قناة الجزيرة : السودان.. علاج بالصدمة أم انتحار سياسي

قفزة في الظلام، ومغامرة غير محسوبة العواقب تلك اتخذتها الحكومة السودانية من خلال حزمة السياسات الاقتصادية القاضية برفع كلي للدعم السلعي، وتعويم صرف الجنيه السوداني.

منظرو الحكومة وإعلامها تحدثوا عن ما أسموه بالعلاج بالصدمة، باعتبارها إحدى الوصفات الاقتصادية في الأوقات العصيبة.وقال الرئيس عمر البشير إنهم مستعدون لتحمل التكلفة السياسية لهذه الوصفة لبعدها الشعبي وتأثيرها على شعبية الحكومة.المعارضون للخطوة قالوا إن الحكومة التي أدخلت نفسها في ورطة بسبب سياساتها خلال 27 عاما، تريد أن تمد يدها لجيب المواطن المنهك واختارت الطريق السهل.

وانتعشت آمال المعارضة بقدوم ربيع سوداني يطيح بالنظام الحالي؛ فالمواطن لم يعد يحتمل مزيدا من تدني مستوى معيشته، وقد بلغ السيل الزبى. وبعد قرارات الحكومة التي أعلنها وزير المالية هذا الشهر أصدرت العديد من الأحزاب المعارضة بيانات تدين تلك الإجراءات، بل دعا بعضها صراحة للثورة والعصيان المدني. وعلى إثر ذلك خرجت بعض التظاهرات المتفرقة في أنحاء عديدة من العاصمة السودانية الخرطوم.

“إن عرى العلاقة بين معاش الناس، وبين الفعل السياسي جدُّ وثيقة، وتزداد تعقيدا والتباسا حينما يكون الفاعل السياسي فاعلا اقتصاديا في نفس الوقت، أي أن تحتكر السلطة ورموزها السوق، فيتراجع الاقتصاد في ظل انعدام أجواء وشروط المنافسة الحرة”
وبعيدا عن تجاذبات الحاكمين والمعارضين تظل حقيقة أن السودان بلد شاسع وغني بالموارد الطبيعية شاخصة: (الأرض الزراعية الخصبة، الثروات الحيوانية، والمعدنية، والمائية)، بيد أن هذه الحقيقة تفضح الفشل السياسي الذي ظل ملازما للنخب السياسية منذ استقلال البلاد في 1956 وعدم القدرة على إدارة هذه الثروات، فالفشل الاقتصادي هو فشل سياسي بالضرورة للارتباط الوثيق بين السياسة والاقتصاد.

وإن كان الكثيرون يؤمنون بمقولة: إذا كانت العربة هي السياسة والحصان هو الاقتصاد، فإن الخرطوم لم تضع الحصان أمام العربة. فالاقتصاد أن تلبي الحكومة الاحتياجات المادية الضرورية للمجتمع لتحقيق ازدهاره، أما السياسة فهي القدرة على التكيف مع الواقع وفن التعامل مع الممكن، من حيث الاقتصاد الملائم الذي يحقق هذا التكيف فالسياسة والاقتصاد متلازمان يسيران خطوة بخطوة.

إن عرى العلاقة بين معاش الناس، وبين الفعل السياسي جدُّ وثيقة، وتزداد تعقيدا والتباسا حينما يكون الفاعل السياسي فاعلا اقتصاديا في نفس الوقت، أي أن تحتكر السلطة ورموزها السوق، فيتراجع الاقتصاد في ظل انعدام أجواء وشروط المنافسة الحرة، وفي ذات الوقت تنحدر السياسة لهوة عميقة لا قرار لها. وبدون نظام سياسي ديمقراطي لا يمكن للاقتصاد أن يتحرر كليا من منظومة القوانين المعيقة للتطور والتحديث على صعيد الدولة والمجتمع. الخرطوم اليوم أمام تحدي إقرار إصلاحات سياسية جذرية مُفضية إلى واقع اقتصادي يتجاوز الاحتكار السياسي، بل الفساد الحكومي المستشري الذي سارت به الركبان ولم يعد في حاجة إلى إثبات.

وما يؤخذ على الحكومة السودانية أن غاية طموحاتها ظلت كيفية إدارة الأزمة والتعامل مع الحلول الترقيعية والمسكنات الوقتية؛ بل إن قادتها مثل وزير المالية يفاخر اليوم بنجاحهم في وقف الانهيار الاقتصادي الوشيك.

