بوضعه على سرير منزلي، وصل مرافق مصاب بالكوليرا إلى مستشفى ريفي في تخوم محلية الدامر بدلًا عن النقالة الطبية. وفي القرى الفقيرة شمال البلاد، بالكاد يحصلون على شاحنات تنقلهم إلى المدن في الولاية حيث أماكن العلاج، والتعليم، والتجارة، والأسواق، ومحطات الحافلات.
طبيب: تأخر وصول المصابين إلى مراكز الرعاية الصحية يؤدي إلى الوفاة بسبب فقدان الجسم للسوائل
حتى تتمكن الشاحنة من الوصول إلى المستشفى لتدارك الوضع الصحي لمريض الكوليرا، تتحرك لمسافة لا تقل عن (15) كيلومترًا، وفي بعض الأحيان (30) كيلومترًا على طرق ترابية. ويضطر السائق إلى التزود بوقود يباع بسعر باهظ في السوق الموازي يصل إلى (80) ألف جنيه. كل هذه العوامل تجعل عشرات المرضى يفقدون حياتهم سواء داخل المستشفى لتأخر التدخل الطبي أو الموت على الطرقات بحثًا عن مشافٍ قريبة.
ينهمك شبان وفتيات من الكوادر والمتطوعين الإنسانيين في المستشفى الرئيسي لإسعاف المصابين، وبينهم عشرات الأطفال بأجساد هزيلة لا تقوى على مصارعة مرض الكوليرا. في الفناء الخارجي، إلى حين إنشاء مركز العزل، تعمل الكوادر الطبية لساعات تتجاوز اليوم دون توقف لمتابعة حالة المصابين باستمرار.
مضاعفات تسبب الوفاة
قال كادر طبي تحدث لـ”الترا سودان” إن عشرات المصابين وُضعوا مؤقتًا في الفناء الخارجي للمستشفى في انتظار مركز لعزل المصابين، لأنه لا يمكن وضعهم في موقع قريب من المرضى المنومين بأمراض لا علاقة لها بالكوليرا.
ويرى أن المضاعفات الناتجة عن الكوليرا هي التي تسببت في وفاة العشرات من المواطنين، خاصة مع عدم الإلمام بالوقاية أو الإسعافات الأولية التي تتمثل في عدم إيصال جسم المصاب إلى مرحلة الجفاف مع فقدان مستمر بسبب القيء والإسهال الشديد.
تقول السلطات الصحية إنها تعمل على تتبع الوباء في القرى المنكوبة بولاية نهر النيل، وترجح أن مياه الشرب هي التي فاقمت الإصابات، خاصة مع شح معدات التنقية في غالبية المناطق لأسباب تتعلق بنقص الدعم الحكومي.
لم تنفك قرى محلية الدامر بولاية نهر النيل من مغادرة مأزق آثار الحرب والأزمة الاقتصادية، وانعدام الغذاء والرعاية الصحية، حتى فوجئت بوباء الكوليرا بإصابة أكثر من ألفي شخص في الولاية، أغلبها في هذه المحلية التي تضم عشرات القرى.
وباء يتجدد سنويًا
الكوليرا في السودان وباء يتجدد موسميًا خلال فصل الخريف، لأسباب متعلقة بتراجع الصرف على صحة البيئة، وعدم كفاءة مراقبة الأطعمة والأغذية والأسواق، حسب ناشطين في القضايا الصحية والاجتماعية.
وقالت وزارة الصحة بولاية نهر النيل في تحديث للتقرير اليومي الذي صدر قبل يومين إنها رصدت (177) حالة إصابة جديدة، أعلاها في محلية الدامر بواقع (120) حالة، تليها مدينة عطبرة (37) حالة، وبربر (19) حالة، وحالة واحدة في محلية أبو حمد، بينما بلغ عدد المنومين في مراكز العزل (333) حالة، ليرتفع العدد التراكمي إلى (2064) إصابة، بينها (55) حالة وفاة.
ناشطة: تعكس الكوليرا تدهور صحة البيئة في ولاية نهر النيل، خاصة محلية الدامر
وشهدت ولاية نهر النيل هذا العام أمطارًا غزيرة وسيولًا أدت إلى فقدان عشرات القرى بسبب المياه. ويقول المواطنون إن كوارث الخريف غير المعتادة خلقت فوضى من خلال فقدان الآلاف للمساحات الزراعية والمتاجر.
