نادرا ما انخرطت أوكرانيا في الصراعات العسكرية خارج حدودها. وعلى العكس، تحولت الأراضي الأوكرانية في أكثر من مناسبة إلى مسرح للصراع بين القوى المتنافسة، وآخرها الحرب الروسية المتواصلة ضد كييف منذ فبراير/شباط 2022.
ولكن للمفارقة، كانت هذه الحرب سببا للأوكرانيين لمد أذرعهم العسكرية خارجيا بقدر ما تسمح به الطاقة، مستهدفين في المقام الأول مسارح إستراتيجية تمتلك فيها روسيا حضورا قويا ومصالح مهمة، ويعد السودان في مقدمة هذه المسارح التي طالتها نيران الصراع الروسي الأوكراني من على بُعد آلاف الأميال.
كان اندلاع الصراع المسلح بين المجلس العسكري السوداني برئاسة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي” في أبريل/نيسان 2023 هو الشرارة التي حفزت الحضور الأوكراني.
وقد جاءت أولى الإشارات لهذا الحضور صريحة عبر مقطع مصور بثته “سي إن إن” الإخبارية بتاريخ 19 سبتمبر/أيلول 2023، تناول عرض هجوم بواسطة “مسيّرات انتحارية” استهدف عناصر من “قوات فاغنر” الروسية التي تقاتل إلى جانب قوات الدعم السريع في السودان.
وفقا لتقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية في مارس/آذار الماضي (2024)، فإن عبد الفتاح البرهان الذي وجد نفسه محاصرًا في عاصمة بلاده الخرطوم من قِبَل قوات الدعم السريع، سعى حينها إلى طلب المساعدة من حليف غير متوقع، وهو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وعلى الرغم من الحرب المشتعلة في كييف، لبّت أوكرانيا نداء البرهان وأرسلت كتيبة من القوات الخاصة الأوكرانية “الكوماندوز” تضم حوالي 100 جندي هبطوا على أرض السودان في أغسطس/آب 2023، وكانت مهمتهم الأولى المساعدة في إخراج البرهان من الخرطوم. وبالفعل كللت المهمة بالنجاح وتوجه البرهان إلى بورتسودان، وفقا للصحيفة الأميركية. لكن البرهان نفى أن تكون هناك أي مساعدة أجنبية في هذه العملية، وقال إنها تمت بتخطيط وتنفيذ كامل من الجيش السوداني.
كان الجنود الأوكرانيون يعملون تحت غطاء من السرية والكتمان، ويشير أحد ضباط الاستخبارات الأوكرانية في السودان، ويعرف رمزيا باسم “كينغ”، للصحيفة الأميركية أن وحدته كانت تبدأ عملياتها منذ الثامنة مساءً وحتى مطلع الفجر، وذلك تجنبًا لكشف هويتهم نهارًا.
وفي عتمة الليل كانوا يخرجون مزودين بنظارات للرؤية الليلية، مما أتاح لهم تنفيذ غارات مباغتة على قوات الدعم السريع التي اعتادت النوم في العراء على طول خط المواجهة، وفق “كينغ”.
في الوقت ذاته، دعمت أوكرانيا الجيش السوداني بمجموعة من المسيّرات الانتحارية، وقدمت الدعم التكتيكي والتدريبات العسكرية اللازمة لعناصر القوات المسلحة السودانية وخاصة سلاح الطيران؛ وهو ما أضاف ميزة تكتيكية في الحرب لصالح البرهان والجيش السوداني.
المسيّرات.. تحول ميزان القوى في حرب السودان
مثَّل دخول المسيّرات الأوكرانية تحديدا إلى الصراع السوداني تحولا كبيرا صب في صالح الجيش، فرغم أن القوات المسلحة السودانية كانت تمتلك بالفعل بعض المسيّرات قبل بداية الصراع، فإنها كانت أقل تطورا ولم تُستخدم بفعالية إلا في الأشهر الأخيرة مع حضور الأوكرانيين إلى المشهد حسب الرواية الأوكرانية.
وبحلول 12 مارس/آذار الماضي، كان الجيش السوداني يحتفل بانتصاره في معركة استعادة مقر الإذاعة والتلفزيون في مدينة أم درمان، والذي وقع في يد قوات الدعم السريع منذ بدء الحرب.
كانت المسيّرة الأوكرانية “إف بي في” (FPV) هي بطل هذه المعركة وغيرها من المواجهات المندلعة منذ ذلك الحين، وهي طائرات بدون طيار انتحارية صغيرة محلية الصنع شوهدت لأول مرة إبان الحرب الراهنة بين كييف وموسكو.
