الحوكمة ونشوب حرب أبريل

يروج حميدتي لنفسه على أنه ذلك الرجل القادم من الهامش لتحدي سيطرة النخب الحضرية على السُلطة والثورة، ومنع توطيد ديكتاتورية عسكرية ومنع من يصفهم بـ”الإسلاميين المتطرفين” إلى الساحة
صعود حميدتي الذي أصبح قوة لا يُستهان بها في السياسة السودانية دفعه لاستغلال فرصة الفراغ لتعزيز نفوذه الإقليمي (وكالة الأناضول)
بدخول الحرب شهرها الـ 18، لا بدّ من إجراء فحص لهياكل السلطة ومعرفة أسس بنيتها، وطبيعة كثافة النيران في المدن السودانية وشراسة الخطاب، التي لا تسمح بأي تفاهم قائم على الصوابية السياسية أو لغة المصالح العليا للبلاد، ولا تحترم قواعد الاشتباك المعترف بها، والتي هي محلّ اتفاق بين كل الأطراف السياسية والعسكرية، إلا أن هناك حدودًا واضحة تتسم بطابع خصوبة الأرض وتقسيم مناطق الإنتاج.

هذه الحدود جعلت البعض يتعاطى معها بشكل ثقافي في تفسير الحرب.. لا أريد أن أطيل في المقدمة، وأحيل القارئ إلى فترة ما قبل الثورة الملونة في ديسمبر/ كانون الأول.

في السنوات الأخيرة، كانت هناك بداية اتجاه سياسي هدفه إجراء تغيير ناعم لنظام المشروع الحضاري للحركة الإسلامية على مستويين؛ المستوى الأول استهدف الأجيال الناشئة وقيادات التنظيمات المعارضة لحكومة البشير، بينما المستوى الثاني كان موجهًا لعناصر النظام من الداخل، وإعادة تعريف الدولة للتعامل مع مشكلاتها المستجدة.

أذكر أنني خلال فترة دراستي الجامعية تحدثت مع أحد الأقارب – وهو قيادي بارز في المؤتمر الوطني ومسؤول فيه – عن تفاهمات المستوى السياسي بالحزب مع المبعوثين الأميركان، ورسائل البيت الأبيض التي تأتيهم من أطراف وسيطة، والتي بُنيت على التغيير المتدرج، كاعتراف تنظيمي بأن هناك مشكلات في بنية التنظيم يجب التخلص منها في إطار التكيف مع النظام العالمي، والحفاظ على الامتيازات، وهامش مناورة في السياسات الخارجية.

بعد سقوط البشير، دخلت البلاد في مرحلة انتقالية معقدة مليئة بالتحديات السياسية والاجتماعية. هذه المرحلة، التي تُعبر عن مخاض طويل للتغيير، رأينا خلالها كيف كان يتم إفراغ الدولة من مضمونها، من خلال غياب دورها في احتكار العنف واحتواء الأزمات في أطراف السودان، إضافة إلى غياب النظام السياسي كأرضية صلبة، وبرزت المنظمات لتأخذ دورًا متزايدًا على حساب مؤسسات الدولة.

واقع المؤسسة العسكرية والتطبيع مع إسرائيل مثال على ذلك، يُعد واحدًا من أبرز مظاهر الانحراف السياسي، وتم تبرير التطبيع بأنه جزء من تحسين العلاقات التي تنعكس على الجوانب الاقتصادية والسياسية، كحال المصالح الاقتصادية بين الكيان وعواصم خليجية. بيدَ أن هذا القرار عكس مدى تأثير الحوكمة كنظام بديل عن السيادة الوطنية. فالحوكمة – في إطارها السوداني – اعتمدت على التعاون مع القوى الدولية والممولين الخارجيين، دون مراعاة للتوازن الوطني أو الإرادة الشعبية. وهذا الفعل، يمثل انحرافًا كبيرًا عن مفاهيم السيادة والاستقلال الوطني.

