منذ بداية اندلاع المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” في منتصف أبريل (نيسان) العام الماضي، وجد مئات الآلاف من الحرفيين السودانيين والعمال المهرة أنفسهم في عداد العطالة والفقراء، يواجهون مصيراً مجهولاً وقاتماً بسبب توقف أعمالهم ودخولهم اليومية إثر الدمار الكبير والنهب والتخريب الذي لحق بالمصانع والورش بالمناطق الصناعية الموجود معظمها في ولاية الخرطوم.
وكشف مصدر في تجمع الحرفيين السودانيين عن حصيلة أولية بحجم الدمار والتخريب الذي تعرض له قطاع الصناعات الحرفية جراء الحرب شملت تدمير ونهب ما يقارب 300 موقع تمثل مجمعات لورش الحرفيين والعمال في أسواق محليات ولاية الخرطوم السبع المختلفة إلى جانب توقف أكثر من 600 مصنع، ونهب وتدمير نحو 3500 ورشة صغيرة للحرفيين داخل أحياء العاصمة السودانية المختلفة.
وفقاً للمصدر فقد الحرفيون والعمال المهرة أعمالهم في المناطق الصناعية التي أصبحت إما منهوبة ومدمرة وإما غير آمنة في أربعة مجمعات صناعية بمدينة أم درمان وثلاثة بالخرطوم وست مناطق بالخرطوم بحري. وأضاف، “اضطر معظم الحرفيين من أصحاب المهن اليدوية كالحدادين وفنيي الميكانيكا والكهرباء والسباكين وعمال البناء وغيرهم إلى البحث عن أعمال أخرى بخلاف حرفهم الأساسية في المدن والقرى التي نزحوا إليها”.
وأوضح المصدر نفسه أنه على رغم الأضرار الكبيرة والإهمال الذي تعرض له الحرفيون حتى من قبل اندلاع الحرب، فإنهم يأملون ويتطلعون بشدة لتوقف الحرب من أجل المساهمة في إعمار ما دمرته، وقد بدأوا منذ الآن بالدخول في تأهيل بعض المرافق الخدمية والصحية داخل الأحياء والمناطق الآمنة خلال الفترة الماضية.
صدمة وضياع
مع الطلقة الأولى في اليوم الأول من الحرب سارع يوسف حمدان، وهو ترزي في محاولة للوصول إلى محله بالسوق العربية وسط الخرطوم لإنقاذ عدد كبير من أمانات الملابس الجاهزة التي كان ينتظر أن تسلم إلى أصحابها في اليوم التالي، غير أن اشتداد المعارك منعته من الوصول. ويتابع، “لم نكن نحتفظ سوى بكميات محدودة من المواد الغذائية بالمنزل وليس لدينا أي مخزون، فنحن أصحاب المهن الحرفية نعتمد في تسيير حياتنا على المكسب اليومي. رزق اليوم باليوم لا يتيح لنا ادخار أي مبالغ كبيرة تعين على تلبية حاجاتهم المعيشية في مثل هذه الأوضاع الطارئة، لكن اشتعال هذه الحرب فاجأنا من دون أي سابق إنذار أو مقدمات”.
فقد حمدان كل معداته وفر مع عائلته إلى ولاية القضارف وفشلت كل محاولاته هناك في الحصول على محل يستضيفه للعمل لقاء جهده أو حتى استئجار ماكينة خياطة للعمل فيها بالشراكة ليتمكن من الوفاء بالتزامات عائلته، كما أن الإقبال على الملابس نفسه قد انحسر في ظل استمرار الحرب وأصبح كل اهتمام الناس ينصب على المأوى والمأكل والعلاج.
ويقدر عدد القوى العاملة في قطاع الحرفي بالسودان وفق تقارير رسمية بما بين 10 ملايين إلى 15 مليوناً من إجمالي تعداد السكان المقدر بنحو أكثر من 48 مليون نسمة، في وقت بلغت فيه معدلات البطالة المتنامية بالبلاد نسبة 47 في المئة مع تدهور كبير في قيمة العملة وارتفاع معدلات التضخم منذ اندلاع الحرب منتصف أبريل العام الماضي، وفق تقارير صندوق النقد الدولي.
خبرات عاطلة
بدوره يقول زهير محجوب، فني حدادة كان يمتلك ورشة متوسطة بالمنطقة الصناعية أم درمان، “لقد توقفت جميع أعمالنا بعدما تضررت ونهبت كل المناطق الصناعية ومعها تحطمت ورشنا ومعداتنا ولم نعد نعلم عنها شئياً حتى الآن، وحتى من سعى إلى تجميع بعض المعدات ومزاولة العمل في مناطق آمنة نسبياً، لكن ندرة الكهرباء غيابها الطويل يعوق عن العمل، في البدء كان أملنا أن تتوقف الحرب سريعاً، لكن يبدو أن هذا الأمر قد أصبح بعيد المنال”.