فمع عدم كفاية الإمدادات الغربية لملاحقة تطورات الحرب المتسارعة، سعت أوكرانيا للبحث عن بديل سهل يمكن تجميع مكوناته في البلاد بتكلفة زهيدة، وفي الوقت نفسه يمتاز بأداء عالٍ على الخطوط الأمامية للقتال، فكانت “إف بي في” هي ما مكّن الجيش الأوكراني من الصمود نسبيا على الرغم من التفوق الروسي.
في غضون أقل من عام على استخدامها الأول في أوكرانيا، قفزت “إف بي في” (FPV) آلاف الأميال لتسجل حضورها على ساحة الحرب السودانية وتنفذ هجمات استهدفت شاحنات صغيرة بعضها يحمل مقاتلين من الدعم السريع، وهي المعارك التي أدارتها وحدة الاستخبارات العسكرية الأوكرانية وقامت خلالها بتدريب وحدات من الجيش السوداني على استخدام هذا النوع من المسيّرات.
من الناحية التقنية، تعد “إف بي في” طائرات كوادكوبتر عادية “مسيّرة بدائية ذات 4 مراوح” عمل متخصصون على تحويلها إلى “مسيّرات انتحارية” مزودة ببطارية إضافية ورأس حربي متفجر، تعرف باسم مسيّرات “منظور الشخص الأول” حيث يجري التحكم بها عن بُعد من خلال نظارات تشبه تلك الخاصة بالواقع الافتراضي.
وتجري قيادة تلك المسيرات عن طريق بث مباشر من كاميرا مثبتة على متنها، وتبلغ تكلفة الواحدة منها بين 400 إلى 500 دولار. وتمتاز بإمكانية توجيه ضربات محددة لأهداف سريعة الحركة بدقة عالية على بعد عدة أميال، فهي تحوم بالهواء فوق الهدف لفترة طويلة قبل الانقضاض عليه.
لم تكن المسيّرات الأوكرانية وحدها التي حلّقت في سماء السودان، حيث حصل الجيش السوداني أيضا على مسيّرات “بيرقدار تي بي 2” تركية الصنع، والتي دخلت الخدمة في يونيو/حزيران 2015، وتمتاز “بيرقدار” بقدرتها على القيام بمهام استطلاع ومراقبة وفي الوقت ذاته توجيه ضربات جوية دقيقة.
كما أن بإمكانها الطيران 25 ساعة متواصلة. كذلك تحضر المسيّرات الإيرانية هي الأخرى في المشهد السوداني، إذ أشار الخبراء بعد تحليل حطام مسيّرات أسقطها الدعم السريع أثناء معركة استعادة مقر الإذاعة والتلفزيون بأم درمان إلى أن الجيش السوداني يمتلك طائرات دون طيار إيرانية الصنع من طراز “مهاجر 6″، وفقًا لما جاء في تحقيق أعدته وكالة “بي بي سي” الإخبارية.
تعد “مهاجر 6” مسيّرة قتالية تكتيكية قادرة على التحليق لمدة 12 ساعة متواصلة، بسرعة تصل إلى 200 كيلومتر في الساعة وبمدى يبلغ 6000 كيلومتر، وحمولة تصل إلى 40 كيلوغرامًا من القنابل الذكية. وبجوارها، يمتلك الجيش السوداني طائرات مسيرة من طراز “زاجل 3”.
و”زاجل 3″ نسخة محلية الصنع من الطائرة الإيرانية “أبابيل 3″، قادرة على التقاط الصور وإرسالها إلى محطات التحكم الأرضية، والتحليق على ارتفاع 150 قدمًا لمسافة 250 كيلومترًا، كما تتميز بمحرك يعمل بالبنزين يُمكّنها من التحليق لمدة 8 ساعات متواصلة.
على الجانب المقابل، سارعت قوات الدعم السريع إلى استخدام مجموعة متنوعة من الطائرات دون طيار لمهام الاستطلاع والهجوم. ورغم قلة المعلومات المتوفرة عن قدراتها، أظهرت الأدلة المبكرة في الحرب أن قوات الدعم السريع استخدمت طائرات دون طيار تجارية معدلة، وهي مسيّرات رباعية المراوح جرى تطويرها لتستخدم في عمليات انتحارية.
رغم ذلك، لا تزال المسيرات التي يمتلكها الجيش السوداني أكثر تطورا بفوارق كبيرة. هذا الوضع جعل من الطائرات المسيّرة سلاحًا حاسما في الحرب السودانية، إذ تمكنت في وقت قصير من تغيير مسار العديد من المعارك على الأرض، بعد أن استعاد الجيش بفضلها العديد من المواقع وتمكن من كسر الحصار المفروض على جنوده من قبل قوات الدعم السريع.
