بيوت قُسّمت.. ووجوه وُسمت.. وشوارع لا تنام
بائعات الشاي يعتقلن الشباب في “الجنبات” والسلطات تنظر..!
قاطنو الحي يشكون من سيادة العادات والتقاليد الأثيوبية مقابل انزواء الموروث السوداني
غياب تام لصحة البيئة والشوارع تحولت إلى برك راكدة بعدما غمرتها المياه
تحقيق وتصوير: تيسير الريح وناجي الكرشابي
ما يتناقله الشارع العام، حفّز همتنا، فطفقنا نحقق باحثين لمعرفة الدوافع التي تسببت في وصم حي الديوم وتحديداً الشرقية منها، بالكثير من الأقاويل التي تدور حول الحي، لا سيما وأنه قد كثرت وتواترت إلينا العديد من الشكاوى الفردية من ساكني الحي، وقد طفح بهم الكيل في مناحٍ مختلفة لم يحتملوها. وثمة أمر آخر لا يزال حاضراً في الذاكرة الجمعية، على الرغم من مضي نحو أربع سنوات على حدوثه، وهو واقعة مقتل المواطنة (عوضية عجبنا جبريل شرنوف) بنيران بعض منسوبي الشرطة بالديوم الشرقية (الخرطوم) في إطلاق نار غير مبرر على مدنيين عزل، في حي يبعد عن قصر الرئاسة في الخرطوم، بكيلومترات محدودة.
عنوان الجواب
سلكنا الطريق إلى حي (الديم) بالخرطوم، أو كما يطلقون عليها (الديوم الشرقية)، بعد أن اتخذنا الشارع الذي يقع بعد محطة حجازي مباشرة، لندلف إلى طرق أخذت تضيق كلما توغلنا إلى الداخل، ولم يخلُ من بعض أشجار النيم العتيقة التي تراصت عن يمين ويسار الشارع، وهي تحكي عن صمودها، وبدأت الشوارع والطرق الداخلية بين المنازل تحت أقدامنا تعلو وتهبط فـ(الحفر)، تنتشر فيها بشكل كبير، بعد أن تفاوتت في الشكل والعمق والحجم، وقد غطى معظمها الماء الراكد، وما إن نتهيأ للمسير في الشارع حتى ينقطع وينعطف من ناحيتي الشمال، أو الجنوب الجغرافي، وقد أخذت معظم أبواب المنازل هنا العهد مع بعضها البعض في أن تكون مفتوحة ومشرعة على مصراعيها، وقد تعددت أشكالها، والتي بدا بعض منها وكأنها (نفاجات) بالكاد يمر من خلالها شخص طويل القامة، الأمر الذي يفتح بعقلك العديد من التساؤلات، خاصة وأن الأبواب لا تأخذ مستوى واحد في الجدار الواحد الذي تتعلق به، فيظهر مستوى كل باب مختلفاً عن الآخر الذي يقاسمه نفس الجدار، وسرعان ما تجد أجوبة مقنعة لتساؤلاتك، وهي التقسيم الذي يطرأ على المنزل الواحد إلى عدة منازل داخلية، بدءاً من وجود أكثر من ثلاثة أبواب في منزل واحد، وقد أشار في ذات السياق المواطن (محمد) الذي يقيم بحي الديم لأكثر من 27 عاماً، فقد أوضح لنا أن المنزل الواحد هنا يسكن به أناس كثيرون، بعد أن يتم تقسيمه بالداخل بحسب الغرف التي لا تقل عن أربع في الغالب، ليتم استئجارها بحساب كل خمسة في غرفة، ويدفعون إيجار الغرفة الواحدة 1500 جنيه، وأضاف أن صاحب المنزل يقوم بزيادة عدد الغرف بإنشاء ما يشبه البرندات، أو الغرف الحديدية، بالاستعانة بالزنك، حتى بالكاد يكون هناك حوش بالمنزل الواحد، وأضاف (محمد): في الديم إذا كان الصف الواحد لعدد من المنازل يحتوي على 60 منزلاً، فإنه يكون من بينها 57 يسكنه الحبش في جماعات، بينما البيوت الثلاثة المتبقية من جملة العدد يسكنها السودانيون.