يوضح محجوب أن معظم الحرفيين تشردوا ويبحثون الآن عن أي عمل لمواجهة الظروف الصعبة التي يمرون بها في وقت لم تتكفل أي جهة بدعمهم ولو بالحد الأدنى من الحاجات وكان الدور الأكبر للعون والمساعدة من الأقارب والأصدقاء والأهل. ويتابع، “لقد أجبرت الحرب كثراً منا على التحول إلى مهن أخرى هامشية وتحولوا إلى باعة متجولين لسلع يومية بسيطة يعرضونها على الطرقات لتوفير لقمة العيش، فمعظمنا لا يملك رأس المال اللازم لتأسيس عمل جديد في أي من مدن السودان الآمنة الأخرى”.
بعض الحظ
أما ميكانيكي السيارات أبو القاسم بشير فمنذ اندلاع الحرب لا يدرى ماذا حل بورشته بالمنطقة الصناعية في الخرطوم بما في ذلك معداته وأدواته الخاصة بالعمل.
فر بشير مع أسرته بعد مقتل ابنه الأكبر إلى إحدى قرى الشمال، ومنها قرر السفر إلى مدينة عطبرة ليعرض خدماته هناك. يقول، “الحمد لله لقد حالفني الحظ وانضممت إلى إحدى روش الصيانة، وتدريجاً بدأت أحقق بعض الدخل لأن الزبائن يثقون في أشخاص بعينهم أو ورش محددة يتابعون الصيانة لديها، لذلك قد يحتاج الأمر إلى وقت ليس بالقصير حتى تكتسب سمعة وثقة الزبائن”.
وجد بعض الحرفيين المحظوظين منافذ من باب الزمالة والتعاطف أتاحت لهم العمل ببعض المناطق الصناعية بالولايات الآمنة مثل عطبرة ودنقلا، إذ تمت استضافتهم بواسطة زملاء لهم في المهنة من داخل ورشهم، بينما سجلت السلطات الرسمية غياباً تاماً ولم نسمع لها بمبادرة لاستيعاب واحتضان هؤلاء الحرفيين النازحين ولم يهتم أي مسؤول بالاستفادة منهم أو مساعدتهم، وفق بشير.
ضياع الخبرات
عبدالرحيم علي سباك من الرعيل الأول بخبرة أكثر من 20 عاماً أمضاها في هذا المجال، لكنه وجد نفسه عاطلاً من دون عمل أو مال بعدما فقد مصدر رزقه الوحيد، ثم اضطر بعد نحو شهر ونصف الشهر إلى مغادرة منزله بمنطقة (الكلاكلة) الساخنة في محيط سلاح المدرعات جنوب الخرطوم ونزح إلى ولاية النيل الأبيض، حيث يقيم الآن.
خلال أسابيع قليلة من بدء الحرب تحولت حياة علي وعائلته إلى كابوس من الفقر والجوع بعد نفاد كل ما يملكه من غذاء وأموال، ثم اضطر أخيراً إلى بيع أثاث بيته ومقتنياته الشخصية لمواجهة كلف رحلة الفرار وحاجات الأكل والشرب له وأسرته.
يقول علي، “توقفت أعمالنا تماماً بتوقف الناس عن أعمال الصيانات المنزلية، وكذلك أعمال بناء العقارات الجديدة، لذلك لا يتوفر أي العمل في مثل هذه الظروف والأوضاع”.
إهمال حكومي
في السياق يوضح المتخصص في الإدارة والتنمية عبدالباقي الأمير أن “قطاع الحرفيين له أهمية كبيرة في التنمية المجتمعية المحلية على وجه الخصوص، إذ يسهم بصورة كبيرة في دفع النمو العام، فضلاً عن أن الحرفيين يشكلون الجسر بين الطبقة الفقيرة والمتوسطة، وهم كذلك حاضنة المهارات والمواهب إلى جانب دورهم في حفظ التراث بتوارث المهن ذات الطابع الثقافي مثل صناعة (العناقريب) والفخاريات”.