حرب غربية فوق أرض أفريقية
تشير “وول ستريت جورنال” إلى أن السبب الرئيسي الكامن وراء مساندة الأوكرانيين للجيش السوداني بالحرب الأهلية الدائرة في الخرطوم، هو أن البرهان كان قد أمد كييف سرًّا بالأسلحة منذ بداية الحرب الأوكرانية- الروسية، وبالتالي كان على أوكرانيا أن تقدم الدعم في الحرب السودانية لحليف قديم.
غير أن هناك سببًا آخر مهمًّا جعل كييف تسارع للانخراط العسكري في الخرطوم وهو أنها وجدت في السودان ساحة مواجهة جديدة مع روسيا قد تجعل موسكو تدفع ثمنًا أكثر كلفةً لحربها على الأراضي الأوكرانية.
ففي شهر فبراير/شباط الماضي، نشرت صحيفة “كييف بوست” الأوكرانية مقطعًا مصورًا، يظهر فيه مقاتل من قوات “فاغنر” الروسية وهو معصوب العينيين أثناء استجوابه من قِبَل القوات الخاصة الأوكرانية بعدما وقع في الأسر.
وللمفارقة فإن هذا المقطع تم تصويره في السودان الذي انتقل فريق من القوات الأوكرانية إليه لتقديم المساعدة للجيش. في المقابل، أشارت اعترافات “أسير فاغنر” إلى أن مقاتلي المجموعة سافروا إلى أفريقيا الوسطى ومنها إلى الخرطوم من أجل تقديم المساعدة والتدريب العسكري لقوات الدعم السريع.
يسبق وجود “فاغنر” في السودان الوجود الأوكراني بوقتٍ كبير، إذ حرصت موسكو على حضورها في هذا البلد منذ عهد الرئيس السابق عمر البشير الذي أُطيح به عام 2019 إثر موجة واسعة من الاحتجاجات، حيث سعت روسيا منذ عام 2017 إلى إنشاء قاعدة عسكرية لها على ساحل البحر الأحمر بالسودان.
في الوقت ذاته، كان هناك هدف آخر لا يقل أهمية ترتب له موسكو وهو الحصول على الذهب السوداني لمواجهة العقوبات الغربية التي فرضت على روسيا بعد غزو شبه جزيرة القرم، وبحسب تحقيق استقصائي أجرته شبكة “سي إن إن” في وقت سابق، سلبت موسكو أطنانًا من الذهب السوداني.
وتقدر قيمة الذهب السوداني الذي استولت عليه روسيا بمليارات الدولارات، وذلك عن طريق “قوات فاغنر” التي عملت في الخفاء -بحسب التحقيق- تحت غطاء شركة روسية سودانية تدعى “ميروي غولد” تأسست في عهد عمر البشير عام 2017.
لم ينته الدور الروسي في السودان بعد الإطاحة بالبشير، بل حافظت روسيا على إستراتيجيتها السابقة بالتعاون مع المجلس العسكري بقيادة البرهان. لكن اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع وضعت الروس في اختبار صعب للعب على طرفي الصراع للمحافظة على مصالحهم.
ولذلك نجد قوات فاغنر كمؤسسة عسكرية خاصة مدعومة من الكرملين تقف إلى جانب قوات الدعم السريع نظرًا لسيطرة “حميدتي” وقواته على الذهب، وفي الوقت ذاته تواصل موسكو سياستها الخارجية المتمثلة في تقديم الدعم للقوات المسلحة السودانية، أملا في إقامة قواعد عسكرية لها في السودان.
هذا الأمر الذي حوّل الحرب السودانية، وفقًا لوصف بعض المحللين، إلى نموذج للحرب بالوكالة، حيث تدخلت أطراف ثالثة في الصراع، يسعى كل منها لتحقيق أهدافه الخاصة.
وبحسب التقارير، تتعدد أهداف كييف داخل السودان، ما بين تعطيل أنشطة مجموعة فاغنر في أفريقيا، ومنع موسكو الاستفادة من الذهب السوداني وإحباط الجهود الحربية الروسية في أوكرانيا عبر تشتيتها في مسارح متعددة.
هذا بالطبع إلى جانب تحسين الصورة الدولية لكييف في أعين حلفائها الغربيين عبر إثبات قدرة أوكرانيا على مواجهة روسيا على بُعد آلاف الأميال من الصراع المحتدم في شرق أوروبا.
المصدر : الجزيرة