قصة يوم حزين
الزمان هو السبت، الخامس عشر من أبريل/ نيسان ٢٠٢٣، عند التاسعة والنصف صباحا، وأنا في الطريق إلى الخرطوم ٢ -مكان عملي- برفقة صديق لي أقلني من مسكني في الخرطوم بحري، حلة خوجلي، عند التاسعة وعشر دقائق صباحا، لم يكن الطريق مزدحما، فالسبت عطلة رسمية لجميع المؤسسات الحكومية، وبعض المرافق الخاصة، بيد أن الصحف لا تتوقف عن العمل ليل نهار، وهي مهنة المتاعب التي لا تتوقف.
عبرنا كوبري النيل الأزرق بسلاسة، كل شيء يبدو هادئا، حتى صفحة مياه النيل الأزرق تبدو ساكنة، قليلون من الناس كنا نشاهدهم على الطريق، وهم يتجهون في الغالب نحو السوق العربي، يبدؤون به يومهم؛ فهو ملتقى مركبات النقل المختلفة، والسوق الأشهر في العاصمة، وكل ما لا يجده الناس في الأسواق الفرعية يجدونه في السوق العربي، وسمى كذلك للتفريق بينه وبين السوق الإفرنجي الذي يمتد على طول شارعي الجمهورية والجامعة، من صينية سانت جيمس شرقا وحتى شارع الحرية غربا، ففي التقاطع ذاك كانت توجد صالة الموسيقا والرقص المشهورة في حقبة الستينيات والسبعينيات، وحتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي.
الخرطوم التي تسمى العاصمة المثلثة بسبب مدنها الثلاثة -الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان- لم تكن مزدحمة بالسكان، إذ كانت صغيرة الحجم ودون ضجيج. تلك الفترة، وكنا فيها شبابا في المدارس الثانوية ومملوئين بالحماس، شهدت حدثا مهما، وهو اتفاق السلام الذي سُمي اتفاقية أديس أبابا، في ٣ مارس/ آذار ١٩٧٢، حيث انتهت الحرب التي استمرت ١٧ سنة بين الشمال والجنوب، ورأينا وقتها القائد جوزيف لاقو في الخرطوم، وصمتت البنادق إلى غير رجعة.
الخرطوم في الليل كانت شعلة من النور والثقافة، ولا شيء يعكر صفوها.. كنا نسمع على فترات متباعدة صوت المدفعية وهو يتناهى من بعيد، من المرخيات في الجانب الشمالي الغربي لأم درمان، وهي جبال بعيدة تجرى فيها مناورات الجيش بعد الإعلان عنها في الصحف اليومية، وتحذير المواطنين لتجنب الاقتراب منها..
والخرطوم كانت وجهة الطلاب الملتحقين بالجامعات، أو الباحثين عن فرص عمل أفضل من الزراعة والرعي، وسكانها مسالمون، وظرفاء، ليس من عاداتهم حمل العصي، أو الخناجر والسيوف التي كانت تميز ثقافة بعض أهل البادية. وسكان الخرطوم يومها، يبدؤون يومهم بقراءة الصحف، وينهونه بالسينما والمسرح أو دار الرياضة .. تنام المدينة وتصحو على أجراس الكنائس، وتراتيل المعبد اليهودي، وأذان المساجد..
ومضت أربعون عاما أو يزيد، جرت خلالها مياه كثيرة تحت الجسر، اندلعت فيها حروب جديدة، وخلافات سياسية، وانقلابات عسكرية، وتغير كل شيء، وكأنه كابوس لا ينتهي. وما من أحد كان يدري أن ذاك السبت الذي يوافق منتصف أبريل/ نيسان من عام ٢٠٢٣، سيحيل السودان كله إلى كرة من اللهب، تتدحرج في أي مكان.