رفع الدعم كارثة شعبية
لقد رفعت الخرطوم دعم السلع الاستهلاكية الرئيسية في وقت يعيش غالبية الشعب السوداني تحت خط الفقر. وفي أغسطس/آب الماضي قال اتحاد العمال السوداني (يشمل الاتحادات المهنية والعمالية في عموم السودان) إن الأجر الذي يتقاضاه العامل أو الموظف لا يكفي إلا بمقدار 10% من تكلفة المعيشة.

ويمثل رفع الدعم في هذه الظروف كارثة شعبية ماحقة، فما تشهده البلاد من تضخم مخيف، يسميه أهل الاقتصاد بالتضخم الحلزوني، حيث تؤدي زيادة الضغوط على الأسعار إلى ردود أفعال تُنتج المزيد من التضخم، وخطورة هذا النوع من التضخم أنه يغذي نفسه بنفسه. ويعني رفع الدعم أن الرواتب انخفضت فعاليتها بنسبة 131% ولو قامت الحكومة بزيادة الرواتب بنسبة 100% وهو ما لم يوضع في الحسبان، فإن ما حدث فعليا هو تخفيض القوة الشرائية للرواتب بنسبة 40% في المتوسط. وتعيش البلاد اليوم أجواء غلاء محموم حيث بلغ معدل التضخم 18% في شهر سبتمبر/أيلول 2016 بالمقارنة مع معدل 12.6% في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2015 حسب الجهاز المركزي للإحصاء.

“تواجه الخرطوم ضغطا من صندوق النقد الدولي لإدخال إصلاحات هيكلية في اقتصاده، حجر الزاوية فيها تخفيض العملة الوطنية وتحرير سعرها وترك أمر تحديد قيمة العملة لعوامل العرض والطلب، وهي وصفة مجربة لم تقد أي بلد طبقت فيه إلا لمزيد من المآسي التي تلحق بالفقراء ”
وتعرضت الحكومة لأزمة كادت تعصف بها عصفا في سبتمبر/أيلول 2013 عندما قررت رفعا جزئيا لدعم السلع الضرورية، فاشتعلت الخرطوم حينها ومدنا أخرى بمظاهرات ومواجهات عنيفة بين قوات الأمن ومتظاهرين أدت إلي مقتل أكثر من 200 شخص وفق منظمة العفو الدولية، مما أدى لتراجع سريع عن قرار رفع الدعم.

في ذات الوقت الذي تفشل فيه الدولة في ترشيد الإنفاق الحكومي، تفشل في توفير مدخلات الإنتاج بل تفرض الضرائب الباهظة والإتاوات على صغار المنتجين. ويعترف وزير المالية بأن الرسوم التي يجري تحصيلها، تصل إلى 36 ألف نوع، ويؤكد الوزير ذاته أن هناك 40 استمارة ورقية غير قانونية كانت مستخدمة في عمليات التحصيل قبل إقرار نظام التحصيل الإلكتروني. وكانت موازنة العام الحالي 2016 موازنة تضخمية اعتمدت بشكل كبير على زيادة الضرائب وليس زيادة الإنتاج.

وتواجه الخرطوم ضغطا من صندوق النقد الدولي لإدخال إصلاحات هيكلية في اقتصاده، حجر الزاوية فيها تخفيض العملة الوطنية وتحرير سعرها وترك أمر تحديد قيمة العملة لعوامل العرض والطلب، وهي وصفة مجربة لم تقد أي بلد طبقت فيه إلا لمزيد من المآسي التي تلحق بالفقراء وتقضي على الطبقة الوسطى وتزيد الفوارق الطبقية حدة.

ومع حجم هذه الكلفة العالية المتمثلة في التحرير الكامل لسعر الجنيه والمترتب عليه رفع الدعم، فإن نجاح وصفة البنك الدولي تتطلب توفير احتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي تكفي حاجة الصرافات والبنوك لتلبية حاجة الشركات الكبرى وصغار التجار والمسافرين ومصاريف الحكومة والتزاماتها تجاه الديون والقروض، بيد أن الحقيقة تقول إن الحكومة ليس لديها احتياط كاف من العملات، وعليه لن تنجح في السيطرة على سوق العملات، أي أن سعر الدولار على سبيل المثال بالسوق الموازي سيرتفع عن سعر البنك المركزي المعلن ويسميه بسعر الصرف التحفيزي.

