بدلًا من سداد الإيجار الشهري للشقة السكنية وسط القاهرة بقيمة (200) دولار شهريًا، قررت عائلة رندا العودة إلى السودان مع تفاقم الوضع الاقتصادي لعشرات الآلاف من أولئك الذين لجأوا إلى مصر خلال الحرب التي اندلعت بين الجيش وقوات الدعم السريع منتصف نيسان/أبريل 2023.
استقبل معبر أرقين الحدودي بين السودان ومصر آلاف العائدين من مصر طوعًا وقسرًا بسبب الوضع المعيشي والبطالة وشح فرص العمل أو الحملات الأمنية
أعداد السودانيين الذين غادروا مصر إلى بلدهم خلال شهر فقط تجاوزت (11) ألف شخص وصل أغلبهم إلى معبر أرقين السوداني شمال البلاد وفق حديث متطوعة في غرف الطوارئ.
تشير مودة العاملة الإنسانية في منظمة طوعية بمدينة وادي حلفا بالولاية الشمالية إلى أن هناك تزايد ملحوظ في أعداد السودانيين العائدين من مصر خلال الأسابيع الماضية وحتى اليوم. هناك بصات تنقل القادمين الذين يبررون عودتهم بعدم قدرتهم على مقابلة الوضع المعيشي مع شح العمل والبطالة.
في محطة الحافلات العمومية وسط القاهرة وقريبًا من منطقة عابدين يسرد عمار الأمين لـ”الترا سودان” مأساة العائلات السودانية وهي تحمل الحقائب في الطريق العودة إلى بلدهم. في مصر عجزوا عن سداد إيجار الشقق السكنية لشهور ثم قرروا تسوية الإجراءات مع الملاك بغرض المغادرة، وهناك من لم يتمكن من إرسال أطفاله إلى المدارس لأن التعليم يحتاج إلى المال.
استغرقت عائلة رندا أسبوعًا كاملًا للوصول إلى أم درمان والعودة إلى المنزل الذي يقع في حي يسيطر عليه الجيش. استغلت هذه العائلة التحويلات المالية التي كانت تذهب إلى إيجار المسكن في العاصمة المصرية منذ قرابة العام لشراء البقوليات والخضروات واللحوم من أسواق شارع الوادي في أم درمان غير مضطرة لادخار المال لغرض سداد الإيجار لأنها تقيم في منزلها الذي تملكه، تضيف هذه السيدة في حديث لـ”الترا سودان”.
في الطريق من القاهرة وحتى وصول الحافلة الصغيرة إلى شارع الوادي في أم درمان كانت رندا تنظر عبر النافذة إلى الشارع، اقتربت أعينها من نهر النيل الذي يمر عبر القرى الصغيرة شمال البلاد حيث شاهدت مزارع النخيل والفواكه وماكينات سحب المياه إلى المساحات المزروعة داخل الولاية الشمالية.
تعتقد رندا أن هذه المشاهد داخل بلدها كفيلة بوضع حد للقلق والخوف من الحرب التي تستمر منذ (18) شهرًا، وكادت أن تدمر ذكرياتهم في المنافي القسرية هربًا من جحيم القتال.
في الأسبوع الأول من اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع وصلت أعداد كبيرة من السودانيين إلى شمال السودان بغرض اللجوء إلى مصر التي خففت القيود على حركة اللاجئين في ذلك الوقت، وسرعان ما قيدتها بشدة في حزيران/يونيو 2023 ملغيةً اتفاق الحريات الأربع الذي يسمح لرعايا البلدين بالتنقل والإقامة والتملك والعمل، فيما لم تسجل وزارة الخارجية السودانية أي احتجاج على إلغاء الاتفاق الذي يسري منذ العام 2004.
منذ إلغاء الاتفاق من الجانب المصري ووضع قيود صارمة أمام السودانيين الراغبين للحصول على تأشيرة الدخول نشطت حركة نقل المسافرين عبر الصحراء من شمال السودان إلى الأراضي المصرية بواسطة شاحنات، وخلال فترات الصيف توفي ما لا يقل عن (80) لاجئًا سودانيًا بسبب وعورة الطرق الترابية والصخرية وانعدام مياه الشرب والطعام أثناء تعطل وتوهان المركبات التي تقلهم.