رصاصة في الصباح
عند التاسعة والنصف صباحا، والعربة قد تجاوزت تقاطع شارعي السيد عبد الرحمن والملك نمر بقليل، سمعنا أصوات زخات الرصاص تأتي من ناحية الشرق، حيث القيادة العامة للجيش، والعديد من المركبات غيرت اتجاهها صوب الشمال إلى الخرطوم بحري، عكس اتجاه السير المفترض، ما خلق زحمة مرورية وسط أصوات تنادينا “ارجعوا، هنالك ضرب نار”، لم نرجع وواصلنا سيرنا إلى وجهتنا في الخرطوم ٢، بينما كانت أصوات الرصاص والمدفعية في ازدياد.
دعوني الآن أقفز فوق ذاك اليوم والأيام الثلاثة التي تلته، فقد علقت أنا وزملائي في العمل في جحيم لا يوصف، لكن مساء الثلاثاء ١٨ أبريل/ نيسان ٢٠٢٣ كنت في المنزل، حيث نعيش أنا وزوجتي وابني في حي يسمى “حلة خوجلي” في الخرطوم بحري، يطل على نهر النيل، ويقع غرب شارع السيد علي الميرغني، في المسافة الممتدة من حلة حمد جنوبا إلى الصبابي شمالا..
والحي نفسه ينقسم إلى حلة خوجلي شمال ووسط وجنوب، تتوسطه قبة الشيخ خوجلي الذي عاش في هذه المنطقة قبل ٣٠٠ سنة، وسميت باسمه، ومنزلنا يقع في الجانب الغربي من الجزء الشمالي للحي، وكنيته جوبا، وربما كانت التسمية مستوحاة من لون سكانه، وطريقة حياتهم، وولعهم بالبهجة والفرح، وحياتهم الاجتماعية المترابطة..
إلى الشمال منه، وعلى مسافة تقل عن الكيلومتر، يوجد أحد المعسكرات الكبيرة لقوات الدعم السريع، يسمى بالمظلات، فقد كان سابقا مقرا لسلاح المظلات التابع للجيش السوداني، وهو يمتد على مساحة كبيرة من الأرض، وبداخله مستشفى عسكري، وبمحاذاة الحي على الضفة الأخرى من النهر تقع مباني الإذاعة والتلفزيون، وليس بعيدا عنها سلاح المهندسين، وهو بالقرب من المدخل الغربي لكوبري النيل الأبيض، الذي يربط أم درمان بالخرطوم..
وفي الخرطوم بحري نفسها، يوجد سلاح الإشارة، وسلاح النقل، ومبانٍ تتبع لجهاز الأمن والمخابرات تمتد شرق خط السكة الحديد، وإلى كوبري القوات المسلحة.. كنا إذن تحت مرمى المدافع وقصف الطائرات الحربية على الدوام، تهتز الأرض فتهتز البيوت القديمة المبنية من الطين، فالحي نفسه لم يشهد تطور العمران فيه، وأهله من الطبقة المتوسطة والفقيرة، لكنهم أغنياء بكرمهم وحبهم للغير وعشقهم للوطن..
تحت الشجرة
هدأ الجحيم برهة بعد الثامنة من صباح ١٩ أبريل/ نيسان ٢٠٢٣، كانت فرصة للخروج خارج المنزل، التقينا تحت الشجرة التي نسميها النادي، كنا ثمانية، عبد الحميد والزنجي ووليد وأحمد، وهم أعضاء لجان المقاومة والتغيير والخدمات بالحي، سيف إعلامي رياضي، نادر صاحب الدكان، وأنا.. ناقشنا الأوضاع، وتقاسمنا المهام، ووضعنا الاحتمالات..
محطة المياه الرئيسية كانت قصفت في أول يوم للحرب، وفرنا بعض الوقود (الجازولين)، لعربة النقل التي تمتلكها أسرة أحمد لجلب المياه من النيل إضافة لعربتي، وبعض (الدرداقات) التي يذهب بها سيف وشباب آخرين إلى النيل من أجل جلب المياه، فالبيوت مكتظة بالأطفال وكبار السن والنساء الذين لا يحتملون العطش.