هناك أيضًا تحالف دعم الشرعية في اليمن، لم يأتِ بناءً على قرار سياسي شعبي أو مؤسسي داخلي، بل كان جزءًا من اللعبة الإقليمية التي فرضها منطق الحوكمة الذي يعتمد على الشراكات والتحالفات الإقليمية لتحقيق استقرار النظام، دون النظر إلى مصلحة الشعب أو الالتزامات الوطنية .

وقد شهدنا أيضًا تشظي حركة الإسلام السياسي، حيث انقسمت إلى تيارين: أحدهما يتبنى الدين بروحانية خالصة، والآخر يسعى لتوظيف الدين في إطار سياسي يهدف إلى التحشيد لكسب الأصوات وإضفاء الطابع الإسلامي على سياسات السوق الحرة.

وفي الوقت الذي كان فيه الإسلاميون يتحدثون عن “المشروع الحضاري”، الذي يهدف إلى أسلمة الدولة والمجتمع، شهدنا انحرافًا واضحًا عن هذه المبادئ لصالح سياسات نيوليبرالية تخدم المصالح الاقتصادية للنخب الإرثية والوافدين الجدد لشبكة علاقات السلطة؛ لأن هذا التوجه يتماشى مع مفهوم الحوكمة النيوليبرالي، حيث تُدير الدولة الاقتصاد كأنها شركة تبحث عن الربح لخدمة الشركاء والمساهمين بدلًا من خدمة المواطنين.

على الجانب الآخر، لم يكن اليسار السوداني بمنأى عن هذه الانحرافات؛ فبعد سقوط نظام البشير، كانت هناك توقعات بأن يمارس اليسار دورًا رئيسيًّا في بناء دولة جديدة قائمة على العدالة والمساواة. لكن، بدلًا من ذلك، تحالفت قوى اليسار مع نخب عسكرية كحميدتي، وتخلت عن قيمها وخطابها الثوري ذي البعد الاجتماعي، وباتت تُدار وفق منطق السوق والتحالفات الإقليمية والدولية، وصار النظر إلى العمل السياسي الجذري، كما كان الحال في مواجهة نظام المؤتمر الوطني.

ومن هنا ظهر دور الحوكمة كبديل سياسي، ومن المفارقات أن هذه الحوكمة جاءت بإعلان رسمي من الحركة الإسلامية عندما عرضت على حمدوك منصب وزير المالية، الذي رفضه؛ لأنه أدرك أن دوره الأممي سيكون أكثر تأثيرًا، وبذلك تحتفظ بهذا السبق لنفسها تاريخيًا.

بالعودة إلى مفهوم الحوكمة التكنوقراطية، فقد نشأت في سياق عالمي يرتبط بصعود الليبرالية الجديدة، في فترة بروز مارغريت تاتشر في رئاسة وزراء بريطانيا، حيث تغير مفهوم السياسة من الاهتمام بالقيم والمبادئ إلى مجرد إدارة تقنية. وتحول مفهوم المشاركة الشعبية إلى مصطلحات جديدة مثل: “المقبولية الاجتماعية” و”جماعات الضغط”، و”الشريك”، ما حول العملية السياسية إلى مجرد إدارة من خبراء على شاكلة إدارة الشركات، بعيدًا عن القيم الثورية والمبادئ الاجتماعية.

في السودان، ارتبطت هذه الفكرة بتعيين عبدالله حمدوك كرئيس للوزراء. حمدوك، الخبير الاقتصادي ذو الخلفية الأممية، كان يُنظر إليه كحل لتجاوز الأزمات الاقتصادية والسياسية في البلاد، لكن الحوكمة التي قدمها كانت بعيدة كل البعد عن معالجة الجذور الهيكلية للأزمة السودانية. لذلك، بينما كان حمدوك يعمل على تنفيذ سياسات اقتصادية تستجيب لمتطلبات المؤسسات المالية الدولية، كان الشعب السوداني يعاني من الفقر، دون أن يجد في هذه السياسات حلًا لمشاكله اليومية.

