هروب رؤوس الأموال بعد الحرب يفرغ سلة السودان الاستثمارية
تدخل بعض شركات المقاولات الأجنبية لأغراض بناء ما خربته المعارك من بنية تحتية وليس كمستثمرين
تشير تقارير غير رسمية إلى هروب رؤوس أموال كبيرة من السودان بعد الحرب، تتبع لما يقارب 750 من المستثمرين المحليين قاموا بنقل أنشطتهم وأعمالهم إلى دول الجوار الأفريقي
في منحى معاكس لتوجهات الدولة المعلنة نحو جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية والمحلية، تزايدت حالات هروب رأس المال الوطني بعد الدمار الكبير الذي أحدثته الحرب في أصول وممتلكات المستثمرين المحليين، مما دفعهم إلى تفكيك ما بقي من مصانع ونقل بعضها إلى الولايات الآمنة، بينما نقل آخرون نشاطهم الاستثماري إلى خارج السودان. فما هي ملابسات هروب وهجرة رأس المال السوداني وتأثيره في الوضع الاقتصادي المتدهور؟ وهل من أمل في عودة تلك الأموال لوطنها من جديد؟
بين الداخل والخارج
يرى متخصصون وباحثون أن هجرة رؤوس الأموال والاستثمارات جاءت نتيجة للدمار الواسع والخسائر الفادحة التي تعرضت لها البنية التحتية الاقتصادية والخدماتية في البلاد بسبب الحرب المندلعة بين الجيش و”قوات الدعم السريع” منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023، إذ اضطر عدد من رجال المال والأعمال بعد توقف العمليات الإنتاجية إلى تفكيك أصولهم الاستثمارية من مصانع ومؤسسات وشركات ونقلها إلى خارج البلاد، في وقت ظل آخرون يتلمسون مواصلة نشاطهم في المناطق والولايات الآمنة داخل البلاد بعد الدمار الكبير في ولايات الخرطوم والجزيرة وأجزاء من دارفور.
ورأى المتخصصون أن ظاهرة فرار الاستثمارات الوطنية هي من ضمن إفرازات الحرب والفاتورة القاسية التي تسددها البلاد، معتبرين أن عودة تلك الأموال إلى البلاد مرة أخرى بمثابة تحدٍّ في غاية الصعوبة والتعقيد لارتباطه المباشر بتوقف الحرب وعودة الاستقرار الأمني والسياسي وقضايا الإعمار والإصلاح الاقتصادي.
عقبات داخلية
وتشير تقارير غير رسمية إلى هروب رؤوس أموال كبيرة من السودان بعد الحرب، تخصّ ما يقارب 750 من المستثمرين المحليين قاموا بنقل أنشطتهم وأعمالهم إلى دول الجوار الأفريقي، إلى جانب أعداد كبيرة من أصحاب الأعمال والأنشطة التجارية المتوسطة التي كان لها أثرها في النشاط الاقتصادي بالسودان.
ولفتت التقارير إلى أن المعارك وعمليات القصف الجوي والمدفعي المتبادلة ألحقت خسائر فادحة باقتصاد البلاد والاستثمارات، بتعرض مئات الشركات والمؤسسات والمصانع للإحراق والنهب والتخريب، شملت استثمارات ضخمة وراسخة مملوكة لمستثمرين سودانيين.
ونوهت التقارير نفسها إلى أن العقبات والتعقيدات الإجرائية والرسوم العالية التي تفرضها حكومات الولايات على تخصيص الأراضي الصناعية كانت أحد أسباب تزايد معدلات هجرة رجال الأعمال، بخاصة ممن كانوا يعتزمون نقل ما بقي لهم من أجهزة ومعدات إلى المناطق الآمنة لاستئناف نشاطهم في الداخل.
مزيد من الهروب
في السياق حذر الباحث الاقتصادي الفاضل عبدالعزيز من أن استمرار الحرب وتمددها سيقودان إلى مزيد من هروب رأس المال، لا سيما أن المستثمرين فقدوا الأمل في استقرار الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد خلال فترة زمنية قريبة، لافتاً إلى أن هناك أسباباً عدة منفردة أو متضافرة تسهم في تفاقم عملية هجرة رؤوس الأموال، أهمها الحرب والاضطراب السياسي وعدم الاستقرار الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم وما تبعه من انخفاض مستمر لقيمة العملة المحلية.
