يبدو أن وجهًا آخر من وجوه الحرب الشاملة، التي تدور الآن في السودان، سيأخذ مكانه في أرض المعركة، وستشن الدولة هجماتها بعملية جريئة، هي عملية “تغيير العملة”.. ويبدو أن السودانيين موعودون بهذا النوع من العراك الذي تتطاير شظاياه في كل مكان، و يصيب إصابات واسعة، فالمعارك الاقتصادية في الحرب لا تقل ضراوة عن معارك السلاح!!..
الحرب الاقتصادية التي تقودها الدولة هذه المرة..كانت المليشيا هي التي بدأتها في الأشهر الأولى من الحرب، حين أطلقت شياطينها البشرية من أقبية السجون، واستجلبت الشذّاذ من آفاق الأرض، ليقوموا بأكبر عملية سلب ونهب في تاريخ القارة، طالت الكتلة النقدية في بنك السودان، ومطابع العملة، واجتاجوا الأسواق والمتاجر ومنازل المواطنين، يستولون على ما تقع عليه أيديهم من النقود.. كما استولوا على أجهزة طباعة النقود وأوراقها، وقادوا أكبر عمليات تزوير وتزييف شهدتها البلاد..
لقد فعلت المليشيا ذلك عن قصد، وعن تكتيك مرسوم مع حلفائها الإقليميين، وبالذات الإمارات التي كانت تسهم في هذه العمليات بصورة مباشرة، وذلك من أجل إسقاط النظام المصرفي السوداني، وإحداث انهيار اقتصادي، بتعمد إزهاق روح الجنيه السودان وإفقاده القيمة تماماً.. والسودانيون الذين يعيشون في مناطق سيطرة المليشيا، يلمسون بأيديهم مؤشرات كثيرة في هذا الاتجاه؛ في أنواع العملات المزيفة والعملات غير المطابقة للمواصفات التي أُغرقت بها الأسواق، حتى أصبحت لديهم مهارات في تمييزها، وأحياناً كان جنود المليشيا يجبرون الباعة في الأسواق على تداولها!!..هذا فضلاً عن وجود كميات من العملات الإفريقية، خصوصاً الشلن الصومالي، الذي يسهل الحصول عليه من أسواق دولة صومالي لاند، من غير إجراءات معقدة، أو حتى تزييفه، وهذا مؤشرة على وجود يد إثيوبية في الموضوع فهي الدولة الوحيدة في العالم التي تعترف بدولة مستقلة في صومالي لاند وترتبط بها بعلاقات.. وكأن الترتيب الذي كان معد مسبقاً هو إغراق الأسواق بالعملة السودانية المزيفة، ثم ضخ عملات أجنبية للتعامل في تلك المناطق، فلا يعود للجنيه السوداني نفس الأهمية طالما أن هناك عملة بديلة يمكن تداولها!!.. ولكن يبدوا أن هذا السعي لم يمض إلى نهايته، و لسبب ما صمدت العملة السودانية رغم التزييف، ولم يحدث انهيار اقتصادي شامل ولم تشل قدرة الدولة على الحركة، رغم العطب الذي أصاب النظام المصرفي، ولعلَّ نجاح البنوك في استمرار أنظمة التعامل الإلكتروني، كان له دول كبير.
و لهذا عندما تتحدث مليشيا الدعم. السريع، عن أن تغيير العملة السودانية هو خطوة نحو تقسيم السودان، نستطيع أن نرد، بالفم المليان، أن المليشيا هي التي كان تحاول ذلك وترتب له، بتدمير النظام النقدي السوداني، وباستجلاب عملة أجنبية بغرض طرحها في الأسواق للتعامل، بعد أن يفقد الناس الثقة في الجنيه السوداني “المزيف” و”فاقد القيمة”!!.. هذا هو الترتيب الفاشل الذي كانت تسعى له المليشيا و حلفاؤها!!.
ستخوض الدولة هذه المعركة (معركة تغيير العملة)، رغم كلفتها العالية، 400 مليون دولار، لإنقاذ الاقتصاد السوداني، والحفاظ على قامة الجنيه السوداني، ومن أجل إحراق مليارات الجنيهات التي بحوزة المليشيا ولصوصها، نهبوها من المصارف ومن منازل المواطنين.. فذلك أولى من الـ 470 مليون دولار التي ألقى بها سيئ الذكر (حمدوك) تحت أقدام الأمريكيين، بغير طائل!!..
نعلم أن هناك كثير من القلق ينتاب الناس حول الآثار المصاحبة لهذه العملية، ومدى تضرر المواطنين منها، خصوصاً الذين يعيشون في مناطق الحرب وفي مناطق سيطرة الدعم. السريع، حيث يعجزون عن الوصول إلى المصارف لتبديل ما بحوزتهم من نقود!!.. نعم يجب على الدول وضع تحوطات مستقبلية لأمثال هؤلاء، بطريقةٍ ما تضمن ألا تكون تلك العملية سبيلاً لتمرير الأموال غير النظيفة إلى النظام المصرفي.. ولكن في الوقت الحالي، فإن الاستقراء البسيط لأحوال الناس يدل على أنه الأمر ليس بهذا الحجم المزعج، ولا بهذا الدرجة من القلق الذي يُروَّج لها.. ففي الغالب، لا تترك المليشيا ومجرموها فرصة للمواطنين، مناطق وجودهم، للاحتفاط بمبالغ مالية كبيرة في إيديهم، و إلا استولوا عليها سطواً، و نهباً!!.. و لهذا يفضل الناس الاحتفاظ بالأموال داخل التطبيقات البنكية.. أما الذين يحتفظون بمبالغ مالية كبيرة في الغالب هم المليشيون وأعوانها، الذين نهبوا مبالغ خيالية.. و هي أيضاً بأيدي (المرابين) الذين يستغلون حاجة الناس إلى تسييل تحويلاتهم البنكية، فيضعون فوائد كبيرة على التحويلات تتجاوز أحياناً إلى نسبة 20% من المبلغ..أما عامة الناس فهم في درجة من الفاقة والعوز، بحيث لا يملك الواحد من النقود ما يكفي لطعام يومه، وإذا وجد مالاً فإنه يسارع إلى إنفاقه في شراء المواد التموينية الضرورية للطعام الشراب، خوفاً من زيادة الأسعار التي أصبحت تتقلب بشكل يومي..و أما أصحاب الأموال فمنهم الذين تمكنوا من الخروج بأموالهم إلى المناطق الآمنة، أو تحويلها عبر التطبيقات البنكية، ومنهم من ألحقته المليشيا بالطائفة الأولى من الفقراء!!.
و لهذا من الواجب جداً قبل الشروع في خطوة استبدال العملة، تحسين خدمة التطبيقات البنكية، بما في ذلك خدمات فتح الحسابات الجديدة عبر الإنترنت، وتسهيل الإجراءات.. كما يجب أن تنشط البنوك الأخرى خدماتها الإلكترونية، ولا يقتصر على تطبيق بنكك التابع لبنك الخرطوم، كما هو الحال اليوم، لأنه إذا لم يواكب تغيير العملة حركة إلكترونية نشطة من قبل البنوك، ولم يحسن بنك الخرطوم خدماته، سيحدث انهيار في تطبيق بنكك، لكثرة الناس الذين سيتعاملون مع التطبيق في الفترة المقبلة.
أحمد غباشي
السودان الجديد