الحوكمة هي – عند تفكيكها – تعبر عن نظام يتشكل من أصحاب الامتيازات من ممولين ومستثمرين وموظفين ذوي عقود ثابتة، ونظامها يخاطب الذين يريدون الجلوس إلى طاولة اللاعبين، بحثّهم على جمع المساهمات بقدر وضعهم الطبقي؛ لتكوين شراكات يحاول فيها اللاعب الأصغر ربط مصالحه مع نظيره من “اللعيبة الكبار”.

ومن هنا، ينطلق الأمين العام للحركة الوطنية “الإسلامية” قاسم الظافر الذي يدعو لتحويل الشركات العامة إلى شركة مساهمات عامة، باعتبار أن هذه الشراكات ستخلق تكافؤًا بين الذين ورثوا الدولة وكوّنوا رؤوس أموال منها، والطبقة الفقيرة التي لا تملك سوى قوت يومها، وبالتالي فإن الشراكة ستتم بينهم وبين أقارب حميدتي وأسامة داؤد وأسرته، وعائلة إبراهيم الشيخ وأبناء عوض الجاز.. إلخ.

أصبح الخبير حمدوك يمثل تلك المرحلة، بعد أن انفصلت العلوم عن الفلسفة تحت دعوى التخصص، ليحل الخبير محل المثقف الملتزم بقضايا العدالة والنضال ضد الظلم، في تعارض مع ما قاله الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي حول “المثقف العضوي”، إذ وصفه بأنه يكون متجذرًا في مجتمعه، وملتزمًا بالتغيير الاجتماعي والسياسي.

غير أن هذا الخبير- رغم تخصصه – لا يجيد التعامل مع تطلعات الناس وهمومهم، بقدر ما يخدم مصالح السوق والبورصات العالمية. وما يراد من صعود الخبير إلى الحيز السياسي هو إبعاد دور المثقف من جهة، وفصل الدولة عن دورها من جهة أخرى، باعتبار أن هناك إشكاليات هيكلية بحاجة إلى إصلاح وإعادة بناء.

في المقابل، إن صعود حميدتي – الذي أصبح قوة لا يُستهان بها في السياسة السودانية – دفعه لاستغلال فرصة الفراغ؛ لتعزيز نفوذه الإقليمي، مستفيدًا من عوائد حرب اليمن التي دعمته عسكريًّا واقتصاديًّا. دور حميدتي في هذه الحرب يعكس حقيقة أن الحوكمة، كنظام يعتمد على استبدال السيادة بمفاهيم التعاون الدولي والإقليمي، قد أدت إلى تهميش مصالح الدولة وإغراقها في صراعات لا تخدم إلا النخب العسكرية والسياسية.

وبروزه كشخصية هامة، شكل نظامًا عميقًا للسلطة، وبتعبير آلان دونو: “لا يمكن أن يُترجم إلى أي شكل دستوري أو مؤسسة مدركة في المجال العام”. هذا النظام النخبوي داخل المنظومة السياسية الهجينة غريب عن الأشكال الدستورية المعهودة للسلطة، حيث استوعب الأشكال التقليدية للسلطة، من خلال القيادات السياسية والشخصيات النافذة المرتبطة بالمؤسسات الرسمية، وأيضًا رجال الإدارات الأهلية والطرق الصوفية، التي اعتبرته شخصية تاريخية مُلهمة وشُجاعة، في ظل الغيوم التي تعصف بحاضر ومستقبل السودان، نتيجة حركته النشطة تجاه الأزمات المتجددة.

