كليات الإعلام.. رحلة المواصلة من تحت الأنقاض
_ شعراوي محمد _
لقد كنت أحد طلاب الصحافة الذين يفترشون الأمل لاستئناف الدراسة، خذلتني التوقعات التي ولدت من رحم ظروفي ومعاناة الأهل الذين فقدوا طعم مسيرة الدفع بي في مضمار التعلم المعرفي، وأصبحت من اللاشيء تُخلق منافسة، تكرر ذات واقع الحرب الذي يرفض المغادرة رغم الألم والجراح والفقدان.
تركت التعليم واخترت أن أغادر أنا بدلاً منه، هاجرت حكاية الأوطان المؤلمة وقطعت أميالاً من أرض فلاة، باحثاً عن الأمان والرزق والحياة الكريمة.. فحلم أن أكون طالباً وخريج كلية الصحافة والإعلام تلاشى مع أول رصاصة أُطلقت في السودان، فأنا اليوم أجسد تعبيراً عن وداع كامل للدراسة لا رجعة فيه، وإن دارت عجلة الأيام وانحنى طول هذا الصراع.
كان هذا لسان حال طلاب الجامعات في السودان، وكليات الإعلام التي أهدرت ضوءها في أيام اكتمال الحاجة، وتثبيت وتد مهنة الصحافة بفلذة أكبادها.
نتناول في هذا المقال هذه الصروح المعرفية، وما حل بها من دمار بسبب الحرب، التي أضرمت النار في الحقيقة ومن ينقلها ويدرسها.
تصاعد السودانيون بضحاياهم إلى أرقام لم تختصر حاجز العد بالآلاف، في صراع مسلح أذاقهم مرارة الأوطان، وتجرعوا سم التراكم السياسي بكل أنواعه في ساحات كل معاركها ضدهم، حتى من كان ينظر منهم نحو التعليم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لم يجد سوى مبانٍ وجدران خذلها الصمود ودمرتها النيران، فالصحافة -وإن كانت منارة ودور علم، خرجت المئات من الصحفيين الذين يتسيدون الرأي العام- تتزاحم مع الكل في الصفوف التي طالها الدمار والخراب، فمعظم كليات الإعلام والصحافة في حالة إغلاق كامل، وطلابها بين نازح ولاجئ
إن أكثر من نصف مليون طالب جامعي في 104 من مؤسسات التعليم العالي العام والخاص وجدوا أنفسهم يقفون على جدران مدمرة، وركام يخبئ ما تحته من مشاهد لقصص تعبر عن حالة اليأس والإحباط، مع ضياع آمال طلاب الصحافة وغيرهم من التخصصات الجامعية.
لم تكن كليات الصحافة والإعلام مجرد دور علم ومعرفة للأساتذة الجامعيين، فإن إمساكك بأشلاء من الحطام، واقفاً على حجم الدمار تعاين الأضرار رغم قلة الحيلة، هي قصة الأستاذ الجامعي زهير إبراهيم، الذي ركن الواقع المظلم لقلعته المعرفية، ونادى ذكرياته من فوق اليوم لأمس من الأيام.
يقول زهير: “لقد كانت الحياة هنا تعج بالفرح بين جدران هذه المباني، هنا كنت أخلع كل هم وارتدي السعادة، لقد أصبحت بين طلابي قديساً يألف المحبة ويعتنق ما حولها في دور معرفة، زينتها الصحافة وأحاديثهم عنها، وذلك التساؤل الخجول من الطلاب، وأحياناً سؤال صعب.
لقد كنت أجد الإجابة لكل سؤال يطرحه طلاب الصحافة عليّ أثناء المحاضرات عن واقع الصحافة في السودان، ومستقبل هذه المهنة، وغيرها من الأسئلة، كنت قادراً على الرد.. ولكن، اليوم لا أستطيع الإجابة عن هذا الحال، ولا أملك عصا سحرية حتى أعود بالزمن للوراء”.
يسرد زهير إبراهيم: “إن كليات الصحافة والإعلام في السودان دفعت بالكثير من الصحفيين إلى سوق العمل، وأصبحوا نخبة في هذه المهنة، لكنهم اليوم يعيشون أوضاعاً مأساوية كحال جامعتهم التي تخرجوا منها، فالصحافة والصحفيون وطلابها والأساتذة فيها كلهم تجرعوا من ذات الكأس، هذه الحرب أضرت بالمهنة أكاديمياً وعملياً وهي عواقب ستلاحق المستقبل والأجيال الحالية والقادمة حتى وإن توقفت الحرب.
إن الجامعات السودانية أدلفت في بواكير عملها المعرفي على إنشاء كليات الصحافة والإعلام؛ ونجد أن جامعة أم درمان الإسلامية التي نالت تأسيساً برونزياً في عام 1965، بعد القاهرة وبغداد في المنطقة العربية، أرادت في ذلك تعميم التجربة على بقية دور العلم في السودان، فكانت جامعة الخرطوم حاضرة على الرغم من ارتدائها ثوب المنافسة في 1902 بكلية الآداب في ذاك الوقت، الذي كان الإعلام فيه حجر الأساس لمسيرة الصحفيين، حتى أصبحت الصحافة والإعلام قسماً يفرد ذاتية أكاديمية لا تنضب تنال الإحسان.
