محمد أزهري : إشارات الوداع!

إشارات الوداع!

داخل غرفة العناية بمستشفى الأطفال ـ المناقل ـ وجدته يرقد على حافة سرير من الجهة الشرقية، طفل لا يتجاوز عشر سنوات، يأخذ من قمح الجزيرة لوناً لبشرته ومن العسل لعيناه البريئتان.

“محمد عمار”، طفل قادم من قرية “العمارة”الوادعة بمحلية القرشي، (يلاوي) آلاماً تفوق سني عمره، قلبه الصغير أصابه خلل مفاجئ، رئته تحتاج لمساعدة الإسطوانات وجهاز التنفس الكهربائي، والده “عمار”، أصبح يراقب (دفار) إسطوانات الأوكسجين بدقة، ما أن تفرغ واحدة إلا ويأتي بالثانية، تنفذ كميات الأسطوانات يتحسس الجهاز، مساءً كالعادة تنفذ كمية كهرباء بطاطير الطاقة الشمسية لعدم كفايتها للحمولة الخاصة بغرفة العناية، يدب القلق في قلب والده وتجزع والدته، يمحلاه إلى خارج الغرفة ليستنشق أوكسجين (الله) الطبيعي، فلا يأخد من كرم الله الواسع إلا القليل، يتنفس كـ(عداء) مارسون أنهى سباق (500) متر لتوه
في واحدة من المرات، كاد أن يرحل، نقلوه بسرعة إلى بنك الدم ومعه جهاز التنفس الكهربائي، فهناك الكهرباء مستقرة.
محمد من شدة الألم أصبح بلا شهية للطعام، ولا رغبة في الماء، والدته تبكي بألم عندما يرفض تناول شيء طلبه أو جرعة ماء، تقول وهي تزيل دمعها بطرف ثوب (من جينا هنا محمد ما أكل حاجة)، وتواصل مخاطبة فلذة كبدها، (محمد أنت مالك ما بتاكل ولا بتتونس معاي)، يتدخل والده ويبدو أن الصغير لديه احترام وافر له يطلب منه الأكل فيأكل لكن قبل أن يستقر في معدته يخرجه كما هو.
ظل والده في حركة دؤوبة بين الغرفة والصيدليات، ما كتب له علاج إلا و أحضره بسرعة، وما طلبت منه صورة إلا وأجراها في وقتها، أخر مرة حملوه على ركشة وبجانبه إسطوانة الأوكسجين، لإجراء صورة أشعة، يبدو أن نتيجتها كانت غير مطمئنة، عاد “محمد” يرقد على حافة السرير كعادته، إلى جانب صديقته الأسطوانة، ثم لا يطلب من الدنيا شيء سوا أن تدلك والدته رجليه، ليلة أمس الأول ظل يعتصر آلامه بصبر كبير بينما يرسل قلبه من داخل جسده خطاب إستقالة عن العمل، قَبِلها “محمد” بثبات منقطع النظير، وأرسل إشارات الوداع لوالدته و لزملائه الصغار داخل العناية، والدته فهمت رسالة ابنها وعلى غير العادة لم تجزع كما سبق، رغم أنه غير مُكلف لكنها حاولت أن ترسله إلى جوار ربه راضياً مرضيا، لغنته الشهادة وقبل أن يسدل ستار عيناه البريئتان على خشبة مسرح الحياة المؤلم قال لوالدته (مالك بتشهديني أنا داير أموت)، انخفض صوت التنفس عنده، أغمض عيناه للمرة الآخيرة ثم “مات” وسكت إلى الأبد، خيم الحزن وساد داخل الغرفة، واسوا والدته على الفقد الجلل، وغادر “محمد” الغرفة “جثماناً” طاهراً ليقبر هناك في قريته “العمارة”.

إنا لله وإنا إليه راجعون .. نسأل الله أن يربط على قلب والديه.

محمد أزهري

Exit mobile version