وعلى النقيض، فإنّ هؤلاء القادة السياسيين الذين كانوا يضعون أملهم فيه، ينطبق عليهم وصف تشارلز رايت ميلز في كتابه “الياقة البيضاء (The White Collar)، إذ قال: “إن الجماعة العاجزة عن أن تتوحد حول نظرتها إلى العالم، من شأنها أن تجعل منهم ذواتًا نشطة، فهم مدفوعون من قوى خارجة عن نطاق تحكمها، وتسحبهم إلى مواقف لا حيلة لهم فيها”. بينما بيدق كونفدرالية الشر، يمكن وصفه بقول ميلز: “ليس له وعي تاريخي، لأن ماضيه كان قصيرًا وخاليًا من المجد، إن كان مسرعًا دائمًا، فربما كان ذلك لأنه لا يعرف إلى أين هو ذاهب”.

لذا أصبح الهم الجماعي النخبوي، يتمحور حول الخصخصة، وتحويل المشروعات العامة إلى مشاريع مساهمات عامة، مع إيجاد طابع إسلامي للسوق من قبل أنصار الطيف الإسلامي، وضرورة التمكين بالنسبة لقوى اليسار من تحالف “قحت” أو تقدم، وصعود الخطاب النسوي الليبرالي الداعي لتحرر الفتاة المدينية عن السلطة الاجتماعية؛ لإشباع الرغبات الاستهلاكية.

وبانتهاء قيم اليسار واليمين وإفراغ الخطاب من محتواه خلال تلك الممارسات، التي خلقت فراغًا غير مسبوق منذ فترة الاستعمار، برز الصراع الحقيقي بين الفرقاء السودانيين؛ فهو لم يكن حول النظام الإداري أو الاقتصادي، بل حول السيطرة على الموارد والثروة. فقد سمحوا لحميدتي وقواته بالسيطرة على موارد ضخمة من الذهب، والطبيعي أن يتحول إلى طرف أساسي في الصراع على السلطة.

هنا، يمكن فهم الحرب التي اندلعت في أبريل/ نيسان 2023، على أنها نتيجة لصراع الطموحات الاقتصادية بين النخب المختلفة من جهة، والداعمين والممولين الخارجيين من جهة أخرى، وليس صراعًا أيديولوجيًّا أو سياسيًّا بالمعنى التقليدي.

هذا الصراع يشبه ما وصفه كارل ماركس في تحليله للتاريخ من حيث إن الصراع على الموارد الاقتصادية أو السيطرة على وسائل الإنتاج هو المحرك الأساسي لحركة التاريخ. هذا الصراع واضح بين حميدتي والنخب الاقتصادية الأخرى، التي تسعى لتعزيز مصالحها الخاصة. وبذلك، تحولت الحوكمة إلى وسيلة لتقسيم الثروة والسلطة بين هذه النخب، ولقد رأينا كيف تبدل حال شركاء الأمس، بعيدًا عن أي التزام بالمصالح العامة أو تحقيق العدالة الاجتماعية، التي باتت حلمًا بسيطرة هؤلاء على الطاولة.

بالنظر إلى ما طرحه آلان دونو في “نظام التفاهة”، وما يجري في السودان بعد سقوط نظام البشير، يمكن التأكيد على أن السودان يعاني من حالة واضحة من تفريغ الدولة ومؤسساتها من مضامينها الحقيقية، وتهميش المؤسسات، وتحالفات الخبير مع الشريك.. حتى اللغة التي سادت كانت تتكون من جمل ومفردات تُحيل إلى مفهوم الشراكة.

تناغمت كل العوامل مع بعضها لتجسد حالة شيوع السيولة مقابل الصلابة التي تميّز عصر الحداثة السائلة؛ ونتيجتها ساهمت في إحداث هشاشة كبيرة في بنية الدولة. لذلك علينا – كسودانيين – الاتجاه نحو إيقاف هذه المهزلة، وكبح جماح الحرب، بترميم نظام سياسي واضح يؤدي إلى إعادة بناء الدولة من خلال تمكين المؤسسات الوطنية، وإعادة الجيش إلى دوره الطبيعي كحامٍ للدولة لا كطرف في الصراع على السلطة.

الجزيرة نت

Exit mobile version