يرى الأمير أن قطاع الحرفيين يفترض أن يضم أيضاً المزارعين الذين خسروا مهنتهم، بخاصة في مشروع الجزيرة أكبر المشاريع المروية بأفريقيا، إذ تسببت في وصول الحرب إلى ولاية الجزيرة وما صاحبها من انتهاكات وجرائم شملت تهجير المزارعين وترويعهم ونهب ممتلكاتهم، وحولت مئات الآلاف منهم إلى عطالة وجعلت شبح المجاعة حاضراً.
خسارة لا تعوض
تابع الأمير، “يمثل تحطم وانهيار هذا القطاع خسارة كبيرة لا تعوض للبلاد، بخاصة أن التعليم الفني في البلاد لا يواكب متطلبات سوق العمل، إذ تبغ نسبته 15 في المئة فقط مقابل 85 في المئة لمصلحة التعليم الأكاديمي، ومعظم الحرفيين المشردين اليوم هم من الذين تعلموا المهنة بطريقتهم الخاصة أو ورثوها عن آبائهم، لذلك عندما تتوقف الحرب ستكون الفجوة أوسع، مقارنة بحجم الاحتياج الكبير الناجم عن الدمار المهول يحتاج إعماره إلى أضعاف ما هو متوافر من الحرفيين والعمال المهرة”.
يؤكد الأكاديمي ضرورة إعادة تنظيم وتجميع قطاع الحرفيين وتدريب وتأهيل العاملين به ومنحهم تسهيلات تمويلية تمكن هذا القطاع من استرداد بعض عافيته، محذراً من أن الزيادة الكبيرة في معدلات هجرة الحرفيين في وقت ستكون فيه الحاجة لهم في ذروتها ما بعد الحرب.
ما بعد الحرب
من جانبه يوضح الأستاذ السابق بمعهد القرش للتأهيل المهني عبدالرؤوف عبدالماجد أن “مراكز التدريب والتأهيل المهني مع محدوديتها كانت هي الحاضنة الوحيدة التي تفرخ الكوادر الحرفية في ظل ضعف التعليم الفني واندثار المدارس الصناعية المتخصصة، لذلك هناك حاجة عاجلة لسرعة العمل على تأهيل هذا القطاع والنهوض بتوفير ورش متخصصة ومتنوعة، لأن الحرفيين والعمال المهرة هم من سيقع على عاتقهم إعادة الحياة ببناء وترميم المرافق التي دمرتها الحرب ومعالجة آثارها ومخلفاتها”.
ينتقد عبدالماجد، “تعرض قطاع الحرفيين لظلم تاريخي طويل بسبب إهمال الحكومات المتعاقبة لهم خلال كل الفترات السابقة التي مرت على البلاد، ولم يحظَ بالاهتمام اللازم على رغم أهمية دوره التنموي والخدمي، وأدى تجاهل السياسات الرسمية له إلى تدني مساهمته في الناتج القومي إلى نسبة لا تتجاوز 6 في المئة فقط”. ويردف، “كل الحروب مصيرها التوقف طال الزمن أم قصر، وسيكون الحرفيون جنود معركة الإعمار والأيادي المساندة لها، بخاصة أن حجم الخراب الواسع قد طاول كل مرافق الخدمات الأساسية الصغيرة منها والكبيرة، لذلك لا بد أن تنتبه السلطات الرسمية لذلك والشروع في تدريب أكبر عدد من الحرفيين لسد الحاجة المتوقعة في هذا الجانب”.
ويقدر تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل أعداد المتضررين بما يزيد على نسبة 90 في المئة من المزارعين والعمال الزراعيين بالمشروع.
جوع المزارعين
وحذر التحالف من أن الحرب أجبرت أكثر من 12 مليون مواطن على الفرار والنزوح إلى المناطق التي لا تزال آمنة نسبياً، وخروج نحو 3 ملايين فدان من الأراضي الزراعية عن دائرة الإنتاج، مما شرد أكثر من 800 ألف مزارع ودفعت بهم إلى دائرة الفقر والجوع. وتسببت الحرب المندلعة منذ 19 شهراً في توقف أكثر من 45 في المئة من المصانع في البلاد تقدر بنحو 3500 مصنع من أصل 6660، منها 400 مصنع في مجال الصناعات الغذائية والدوائية ومجالات الأخرى في العاصمة السودانية الخرطوم، مما أدى إلى فقدان أكثر من 350 ألف وظيفة معظمهم من الحرفيين وفقدت معها آلاف الأسر مصادر رزقها.
ومنذ قبل الحرب بأكثر من عامين يعيش 65 في المئة من السودانيين تحت خط الفقر، بينما يواجه أكثر من نصف سكان البلاد اليوم خطر المجاعة، بحسب الأمم المتحدة.
الاندبندنت