في حي “دردق” شرق ودمدني، عاصمة ولاية الجزيرة، وجد المواطنون بعض الشوارع خالية من الأشجار التي يعود عمرها إلى أكثر من 70 عامًا بعد عمليات قطع جائر نفذتها جماعات لبيع الحطب نتيجة شح الغاز المستخدم في الطهي، والذي أصبح تجارة رائجة خلال الحرب.
المدينة، التي كانت تضج بالحياة حتى خلال الحرب، تموت ببطء تحت ناقلات الدفع الرباعي المزودة بالمدافع
هذا المشهد يكفي لمنحك الصورة الكاملة لشوارع وأسواق ودمدني، التي كانت تضج بالحياة قبل أن تسيطر قوات الدعم السريع منذ نهاية كانون الأول/ديسمبر 2023 إثر انسحاب مفاجئ للجيش من عدة مدن في الولاية، من بينها ودمدني. في ذلك الوقت، أقر الجيش بوجود خلل يستدعي المساءلة، وأعلن إجراء تحقيق، لكن كعادة العسكريين، لا يتم الإفراج عن النتائج إلى الرأي العام وتظل مقبورة وراء الكواليس.
فشل الإدارة المدنية
وفي خطوة لإظهار رغبتها في ضبط انتهاكات عناصرها، عينت قوات الدعم السريع الإدارة المدنية في آذار/مارس الماضي، لكنها لم تحقق اختراقًا في إدارة الوضع العام في ودمدني أو بقية قرى ومدن ولاية الجزيرة.
لا تخوض قوات الدعم السريع معارك عسكرية مباشرة ضد الجيش في ودمدني، لأن القوات المسلحة منذ إرسالها الحشود إلى الفاو شرق ولاية الجزيرة داخل حدود القضارف، وفي سنار جنوبي البلاد، لا تزال متمركزة في مواقعها دون تقدم.
تشرف قوات الدعم السريع على المستشفى الحكومي في ودمدني، بينما تدير منظمات دولية الوضع الطبي والصحي بتوفير الإمدادات والكوادر الطبية والأدوية وتجهيز غرف العمليات الجراحية ومركز غسيل الكلى وقسم النساء والتوليد. الشهر الماضي، تعرض الميناء البري جنوب ودمدني إلى تدمير جزئي جراء العمليات الحربية، فيما تبادل الطرفان الاتهامات حول استهداف البنى التحتية بالمدافع والقصف الجوي.
تعرضت أسواق ودمدني للنهب والتشليع، بما في ذلك مقر البنك المركزي، وتشير الروايات إلى أن الممتلكات الخاصة للمواطنين ظلت هدفًا رئيسيًا لقوات الدعم السريع.
الثمن الفادح
كل هذه الوقائع تشكل ملامح ودمدني التي دفعت الثمن الفادح، وفق الناشط السياسي مصعب الهادئ، لأن القوات المسلحة لم تحمها من الهجوم العسكري لقوات الدعم السريع بالشكل المطلوب.
يرى مصعب الهادئ في حديث لـ”الترا سودان” أن المدن لا تنهار خلال الحروب حتى في العالم الثالث، لأن الأطراف المتصارعة تتقيد بالقوانين الدولية لحماية المدنيين والمرافق العامة وفتح الممرات الآمنة. إلا أن حرب السودان تختلف، حيث يبدو أن الجنرالين لا يكترثان سوى لمقعدهما في السلطة، بحسب قوله.
وفي ذات الوقت، يضيف الهادئ أن قوات الدعم السريع تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن الانتهاكات التي وقعت في ولاية الجزيرة، بما في ذلك ودمدني، لأنها غير قادرة على حماية المدنيين والمنشآت العامة، ولا تسمح بالتنقل الآمن للمواطنين وتضع الحواجز العسكرية على الطرقات.
قال الهادئ إن قوات الدعم السريع منذ الساعات الأولى لسيطرتها على ودمدني اقتحمت المنازل عنوة، وسحبت السيارات والأموال والذهب، وارتكبت فظائع بحق المواطنين.
وكان تقرير لشبكة صيحة، التي تضم مدافعات عن حقوق النساء، أشار إلى تعرض نحو 75 سيدة وفتاة للاغتصاب والعنف الجنسي من قوات الدعم السريع، وحمّل قائد الدعم السريع في ولاية الجزيرة المسؤولية المباشرة، مطالبًا بمحاكمته.
من الأسواق الصغيرة التي تنشط فيها قوات الدعم السريع في التجارة بين البطانة شرق البلاد وودمدني، يحصل المواطنون بالكاد على الاحتياجات الأساسية، وارتفعت الأسعار بسبب القيود المفروضة على الطرق البرية نتيجة استعداد الطرفين للهجمات عقب تعثر مفاوضات جنيف.
الجوع يفتك بالمواطنين
تقول آمنة مبارك، العاملة الصحية في مركز وسط ودمدني، والتي نزحت إلى سنجة ومن ثم إلى القضارف، إن الأنباء الواردة تؤكد تعرض المئات لإصابات الملاريا والكوليرا، ويعاني مرضى الكلى في التردد بين المنزل ومركز الغسيل. وأضافت أن الأدوية الأساسية للأمراض المزمنة معدومة وتباع بأسعار فلكية، حيث يصل سعر القرص الواحد إلى 35 ألف جنيه، ويحتاج المريض إلى أكثر من قرصين شهريًا، مثل مرضى الضغط والسكر.
تضيف آمنة مبارك أن بعض العائلات العالقة في ودمدني، بعد نفاد خيارات النزوح، لجأت إلى تناول “الآبري” الذي عثرت عليه في المنزل، لعدم قدرتها على شراء الغذاء.
و”الآبري” مشروب يقدم في رمضان، وتحتفظ الأسر السودانية بقطعه في قبو المنزل. لكن الجوع، حسب آمنة مبارك، يدفع الناس إلى مرحلة اللاخيارات.
في 18 كانون الأول/ديسمبر 2023، كانت بعض التقارير تشير إلى أن الطريق البري شرق النيل الأزرق الرابط بين الخرطوم وودمدني كان خاليًا من القوات العسكرية، بينما تذهب تقارير أخرى إلى أن الجيش سحب قواته لتعزيز وجوده في معارك أخرى، ما أدى إلى وقوع الجزيرة تحت سيطرة قوات حميدتي
نهب الأخضر واليابس
بعد احتفال الجيش لساعات بإعلانه التصدي لهجوم الدعم السريع على ودمدني في 21 كانون الأول/ديسمبر 2023، تمكنت قوات حميدتي من السيطرة على كبري حنتوب شرق ودمدني خلال ساعات قليلة، ما أدى إلى سقوط المدينة بالكامل، فيما فضلت قوات صغيرة من الجيش عدم الدخول في المواجهة العسكرية.
سيطرة الدعم السريع على ودمدني دفعت نحو 800 ألف شخص إلى النزوح من ولاية الجزيرة
سيطرة الدعم السريع على ودمدني دفعت نحو 800 ألف شخص إلى النزوح من ولاية الجزيرة، كما وضعت حياة أكثر من خمسة ملايين شخص على المحك ما بين القتل والتشريد والنهب واغتصاب النساء، ولا تزال الأوضاع تتدهور، حسب مصعب محمد الهادئ.
وأضاف الهادئ: “قطع الأشجار في شوارع ودمدني من عصابات متعاونة مع الدعم السريع يعني أن هذه القوات انتهت من الأخضر واليابس في أكبر ولاية منتجة في السودان”.
الترا سودان