فرص الانتفاضة والتغيير
لكن ما هي نتيجة هذا الضغط المفروض على الشعب بدعوى رفع المعاناة عنه باعتبار أن هذه الإجراءات الاقتصادية ضرورية وحتمية لعافية الاقتصاد السوداني وانتشاله من القاع؟ البعض ينظر إلى ما أقدمت عليه الحكومة باعتباره انتحارا سياسيا، فيما يقول الناشطون السياسيون إن اللحظة الثورية قد اكتمل بدرها للتغيير، وأن التوقيت السياسي قد نضج وأن المناخ موات لحدوث التغيير الثوري.

وبالفعل أصدرت أحزاب وكيانات سياسية وحركات ثورية ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات مُستقلة ونشطاء حقوقيين ما سموه بيان الانتفاضة، دعوا فيه جماهير الشعب للخروج إلى الشارع في انتفاضة سلمية تنتهي برحيل نظام البشير. ودعا البيان العسكريين الشرفاء من العاملين والمفصولين من الخدمة وكل الوطنيين من العاملين بالدولة للوقوف إلى جانب الانتفاضة. ومن أبرز الأحزاب الموقعة الحزب الاتحادي الديموقراطي المشارك في الحكومة وحزب حركة التغيير الآن التي يتزعمها أبرز القادة المنشقين عن الحزب الحاكم.
“لعل أكبر مشكلة تعاني منها الحكومة اليوم انعدام ثقة المواطن في الإجراءات التي تتخذها وعدم شفافية مسؤوليها. فمنذ العام 1990 تكرر الحكومة البرامج والسياسات ذاتها بمسميات مختلفة، بيد أن النتيجة هي فشل يتحمل المواطنون أعباءه”
لكن هناك من غير مؤيدي الحكومة من يشكك في قيام انتفاضة تصل حد الإطاحة بالنظام العتيق، باعتبار أن نسبة كبيرة من النخب السياسية والقطاعات الشعبية تفضل التغيير المتدرج وبقاء الدولة والسلطة المركزية قوية ومتماسكة، وذلك بعد تداعيات ما عرف بالربيع العربي في كل من اليمن وسوريا وليبيا.

بل إن الكثيرين لا يثقون في التنظيمات المعارضة التي لا يعتقدون أنها مهيأة لحكم البلاد وخلافة النظام الحالي. وقد كتب كاتب صحفي معارض يقول: هل نضحي ببعض دمائنا من أجل أن تقترب المعارضة من تحقيق حلمها بحكم البلاد بحسبانهم مناضلين. وقال إن المعارضة غاضبة من الشعب لأنها ترى أنه خذلها ولم يخرج للإطاحة بالنظام. واعتبر الكاتب المعارضة بديلا استنفد كل فرصه في التجريب ولم يُقدر تضحيات الشعب في السابق.

غياب المثل الأعلى
لعل أكبر مشكلة تعاني منها الحكومة اليوم انعدام ثقة المواطن في الإجراءات التي تتخذها وعدم شفافية مسؤوليها ونهيها عن أشياء لتأتي هي بمثلها. فمنذ العام 1990 وحتى اليوم تكرر الحكومة البرامج والسياسات المعلنة ذاتها بمسميات مختلفة، بيد أن النتيجة هي الفشل الذي يتحمل المواطنون أعباءه. فقد كان هناك البرنامج الثلاثي للإنقاذ الاقتصادي، ثم الإستراتيجية القومية الشاملة، ثم النفرة الزراعية، ثم النهضة الزراعية، فالخطة الخمسية الأولى، والثانية، وبعد انفصال جنوب البلاد البرنامج الإسعافي الثلاثي. كل ذلك لم يفلح في وقف تدهور الاوضاع ولم يفلح بالضرورة في كسب ثقة المواطن.

والحكومة أكبر مستهلك للدخل القومي الشحيح؛ فهناك أكثر من 70 وزيرا في الحكومة المركزية فضلا عن جيوش جرارة من الوزراء وشاغلي المناصب الدستورية في حكومات ولايات البلاد العديدة. فأكثر ما يضاعف الأعباء علي ميزانية الدولة الصرف على نظام الحكم الفيدرالي وشراء الولاءات السياسية لإخماد الحرب في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة. فاقتصاد البلاد يدار على أساس أنه اقتصاد حرب وللحرب فيه أسبقية في الصرف.

المصدر : الجزيرة

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.