الخرطوم بحري… سودانيون مجبرون على موجات نزوح جديدة

دفع اشتداد المعارك في مدينة الخرطوم بحري، وهي الضلع الشمالي للعاصمة السودانية المثلثة، الآلاف من السكان إلى مغادرتها خلال الأيام الماضية، في رحلة نزوح مجهولة الوجهة.

شهدت مدينة الخرطوم بحري، على مدار الأسبوع الماضي، اشتباكات وقصفاً مدفعياً متبادلاً بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وكانت المعارك أكثر كثافة في مناطق شمال المدينة، مثل حطاب والكدرو وغيرهما، وهى مناطق تعيش بالأساس أوضاعا إنسانية كارثية منذ أشهر بسبب نقص الغذاء وانقطاع خدمات المياه والكهرباء والاتصالات، فضلاَ عن انتشار الأمراض.

وحاولت العديد من الأسر الصمود وعدم مغادرة منازلها بسبب عدم قدرة الغالبية العظمى منها على تحمل التكاليف المالية للنزوح إلى المناطق الآمنة، أو لحماية منازلها من السرقة والنهب كما حدث في أحياء أخرى تركت فيها الأسر منازلها، لتكتشف لاحقا نهبها بالكامل، وهذا ما حدث في مناطق جنوب الحزام، وشرق النيل، وأمبدة، والكلاكلة.

وأدت الحرب المتواصلة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي اندلعت في الخامس عشر من إبريل/نيسان 2023، إلى مقتل ما يزيد عن 20 ألف شخص، ونزوح ولجوء أكثر من عشرة ملايين آخرين، أغلبهم من سكان العاصمة الخرطوم، كما دمرت الاشتباكات المسلحة البنية التحتية، وأخرجت غالبية المستشفيات عن الخدمة.

أعداد النازحين من الخرطوم بحري تفوق القدرة على استيعابها
تحكي رجاء عبد الله البشير، وهي ممن غادروا مدينة الخرطوم بحري، لـ”العربي الجديد، قصتها مع الحرب والنزوح، وتقول: “حينما اندلعت الحرب في العام الماضي، كنت أعيش مع أسرتي في منزلنا بحي الحلفايا شمالي المدينة، والذي غادرناه في الأيام الأولى من الحرب إلى حي نبتة البعيد نسبياً في تلك الفترة عن مناطق تركز المعارك، غير أن تلك الحال لم تدم طويلاً، إذ لاحقتنا المعارك إلى نبتة، فانتقلت الأسرة مجدداً إلى منطقة الأحامدة، وهى تقع بالقرب من معسكرات خاصة بالجيش السوداني”.
تضيف: “عاشت أسرتي نحو ثلاثة أشهر في الأحامدة، قبل أن تتعرض المنطقة للقصف المدفعي من قبل الدعم السريع، وخلال تلك الفترة، انقطعت الكهرباء لدرجة قضى فيها الأهالي على جميع أشجار المنطقة، التي جرى قطعها لاستخدامها حطباً لطهي الطعام، كما عانت جميع الأسر خلال تلك الفترة من نقص الغذاء، وارتفاع أسعار السلع الغذائية، إلى درجة شراء دقيق منتهي الصلاحية، فيما لم يكن يصل إلى المنطقة أي نوع من المساعدات الإنسانية، مع استمرار تزايد الخطر بسبب بالقصف المستمر، وحصار المنطقة”.

من حى شمبات العريق، يتحدث الشاب إبراهيم أحمد عن مخاطر استمرار استهداف المدنيين خلال المعارك، وعن الأزمة الإنسانية الحادة، حيث يعاني الناس من نقص الأدوية، ومن تفشي أمراض مثل الكوليرا والتيفوئيد والحميات، ويؤكد لـ”العربي الجديد” أن “الكثير من الأسر ترفض الخروج من الحى التاريخي، لكنها مستهدفة بكل الأشكال، حتى إن المطابخ الجماعية باتت هي الأخرى معرضة للنهب من قبل قوات الدعم السريع”.

وفي آخر بياناتها، لخصت غرفة طوارئ الخرطوم بحري، وهي أحد الأجسام التطوعية، الوضع في كل مناطق مدينة الخرطوم بحري بأنه أقرب إلى الكارثة الصحية والإنسانية، إذ ينتشر في الأحياء عدد من الأوبئة مثل التيفوئيد والملاريا، مع انعدام الأدوية، خصوصاً المضادات الحيوية والمحاليل الوريدية، وحثت الجميع على التعاون والتكاتف من أجل إنقاذ المدنيين.

في منطقة جنوب الحزام، جنوبي الخرطوم، يواجه السكان مشكلات مماثلة، ومن هناك يقول عمر سيد أحمد لـ”العربي الجديد” إن الأوضاع كارثية، خاصة مع نقص الغذاء والارتفاع الخيالي في أسعار السلع الأساسية، وتفشي الكوليرا والملاريا وملتحمة العين، وندرة العلاج.

ويوضح عمر: “تعمل المطابخ الجماعية المجانية قدر استطاعتها، لكنها غير قادرة على سد حاجة جميع الأسر، كما يؤدي انقطاع التيار الكهربائي في المنطقة منذ مارس/آذار الماضي إلى مشكلات إضافية، وسعر برميل المياه مؤشر واضح على الأزمة، إذ وصل سعره إلى سبعة آلاف جنيه سوداني. عدد قليل من الأسر غادر خلال الأيام الماضية إلى مناطق أخرى، لكن غالبية الأسر لم تستطع فعل ذلك لقلة المال”.

