ضجت صوره وفيديوهات وداعه الحزينة بالميديا، لم يكن شخصا عاديا، بل كان مُستفا بالأخلاق والطيبة وروح المسؤولية والإنسانية، وهب نفسه ومهنته لخدمة أهله من السودانيين الذين مازالوا يعانون من النزوح والتشرد، ظل يخدمهم أشهر طويلة بلا كلل أو ملل أو زهج، يقدم خدماته الطبية والعلاجية ويساعده في إيجاد الغذاء والمأوى، بأحد معسكرات النزوح بمدينة “الجبلين” بمنطقة الدالي والمزموم.
قبل مُغادرته الفترة الماضية وسط دموع الأطفال والكبار من النساء والرجال، وداعه كان عبارة عن لوحة من الحزن والجمال، كان وداعاً يليق بمكانته الطيبة بينهم التي قضاها في خدمتهم.
بعد مُغادرته المعسكر قال د. مجاهد: (120 يوماً بالتمام والكمال، أول مرة زي الوقت ده في المساء أنام في سرير واتصفح الإنترنت).
سيرة عطرة
“مُجاهد الطيب يُوسف حلالي” من مواليد منطقة “الدالي” تخرج في كلية الطب جامعة سنار، تقلد منصب رئيس اللجنة العليا كلية طب سنار، وعمل في برنامج الأمم المُتحدة الإنمائي، كاتب وأديب لديه عدد من المؤلفات، تم اختياره سفيراً للسلام من اليونيسف الأمم المتحدة لاحتفالات اليوم العالمي للسلام، رئيس مكتب البحث العلمي والتعليم الطبي لدى رابطة طلاب الطب الأفارقة بالسودان.
خدمات طوعية وإنسانية
تحدث د. مجاهد عن الفترة التي قضاها في مُعسكر النزوح: (أكثر من ثلاثه أشهر ومحاولة سَد الفرقة، في الصحة والغذاء والإيواء، بكيت كثيراً وشعرت بالعجز كثيراً، ولكني أنظر إلى نفسي ما زال هناك شئٌ يمكن فعله، حتى هذه اللحظه معاين أكثر من 4 آلاف مريض وحدي في ظروف إنسانية صعبة، وعملت أكثر من (41) كرنك وخيمة في مبادرة إيواء وغذاء، بدعم من منظمة أمل للنساء وأكثر من (50) يوماً في مطبخ مبادرة إيواء وغذاء).
طفولة ومُعاناة
عن طفولته يقول د. مُجاهد: (كانت واحدة من أعظم تجارب الطفولة في منطقة الدالي مسقط رأسي، اشتغلت جرسوناِ في مطعم عمنا سليمان زايد، بارك الله فيه، لفترة أكثر من 4 سنوات تقريباً، عمري كان وقتها 12 سنة أو أقل شويه، كانت مهمتي غسل الصحون وكنس الأرض، وأقوم بنظافة الفول وتقطيع السلطة والبصل، كان الرجل يعاملني بطريقه فيها لطف وأدب جم، يحترمني ويوقرني، عندما تكون المدرسة شغالة لا يوقفني من العمل ولا ينقص أجرة اليومية، كان يقول لي وقت جرس الفطور يدق تعال أفطر واشتغل فترة الفطور وأرجع مدرستك، كنت نهاية اليوم أعود لغسل أواني الفطور وتجهيز وجبة العشاء في المطعم، عمي سليمان رجل كريم كان يشتري لي سكر وموز ويعطيني أكلاً أذهب به منزلنا، عندما دخلت الجامعة كنت أرى فرحته لي في العناق والدفئ الذي كان يحفني به، كانت عيونه فيها فخر عظيم، وسبحان الله لم أكن أتخيل أن تجمعنا الأيام مرة أخرى وأعمل معه مرة أخرى، حالياً هو طباخ المبادرة ربنا يجزاه عنا كل خير يجهز الأكل ويقوم بتوزيعه).
وأضاف: (أثناء عملي معه بالمطعم عندما كنت طالباً بالمدرسة قمنا بشراء عربة “كارو” كنت أرتب له المويه قبل المدرسة، الصبح أأتي ليه ببرميلين ماء.. أعتقد هذه التجارب هي التي جعلتنا صامدين مُقاومين نحب الحياة والبلاد ما استطعنا إليه سبيلاً).
ذكريات الأم
حكى مجاهد عن ذكرياته مع والدته: (زمان أمي بتقول في أشد أيام الدهر قساوة، وهي تصنع كل شىء من العدم، دقيق العصيدة والحطب ومن ثم بصله من مافي وعليها حبة ملحة وويكة، عشان تعمل ملاح “أم شعيفة” أو ملاح أم تلاتة – ملح وويكة وبصلة، كانت حريصة ترتب قُطيتنا، بيتنا الواسع، ننام فيه، نفطر فيه نضحك فيه، ونبكي أيضاً، أتذكر في يوم من الأيام كانت بتنضف القطية وأنا صغير، قلت لها “أمي متين ح يزول الفقر ده”، قالت تكبروا إنتو الصغار وتشيلوا الغبار.. كانت الإجابة دي، بالرغم من بساطتها إلا أنها كانت مليانة بالأمل وبالرغم من كل شىء، إلا أنها حسستني بالطمأنينة وعدم الخوف، وأن الجوع والمرض والحرب، ممكن ينتهوا، اول ما دخلت قطيتنا العيد، كنت حزين خالص، وفي حقيقة الأمر، كنت أجلس في سريري الوسطاني، أشعر بحزن عميق لبلادي لا أتكلم كثيراً، وأنا أرى الموت ورائحة الدم، كانت القطية تشعرني بالدفئ تماماً كحضن أمي، بإذن الله الحياة حتتبدل وحترجع بلدنا أحسن، ما عارف كيف، بس حتنتهي الحرب، وحنسمع صوت الكمنجات بدل البنادق، وتتحول أيادي الأولاد للبناء وحنكون شعب أسطى، لن يسلبنا القتلة حقنا في الفرح، وإن قتلونا، وإن روّعونا بالسلاح، لن يكسرونا، سنفرح كية في الحزن، سيزال غبار البلد دي، حيذهبوا القتله كما ذهبت الفئران من قطية أمي).
تفاؤلٌ وأملٌ
واصل مجاهد في سرده: (في كل يوم لازم أقعد نفس القعدة دي في مطبخ مبادرة “إيواء وغذاء” المركزي، كأننا نواسي بعضنا، كأننا نضمد جراحنا بما كنا نعيشه في حلتنا، الشوارع، البيوت، مزارعنا وغنمنا، ونلعن من سلب حقنا في الحياة حياتنا البسيطة الهادئة، طورية ومنجل، ما يدعو للتفاؤل أننا لن نهزم وسنقاوم حتى نقول سلاما ووردة).
صحيفة السوداني