إن تجثم الواقع في الألفية الجديدة، ورغبة معظم الجامعات في دخول معترك الصحافة، ذلك ساعد في ديمومة الكليات الإعلامية، ومنها كلية الإعلام في جامعة الرباط الوطني، التي أعادت التعريف بنفسها إعلامياً في 2010، وكذلك كلية الإعلام في جامعة القرآن الكريم والعلوم والإسلامية، شكلت بذلك ملمحاً للانتصار الأكاديمي والصحفي، أما في جامعة السودان فكانت كلية العلوم والاتصال على اتصال بالمرحلة المعرفية للصحافة والإعلام وذلك في عام 2005.
فرحلة الصحافة والإعلام، وجدران تخصصاتها، كانت تشهد مضماراً تنافسياً على مر التاريخ.. فجامعة أفريقيا العالمية، التي تشكلت نواة الإعلام فيها عام 1991م، لم تكن ببعيدة حتى وصلت بقوافلها التخصصية عام 2014م، وهي مرحلة الكمال الأكاديمي والمعرفي لكلية الصحافة والإعلام فيها، وهنالك كليات أخرى ككلية الاتصال الجماهيري في جامعة العلوم الطبية، وكلية الصحافة والإعلام في جامعة قاردن سيتي، وعلوم الاتصال في جامعة المشرق، وغيرها.
تعتقد أميرة حداد، أستاذة الإعلام في جامعة الرباط الوطني، أن “التعليم الجامعي بما في ذلك كليات الصحافة والإعلام لا تستطيع وحدها مجابهة هذه الظروف التي يشهدها السودان في ظل الحرب الدائرة الآن، وعلى مؤسسات التعليم العالي، النظر بعين الاعتبار لهذه التحديات الراهنة. فهنالك عقبات جوهرية تواجه كليات الإعلام، تتمثل في طلاب الصحافة وجاهزيتهم لسوق العمل، بعد أن دمرت الاستديوهات الإذاعية لهذه الكليات، فإن الدراسة إلكترونياً وحدها لا تكفي، في ظل انقطاع التيار الكهربائي وعدم توفر خدمات الإنترنت بشكل مستمر”.
وترى حداد أن “مرحلة ما بعد الحرب ستتطلب مسؤولية عالية من الحكومة التنفيذية القائمة على أمر التعليم في السودان، من خلال تقديم الدعم المادي والتأهيل لدور الجامعات وكليات الصحافة التي دمرت بسبب الحرب”.
يعزو المسؤولون في وزارة التعليم العالي إلى هذه الحرب أنها دمرت كل المؤسسات الأكاديمية والإعلامية، وهو ما أضعف دور طلاب الصحافة في الواقع الإعلامي الذي يشهده السودان، وما يحتاجه المتابع للأحداث الداخلية، رغم توافد بعض الجامعات للولايات الآمنة وشرع نوافذ للاستمرار. ومع ذلك، فإن القصة الخبرية التي تخرج من ركام هذه التجربة العملية أضحت واضحة، وهنالك إضاءات من بعض الطلاب وهم يعيشون تجربة الصحافة الميدانية الراهنة، رغم أن كليات الإعلام ما تزال في حالة إغلاق، لكنهم قرروا أن يجروا عربة المهنة وإن كانت الظروف تجعلها بلا أقدام.
ومن الظروف قد تجد الطريق يأخذ منحى الإلهام الذي ولد من قصائد صبرك!. ومن هنا كان الطالب المغداد جعفر، الذي يدرس الإعلام في جامعة القرآن الكريم والعلوم والإسلامية، ينمو مع كل المحاضرات الجامعية التي تتناول الصحافة والإعلام، وينجو بذاكرة فولاذية ساعدته في أن يشق ليلاً من التحدي، ويعانق فجراً من التجربة، التي شكلت بذلك عنده قصصاً إخبارية، منحت وسائل الإعلام مواد احترافية.. كان المغداد جعفر من بين مئات طلاب الإعلام الذين فقدوا الدراسة، وذاك البيت الذي يؤوي حلمه، نزح كغيره من بين آلاف السودانيين، حاملاً على ظهره ذاك الحلم العنيد الذي يأبى الانصهار مع الظروف الطارئة، قرر في ذلك أن يطوع الميدان لتجربة إعلامية نمت على هوى الصحافة وأرض أحداثها.
يحكي دكتور أحمد الحاج، المدير السابق للمركز العالمي للمؤتمرات، والمحاضر بكلية الاتصال الجماهيري بجامعة العلوم الطبية، أن كلية الاتصال الجماهيري كانت تتمتع بميزات قبل اندلاع الحرب في السودان، ومن بينها الإذاعة الطبية التي ساهمت في جسر الهوة بين الدراسة النظرية والتطبيق العملي لطلاب الصحافة. إلا أن هذه الحرب ذهبت بكل هذه الجهود الأكاديمية والمهنية، بالإضافة إلى نوعية الطلاب الذين كان يأتون من البلاد العربية والغربية لدراسة الصحافة والتخصصات الأخرى، وهو مما أضعف الجامعة كثيراً.
وستلاحق نيران هذه الحرب كل الخطط المستقبلية؛ فإن الأمر لم ينحصر فقط في ضياع استوديوهات الإذاعة والمكتبات، وتوقف الطلاب عن الدارسة، بل امتد أيضاً إلى مستقبل المدرسين أنفسهم، وخبرتهم التراكمية، أولئك الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها بلا وظيفة وعمل بعد كل هذه الأعوام.