تتابع البشير: “بدأت قوات الدعم السريع تهاجم المدنيين، وسمعنا بمقتل أناس في الأسواق، لذا قررت أسرتي النزوح مجدداً من المنطقة في رحلة محفوفة بالمخاطر استخدمنا فيها عربات (الكارو)، وحينها شعرت بأننا نعيش في القرون الوسطى، وقادتنا تلك الرحلة أولاً إلى قرية اسمها الحسانية، ومنها إلى قرية الفكي هاشم، وصولاً إلى نهر النيل الذي عبرناه إلى أم درمان عبر قوارب نهرية صغيرة، ولم نكن الأسرة الوحيدة النازحة، بل كانت معنا عشرات الأسر في ذلك اليوم، وكلها جاءت من شمال مدينة بحري”.

استقرت أسرة البشير في شمال أم درمان، التي كانت أكثر المناطق أمنا في جميع أنحاء العاصمة الخرطوم، وتؤكد رجاء أنه بعد وصولهم إلى أم درمان لم يجدوا أي اهتمام من المسؤولين، وأن أسرتها كانت محظوظة لأن لديها القدرة المالية على دفع كلفة إيجار منزل، فيما بقيت أسر كثيرة في العراء، وباتت بعض لياليها في وسط المزارع، وتوضح أنها على تواصل مع عدد من سكان المناطق التي نزحت إليها سابقاً في شمال بحري، وأنهم أبلغوها بأن الأوضاع ساءت كثيراً مقارنة بما كانت عليه سابقاً، لا سيما في منطقة حطاب التي جرى نهب سوقها بالكامل، في حين تتواصل حركة نزوح الأهالي، خصوصاً من شمبات ونبتة ودروق والأحامدة والدروشاب، وعدد من أحياء منطقة الحاج يوسف شرق النيل، بينما مسؤولو الدولة لا يوفرون أي اهتمام بالنازحين من المناطق المتأثرة بالحرب.

لا تملك الكثير من الأسر السودانية كلفة النزوح إلى مناطق آمنة
كان مصطفى علي (45 سنة) يسكن في منطقة حطاب التي شهدت خلال الأشهر الأولى من الحرب معارك طاحنة، انتهت باستمرار سيطرة الجيش السوداني عليها، ورغم ضغوط المعيشة وارتفاع أسعار السلع الضرورية، قرر البقاء هناك مع أسرته المكونة من زوجته وخمسة أطفال.

لكن خلال الأيام الأخيرة، اشتدت المعارك بعد أن حاولت قوات الدعم السريع مهاجمة معسكرات الجيش في المنطقة، واستخدم الجيش خلال التصدي للهجوم الطيران الحربي، فيما اعتمدت قوات الدعم السريع على القصف المدفعي العشوائي. يقول مصطفى لـ”العربي الجديد”: “تطور الأوضاع العسكرية عرض أسرتي لخطر كبير، فقررت مع العديد من عائلات المنطقة المغادرة، ونزحنا بداية سيراً على الأقدام لمسافات طويلة، وصولاً إلى منطقة عبرنا منها نهر النيل بالقوارب، لنصل إلى مناطق شمال أم درمان، ومن هناك تفرقنا، فالبعض حل ضيفاً على أقربائه، وآخرون اختاروا التوجه إلى مخيمات النزوح المزدحمة. لا يوجد أدنى اهتمام من قبل السلطات المحلية أو المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة، ومساهمات أهل الخير وحدها تدعم النازحين، لكنها محدودة للغاية”.

ويقول الناشط الإنساني أحمد قمبيري إن أعداد النازحين من شمال مدينة الخرطوم بحري كبيرة، وتفوق قدرة بقية المناطق على استيعابها، ما يجعل الحصول على منزل بالإيجار فكرة شديدة التعقيد، إذ ارتفعت كلفة إيجارات البيوت والشقق إلى أرقام تصل إلى 400 ألف جنيه، بعد أن كانت المنازل تمنح للنازحين بالمجان في بداية الحرب.

يضيف قمبيري لـ”العربي الجديد”: “عانى النازحون كثيراً للوصول إلى شمال أم درمان، وواجهتهم خلال رحلات النزوح مشكلات عديدة، لكن بعد وصولهم، فوجئوا بمشكلات أخرى مثل عدم القدرة على استئجار منازل، وتوفير الطعام اللازم لعائلاتهم، وعدم توفر العلاج، وإن توفر أي من ذلك، فإنه يكون بمقابل مالي يفوق قدرتهم، كما لم يجدوا فرصاً في مخيمات الإيواء لازدحامها، خاصة بعد اندلاع القتال في ولايات مثل سنار والنيل الأزرق، وتأثر مناطق أخرى بالفيضانات والأمطار، ما اضطر بعض سكان المدينة للعودة إلى منازلهم، علماً أنهم نزحوا بالأساس نظراً لانتشار الجيش في أم درمان، وتوفر بعض الخدمات الصحية، وخدمات الكهرباء والمياه”.

ويوضح الناشط الإنساني السوداني: “المنظمات الخيرية لم تتمكن من تقديم المساعدات لجميع النازحين، وكذا المطابخ الجماعية المعروفة محلياً باسم (التكايا). أدير مبادرة خيرية لتوزيع المواد الغذائية على النازحين والمتضررين، لكننا لم نتمكن من مساعدة أسر عديدة طرقت بابنا بسبب الأعداد الكبيرة، وقلة الداعمين، الذين تأثر كثيرون منهم أيضاً بظروف الحرب”.

العربي الجديد

Exit mobile version