“فلاي مصر” الاسم المتداول بين سائقي الشاحنات الذين استخدموا منصات اجتماعية للإعلان عن الرحلات الصحراوية بين مصر والسودان من داخل عطبرة وأبو حمد وبورتسودان وكسلا
تحولت مدن عطبرة وبورتسودان وبربر وأبو حمد شمال البلاد إلى محطات صغيرة لمئات الشاحنات التي يعمل عليها رجال من البدو ممن لديهم خبرة في تتبع طرق الصحراء، مقابل مبلغ مالي يصل إلى (600) ألف جنيه ما يعادل (220) دولارًا أميركيًا.
“فلاي مصر” الاسم المتداول بين سائقي الشاحنات الذين استخدموا منصات اجتماعية للإعلان عن الرحلات الصحراوية بين مصر والسودان من داخل عطبرة وأبو حمد وبورتسودان وكسلا، ويتعين على الراغبين التواصل عبر البريد الخاص سواء على “فيسبوك” أو خدمة التراسل الفوري “واتس آب” للتنسيق بشأن الرحلة.
العودة العكسية لبعض اللاجئيين السودانيين إلى بلدهم أدت إلى ثبات في إيجار الشقق السكنية وانخفاضها في بعض المناطق حسب تقارير متداولة خلال الأسبوعين الماضيين، ويتفق اللاجئ السوداني المقيم في القاهرة عمار الأمين مع هذه الملاحظة، مشيرًا إلى أن الأمر وارد مع رغبة أغلب السودانيين بالعودة، خاصة وأن الجيش لم يعد كما كان في السابق، وأصبح يتقدم في بعض المناطق. هذا الوضع يشعر السودانيين بالإطمئنان حتى وإن لم يعودوا إلى المنازل، يمكنهم البقاء في الولايات إلى حين تيسر عودتهم لاحقًا، يضيف عمار الأمين.
استثمارات السودانيين في قطاع العقارات وصلت إلى (18) مليار دولار وفق ما ذكرت وسائل إعلام مصرية نقلاً عن مؤسسات رسمية مطلع هذا العام، وقد تكون إحصائية منطقية خاصة مع توافد السودانيين إلى مصر منذ العام 2016 مع ملامح الأزمة الاقتصادية في البلاد، وتدني سعر الصرف وتآكل قيمة الجنيه السوداني.
بينما تقول منظمات إنسانية إن حوالي مليوني سوداني يقيمون في مصر قبل اندلاع الحرب، فيما وصل نحو مليون لاجئ خلال القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع. القاهرة كانت قد نقلت مخاوفها إلى مفوضية شؤون اللاجئين حينما استفسرت الأخيرة عن القيود التي تفرضها على اللاجئين السودانيين، وتنفيذ عمليات الترحيل القسري خلال الشهور الماضية.
مصدر بمفوضية العون الإنساني: هناك حركة ملحوظة في أعداد اللاجئين السودانيين الذين وصلوا إلى مدينة وادي حلفا من معبر أرقين في طريق العودة
ويؤكد مصدر بمفوضية العون الإنساني لـ”الترا سودان” مع اشتراط عدم نشر اسمه، أن هناك حركة ملحوظة في أعداد اللاجئين السودانيين الذين وصلوا إلى مدينة وادي حلفا من معبر أرقين في طريق العودة، وتعمل المفوضية على حصر الأعداد وتقديم العون الإنساني عبر الشركاء الإنسانيين والجمعيات الطوعية.
ويرى المصدر أن الآلاف من السودانيين الذين لجأوا إلى مصر غادروا البلاد خلال الأيام الأولى للحرب نتيجة صدمة من الحرب التي اندلعت بين الجيش وقوات الدعم السريع، وهناك العديد منهم جرب العيش في مصر وتمكن من امتصاص الصدمة مع مرور الوقت وبطريقة أو بأخرى يتمكنون بعد العودة من العيش في السودان.
وكانت إحصائيات أجرتها مراكز بحثية سودانية أكدت أن نحو (40)% من العائلات السودانية في مصر لم تتمكن من إرسال أطفالها إلى المدارس بسبب الوضع المالي.
الترا سودان