ونبّه من استمرار تدهور اقتصاد البلاد والتآكل المطّرد في البنية التحتية والموارد المتاحة والقدرات الإنتاجية بسبب استمرار القتال، وما سيترتب على ذلك من مضاعفات كبيرة طويلة الأمد تصعّب من أي إجراءات لاحقة للتعافي نتيجة الانهيار الأمني والاقتصادي والسياسي الشامل الذي سببته الحرب.
وأوضح أن القطاع الخاص الذي هو مجمل رؤوس الأموال المحلية يمثل قوة دفع مهمة في عجلة الاقتصاد وزيادة الناتج المحلي الإجمالي ورفع معدلات الإنتاج وتوفير السلع والخدمات، إلى جانب توفير فرص العمل، إذ لا يكفي الاعتماد على موازنة الدولة وحدها في عملية تحريك دورة الاقتصاد المتكاملة بما فيها الخدمات وتدابير المعيشة والزراعة، ويصبح من الضروري أن يسهم دخول القطاع الخاص والقطاع المصرفي في تنشيط عمليات التمويل التنموي بغرض تعزيز قدرة الاقتصاد على النمو من جديد.
سوء التخطيط
ولفت عبدالعزيز إلى أن الحرب المستمرة كشفت عن سوء كبير في التخطيط الاقتصادي والتنموي في البلاد بتركيز أكثر من 70 في المئة من الصناعات في ولاية الخرطوم وبعض ولايات الوسط، مما أدى إلى تدمير كبير في بنيتها التحتية وتوقف حركة الإنتاج الصناعي في معظم أرجاء البلاد، وحطم القدرات الإنتاجية والمباني والآلات والمعدات والمخزونات من المواد الخام والمنتجات شبه الجاهزة.
وأردف أنه بغياب الخريطة الاستثمارية مع حجم التدمير الذي تعرضت له المرافق والمحطات الحيوية لخدمات الكهرباء والمياه وضعف شبكة الطرق والاتصالات، إلى جانب سلسلة الرسوم الجبائية التي تفرضها الولايات على المستثمرين، لن تكون البلاد جاذبة للمستثمرين في وقت قريب مهما كانت الأرباح المتوقعة، مشيراً إلى أن الإنفاق العسكري والوضع الإنساني لا يزالان مهيمنين على أولويات الصرف، مما يعني أن أي دعم أو تمويل دولي أو حتى ثنائي في المرحلة الراهنة ستلتهمه تلك البنود، إلى جانب مساعي فك الضائقة المعيشية وتسيير الخدمات المتاحة على ضآلتها.
تحديات وجشع
ورأى المحلل وأستاذ الاقتصاد محمد الناير من جهته أن مناخ الاستثمار في البلاد حالياً يواجه جملة من التحديات الكبيرة التي أفرزتها الحرب، أبرزها عدم استقرار سعر الصرف والتراجع الكبير في قيمة العملة المحلية وارتفاع معدلات التضخم بصورة تجعل المناخ الاقتصادي العام غير جاذب أو مشجع للمستثمرين.
وأردف أن الخسائر الكبيرة التي تعرض لها القطاع الخاص الاستثماري في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة بسبب الحرب دفعت كثيراً من المستثمرين إلى نقل أعمالهم إما إلى الولايات والمناطق الآمنة والمستقرة داخل البلاد، أو إلى دول الجوار.
ودعا الناير المستثمرين الوطنيين إلى استشعار مسؤولياتهم المجتمعية بتخفيف وطأة الحرب على المواطنين في هذه الظروف الصعبة، وعدم اللجوء إلى استغلال ظروف الحرب لجني أرباح فاحشة ترهق كاهل المواطنين بصورة غير عادلة مثلما يحدث الآن في قطاع البترول، منتقداً ترك الدولة أمر استيراد المواد البترولية لشركات القطاع الخاص التي تطرح أسعاراً هي الأعلى في العالم.
انتعاش التعدين
في المقابل، عزا المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية محمد طاهر عمر ارتفاع عائدات صادرات الذهب خلال الفترة الماضية على رغم استمرار الحرب، إلى توجه رؤوس أموال وطنية نحو التعدين التقليدي للذهب إثر توقف الاستثمارات وتراجع النشاط الاقتصادي والتجاري.
وأكدت وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي في السودان أحلام مدني استعداد وزارتها لاستقبال طلبات المستثمرين في المجالات كافة الزراعية والصناعية والخدماتية.
وبحثت الوزيرة لدى استقبالها وفداً استثمارياً قطرياً في مكتبها بمدينة بورتسودان مجالات الاستثمارات القطرية في البلاد، بخاصة في مجال العقارات والسياحة والفنادق والمصارف في ولاية البحر الأحمر وعدد من ولايات السودان.