اتصلنا بصاحب المخبز -سدرة- وهو مقيم في أم درمان، نستأذنه أن نفتح المخزن للحصول على بعض دقيق القمح لتوزيعه على سكان الحي، فقال لنا خذوا كل الموجود في المخزن، وبالفعل تم توزيعه على كل سكان الحي.. بعد أسبوعين انقطعت الكهرباء، وانقطع الحي عن العالم، حتى بطارية عربة علي التي خصصناها لشحن التلفونات فرغت، اشتدت المعارك، والقذائف سقطت على منزل وسط الحي، كان بالصدفة خالياً من السكان لحظة وقوع الحادث، وتم قصف سوق فور بطائرة حربية، وهو بالقرب من شاطئ النيل في اتجاه الشمال الغربي من حلة خوجلي، مخلفا أكثر من ٣٠ قتيلا، وقتل محمد خفير المزرعة بينما كان يستلقي في فراشه مساء بطلقة أصابته في مقتل..
لخطورة الأوضاع اقترحنا نقل النساء والأطفال وكبار السن إلى مناطق آمنة، وجدنا القليل من الوقود الذي يكفي لهذه المهمة، انتقلت معظم الأسر إلى الحاج يوسف والدروشاب، وكانت مناطق آمنة، اللاجئون الإثيوبيون بالحي غادروا الحي والدموع في أعينهم إلى القلابات على الحدود السودانية الإثيوبية.. بقي الشباب في الحي يوفرون الماء والطعام لبعض الأسر التي رفضت المغادرة، مثل أسرة بيومي، وأسرة عصام، وعائلات أخرى تسكن بالقرب من مسجد الشيخ خوجلي.. الماء يجلب من النهر، الطعام القليل يطبخ في التكية تحت شجرة، غالبا فول أو عدس، واستُخدمت الأغصان الجافة كوقود للطبخ، أهل الحي في خارج السودان وداخله تبرعوا بالمال كيما يظل الطعام موجودا..
إلى هذه اللحظة كانت التكية تعمل، وتنقذ من تبقى من السكان من الموت جوعا، وتحت دوي المدافع يذهب هؤلاء الأبطال إلى النهر لجلب المياه، وتوزيعه على المنازل القليلة المأهولة، يستغلون لحظات توقف القتال ليذهبوا صوب سوق الدناقلة، حيث ما زال بعض الناس يبيعون السلع الضرورية، من أجل شراء مستلزمات المطبخ العمومي (التكية)، هم معظم الوقت معزولون عن العالم بسبب انقطاع الكهرباء وشبكة الاتصالات، الموت يحلق فوق رؤوسهم، لكنهم موجودون لتلبية الواجب، وللحفاظ على قيمة الوطن، وعلى عهدهم القديم المتواصل كلجنة تغيير وخدمات..
بعد خروجي من الحي بسبب اضطراري للسفر خارج الخرطوم لمواصلة علاج زوجتي، وفي ذات صباح، اتصل بي وليد دراج يسألني عن حالة زوجتي، وقال لي إنهم وجدوا وسيلة لشحن التلفونات والاتصال بالشبكة مرة كل أسبوع من مكان بعيد، سألته عن أوضاعهم والسكان.. أجابني: “لا تقلق.. نحن بخير لأننا نتطلع إلى يوم الغد، ونعيش على أمل السلام واستعادة الحياة الطبيعية، نراه في عيون الأطفال الصغار والأمهات وهن يبتسمن في وجوهنا”.. وأضاف قائلا: حتى القطة الصغيرة التي كانت منزوية في ركن البيت، عادت للعب معي، وكأنها تأمل في نهاية الحرب وعودة السلام.. لا تقلق، نحن نعيش على الأمل .
إن نسيت فلا أنسى صراخ تلك الطفلة الممزوج بالألم، والذي نقلته قناة تلفزيونية بعد يومين من اندلاعها، قبل انقطاع الكهرباء عن الحي، حين وجهت نداء للبرهان وحميدتي قائلة: “أوقفوا هذه الحرب، دعوني أذهب إلى المدرسة وأمتحن، فأنا أريد الذهاب إلى المدرسة المتوسطة”.
ليتهم سمعوا كلامها، ولكن يبقى السودان على حافة الأمل.
الجزيرة نت