تعكس الكوليرا تدهور صحة البيئة في ولاية نهر النيل، خاصة محلية الدامر، وفق الناشطة الطوعية أمل السني، التي تشير إلى أن الولاية استقبلت مئات الآلاف من النازحين الذين يعيشون في مراكز الإيواء والمجتمعات المستضيفة. وتقول إن تجمع الأشخاص في مواقع بعينها ومع عدم اتخاذ التدابير الفعالة لمكافحة الوبائيات، يجعلها قابلة للانتشار، لذلك افتك الكوليرا بالعشرات يوميًا في قرى الدامر.
غياب الاستعدادات الحكومية
ما هو علاج الكوليرا؟ يقول العاملون في المجال الطبي إن المحاليل الوريدية هي التي تؤدي إلى تخفيف الآثار الوخيمة للكوليرا، لأنها تعوض فقدان جسم المريض للسوائل. ويحتاج الشخص المصاب إلى ما لا يقل عن 6 زجاجات إذا وصل إلى قسم الطوارئ أو إنقاذه داخل مسكنه.
كيف تنتقل بكتيريا الكوليرا؟ تنتقل عن طريق الأغذية أو المياه الملوثة، أو من خلال ملامسة البراز أو القيء المتأتّي من الأشخاص المصابين بالمرض.
ويمكن أن تُسبّب الكوليرا إسهالاً شديدًا وتقيؤًا، فتتحوّل بسرعة إلى مرض قاتل في غضون ساعات إذا لم يتمّ علاجها.
ويعزو طبيب بولاية نهر النيل، تحدث مع “الترا سودان” مشترطًا حجب اسمه لتجنب الملاحقة الحكومية والأمنية، انتشار الكوليرا إلى غياب التخطيط الفعال في الولاية، التي لم تحتط للآثار المتوقعة من الفيضانات والأمطار، على الرغم من النشرات المتعلقة بالطقس التي تنبأت بموسم غير مسبوق للأمطار والسيول.
وأضاف: “استقبلت الولاية ما لا يقل عن مليون نازح من العاصمة الخرطوم، والجزيرة، وسنار، والأبيض، والقطينة، وإقليم دارفور. بالتالي، كان يجب ضمان بقائهم في مواقع إيوائية لديها قدر معقول من نظافة البيئة، وأن الوسائل المستخدمة في نقل الغذاء والمياه آمنة وصحية”.
وأردف: “الوضع الصحي أكبر من طاقة وزارة الصحة الولائية والاتحادية، لأنهما مكبلتان بشح التمويل الحكومي من وزارة المالية، التي كانت تدفع قبل الحرب 1% من الموازنة لقطاع الصحة والتعليم مجتمعين”.
وتابع: “أنا أعلم أن وزير الصحة الاتحادي ووزير الصحة بولاية نهر النيل يحاولان حل أزمة الكوليرا، لكن الأمور خارج سيطرتهم. هما يحتاجان إلى التمويل المالي لتنفيذ التدخلات الصحية الطارئة بإنشاء مراكز العزل والتنسيق مع المحليات لضمان نظافة البيئة وتجفيف المياه الملوثة في الشوارع والأسواق”.
والأسبوع الماضي، أطلقت منظمات محلية دعوة لتعيين متطوعين في محلية الدامر للتوعية بمخاطر الكوليرا والتدابير اللازمة للوقاية من خلال التثقيف الصحي للمواطنين.
محاليل في السوق الموازي
ويعتمد مرضى الكوليرا على المحاليل الوريدية التي تباع بأسعار باهظة، خاصة في المناطق المنكوبة لظاهرة السوق الموازي، والتي تعرف بـ”تجارة الأزمات” في أوساط السودانيين.
وأقراص مثل مسكنات الألم تباع بسعر (500) جنيه للحبة الواحدة في بعض القرى، كما أن سعر قنينة من المحلول الذي يتكون من السكر والملح والماء تباع بنحو عشرة آلاف جنيه. فيما ينصح متطوعون السكان بصنع المحلول في المنزل من خلال تحضير الملح والسكر والماء لتفادي الأسعار الباهظة للأدوية.
خسر السودان عشرات المصانع وشركات الأدوية التي كانت تتركز في العاصمة الخرطوم
خسر السودان عشرات المصانع وشركات الأدوية التي كانت تتركز في العاصمة الخرطوم، بينها نحو (45) شركة دوائية ومصانع محلية بسبب الحرب وسيطرة قوات الدعم السريع على معظم المناطق التي تقع فيها المنشآت الحيوية.
من بين هذه المنشآت شركات استيراد المحاليل الوريدية، حيث لم يتمكن السودان من تأمين صناعتها داخليًا في السنوات الماضية. وفي العام 2014، جرت محاولة لتوطينها بإنشاء مصنع بقيمة (25) مليون دولار شرق الخرطوم، ولم ينجح لارتفاع تكلفة تنقية مياه المحاليل.
الترا سودان