وأوضحت مدني أن الوزارة وضعت خططاً طموحة لمرحلة الانتقال وستبذل كل الجهود من أجل جذب مزيد من الاستثمارات للبلاد بغرض إعمار ما دمرته الحرب، لا سيما أن الاستثمار في السودان ما زال بكراً وواعداً وأن البلاد تتجه إلى نصر كبير تتعافى فيه من علل كثيرة وتضعها في نقطة الانطلاق لمستقبل أفضل.
لا يعرف الحدود
على نحو متصل، وصف الاقتصادي وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني صدقي كبلو، مغادرة المستثمرين المحليين للبلاد بأنه هروب إجباري لرأس المال بسبب الحرب، إذ تحطمت الأصول الثابتة للرأسماليين ونُهبت أصولهم المتحركة، ودمرت المصانع والمباني والآليات والبضائع والمواد الخام، ولم يعُد بإمكانهم المواصلة بأي شكل من الأشكال.
وتابع أن “رأس المال بطبيعته يبحث دائماً عن تحقيق أعلى معدّل من الأرباح ولا يكترث للحدود أو الأوطان، فقد أصابت الحرب كل النشاط الاقتصادي بالشلل الكامل، بعد تدمير البنية التحتية وتضييق السوق الوطنية باختفاء الأسواق في المدن والقرى والأرياف إما بالنهب أو القصف، إلى جانب انقطاع سبل النقل والمواصلات والاتصالات”.
ويشير كبلو إلى أن المستثمرين والرأسماليين آثروا الهروب بأنفسهم وبما استطاعوا الحصول عليه وما كانوا يحتفظون به من أموالهم في الخارج، وهو هروب قسري بعد أن أُغلقت أماكن العمل وتوقفت أجهزة الدولة وهاجر الحرفيون والمزارعون، فلم يعُد هناك طلب يذكر على البضائع أو السلع.
ولا يتوقع عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، عودة سريعة لرأس المال الهارب حتى بعد توقف الحرب، راهناً عودته بالاستتباب التام للأمن وسيادة حكم القانون وتهيئة البنية التحتية من كهرباء ومياه ونقل واتصالات وعودة النشاط الطبيعي للقطاع المصرفي والأسواق المحلية والعالمية. ومع ذلك يرى كبلو أن هناك إشكالات أخرى تؤثر في قرار عودة الرأسماليين من الخارج ترتبط بتعقيدات تصفية أعمالهم وتقييمهم للربحية والعائد المتوقع من العودة للسودان.
أما بالنسبة إلى رؤوس الأموال الأجنبية، فيستبعد كبلو عودتها أو دخولها في أي استثمارات بالبلاد قبل أن تستقر الأوضاع بصورة تامة وتتحقق شروط جذب الاستثمار في الداخل، لكنه رجح أن تأتي بعض شركات المقاولات الأجنبية لأغراض بناء ما خربته الحرب من بنية تحتية وليس كمستثمرين.
صدمة وانكماش
وشكلت صدمة الحرب ضربة كبيرة للاقتصاد السوداني الذي كان هشاً في الأصل، فتدنّت معدلات الإنتاج بصورة كبيرة بخروج معظم مصانع القطاع الخاص عن الخدمة، وباتت البلاد تعتمد على الاستيراد لسد النقص في معظم حاجاتها من السلع، مما شكل ضغطاً على احتياط العملات الأجنبية، وتسبب استمرار إغلاق كثير من المصارف في ضعف حركة الاستيراد والتصدير، مما أسهم في تدهور انهيار سعر صرف العملة الوطنية.
ومنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” قبل نحو 17 شهراً والمستمرة حتى الآن، قدرت خسائر الاقتصاد السوداني بما يقارب 150 مليار دولار، بخسارة البلاد أكثر من 25 في المئة من إجمالي الناتج المحلي خلال العام الأول من الحرب، وشهد الاقتصاد في مجمله انكماشاً بنسبة أكثر من 40 في المئة، مع توقعات بارتفاع هذه النسبة خلال العام الحالي.
وفي وقت يتضاعف الإنفاق العام، بخاصة العسكري بصورة متزايدة، تسببت الحرب في انخفاض إيرادات الدولة بنسبة تفوق 80 في المئة، إلى جانب التدهور المتواصل في قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي، فارتفع سعر الدولار الأميركي في السوق الموازية من 570 جنيهاً سودانياً قبل اندلاع الحرب إلى نحو 2800 جنيه هذا الأسبوع.
جريدة اندبندنت البريطانية