطلوبة من السكر والدقيق والزيت.
وظلت القيادات الأهلية في المنطقة تطالب الولاة المتعاقبين بإلغاء أوامر الطوارئ و خطاب الحوجة بمحلية عقيق وتدعو لضمان انسياب حركة السلع والبضائع للمواطنين بشكل طبيعي ولكن لم تجد تلك المطالب أذناً صاغية.
استثمارات مرفوضة
وشرعت حكومة ولاية البحر الأحمر قبل عامين إجراءات تصديق لاستثمار في محلية عقيق لمستثمر محلي بمساحة تبلغ 60 كيلومتر بحري وبري ولكنها واجهت رفضاً واسعاً من المواطنين.
وتشمل المشروعات الاستثمارية انشاء قرية سياحية في جزيرة ابن العباس بمساحة اربعة كيلو متر تغطي مساحة الجزيرة بأكملها. بجانب25 كيلومتر مربع من جزيرة درباب إلى جنوب عقيق لإنشاء مدينة سياحية او منتجع سياحي. إضافة إلى تخصيص 49,500 كيلو متر مربع من كلفية الي رأس قصار (الحدود) لإنشاء مناطق الاستزراع السمكي.
وبرر الرافضون للمشروع اعتراضهم لعدم التشاور مع المجتمع المحلي كما وصفوا المشروع بأنه يندرج في إطار الاستثمارات الفردية، التي لا تعود بالفائدة، لا على الدولة ولا على المجتمع المحلي، مؤكدين على ضرورة إعطاء الأولوية إلى إعادة انشاء ميناء عقيق الذي يعود بالفائدة لجميع المواطنين .
خارج التغطية
تقع مساحات واسعة من محلية عقيق ومناطق جنوب طوكر خارج تغطية شبكة الاتصالات، حيث تعاني مدينة قرورة منذ ما يقارب العام من انقطاع شبكة الاتصالات ويضطر سكانها للذهاب إلى جبال همبوكاييب المجاور من أجل إجراء أي اتصال هاتفي أو تواصل عبر الانترنت.
ويقول محمد العمدة من منطقة فركسليب التي تقع في الاتجاه الجنوبي من جسر دولبياي لراديو دبنقا إنه يضطر لتسلق الهضاب المجاورة لإرسال رسائل لراديو دبنقا عبر تطبيق واتساب لنقل معاناة سكان المنطقة.
ختاماً
يرهن سكان محليتي طوكر وعقيق معالجة أوضاعهم بتشييد طريق طوكر – قرورة وطريق طوكر الزيرو، كما يطالبون بإعادة انشاء ميناء عقيق، وإقامة مشروعات استثمارية في السياحة والاستزراع السمكي لانعاش المنطقة فضلاً عن معالجة إشكاليات مشروع دلتا طوكر، ووضع خطة الري بعد انتهاء الحصاد في نوفمبر مباشرة، وإزالة المسكيت والألغام كما شددوا على تنفيذ قرار فتح معبر قرورة مع ارتريا لانعاش تجارة الحدود، وإلغاء أوامر الطوارئ بشأن نقل السلع إلى محلية عقيق . كما يشدد سكان المنطقة على ضرورة توفير الخدمات الصحية والتعليمية وتوفير مياه الشرب من أجل ضمان عودة واستقرار الذين نزحوا من مناطقهم بسبب الحرب.
سودان تربيون