الكيف يسيطر
ونحن نمشي في طريق أشبه بالممر، بدا على يسارنا ميدان كبير، وبعد سؤالنا عن اسمه، عرفنا أنه يُعرف بميدان (رابطة المايقوما)، ولعل ما يميزه غير الاتساع المترامي في كل الاتجاهات الجغرافية التي تحيط بالمكان، أشجار نيم كبيرة، متراصة في ترتيب اجتهد فيه من زرعها وهي في صف بين اتجاهي الشمال والجنوب، لاحظنا أنه، ومن أول شجرة جنوباً حتى آخر شجرة شمالاً، تجلس تحت كل واحدة، فتاة حبشية (ست شاي)، وقد أحاط بها شباب في أعمار تبدو وكأنها واحدة، إن لم تكن تفصلهم سنين بسيطة عن بعضهم، وقد وحّدت بينهم ملامح ما يرتدونه من ملابس تبدو كملابس المنزل العادية، وقد انتعلوا (سفنجات)، الأمر الذي برهن لنا أنهم يقطنون في المنازل القريبة لمواقع ستات الشاي المتفرقة تحت أشجار النيم، و(الركشات) كانت تقاسم الشباب المكان في وقوفها بشكل أشبه بالموقف العام، حتى ظننا أن هناك (كمسنجي) يرصد حركتها، كشأن المركبات العامة، وقد تحدث لنا المواطن بالحي (حسن)، بضجر شديد، أن هذا الميدان وبعد المغرب وحتى وقت متأخر من الليل، يتغير شكله الحالي، إلى باحة يكسوها كل تفاصيل المهرجان الضخم، وأضاف أن كل هذه المساحة الكبيرة تمتلئ عن بكرة أبيها برواد من الجنسين في منظر لا يخلو من الاختلاط الغريب ، وقد أخذت (ستات الشاي) مواقعهن في الميدان بتفرِّق غاية في الدقة، مشيراً إلى أن كل اللائي يمتهنّ بيع الشاي فيه، (حبشيات)، وأضاف ناقماً: إن انتشار الحبش في الديم خاصة ببيع الشاي أو القهوة، هو أكبر مؤشر أدى إلى التصاعد الطردي لأسعار السكر، مبيناً أنها التجارة الأعلى من حيث شيوعها، مضيفاً أنهن (أي ستات الشاي الحبشيات)، يقمن بشراء 5 إلى 6 أنبوبات غاز ممتلئة ويصدرن عدداً منها إلى بلادهن، ويحتفظن بالعدد الآخر لمزاولة مهنتهنّ المفضّلة، أسهمن في رفع سعر الأنبوبة عما كانت عليه من سعر في السابق، وأبان أن هذا مؤشر آخر، وأعرب في قوله لنا، إنهن يقمن ببيع (الجبنة الواحدة) بـ(40) جنيهاً، وضرب لنا أمثلة أن العديد من زبائنهن يأتون متوافدين على مدار الساعة، الأمر الذي يكفل لمهنتهنّ النجاح الساحق، وقد أضررن غاية الضرر بالمواطن السوداني، بتصاعد الأسعار لسلعتي السكر والغاز، هذا بحسبما أفادنا (حسن) الذي جأر بالشكوى المُرّة وهو أحد مواطني الديم، وأضاف أن الضرر بلغ مبلغاً سبق أن نوهّت له المحلية بأن دخول هؤلاء الأجانب أسهم في وجود الظواهر السالبة، وأقرت أن المصلحة تكمن في إزالة المطاعم العشوائية في الديوم، و(الجنبات) التي تنتشر وتباشر خدماتها من كل بيت.
غياب الرقيب
أفاد المواطن (كمال) أن الخمر لها بيوت رفعت عنها الرقابة، مبيناً أن الخمر تنقل بشكل وطرق غريبة، وأكد أنهم كمواطنين كثيراً ما قامواً بالتبليغ للجهات المختصة، وأوضح عن قلقهم كسكان بالحي عن مآلات الحال التي تنبئ بالسوء، لأن الوضع يتدهور يوماً بعد يوم، وأشار إلى أنه يجاور أجانب يتاجرون في الخمور، وهو يبلغه الضرر الفادح من هذه التجارة الفاسدة، وما يؤول إليها من تفاصيل، وأضاف أن منزل الخمر به متسع للدعارة شبه المقننة، و(الجنبات) و(الشاشبندي) التي انتشرت في الحي انتشار النار في الهشيم، وأشار إلى أنه متضجر حيال ما يحدث في الحي وهو أحد المتضررين، مؤكداً أنهم ضاقت بهم الحيل ولا يعرفون إلى أين يرفعون شكواهم التي طالت بها قائمة القلق، وأشار إلى أن هناك عدداً من الأطفال الذين يتم استخدامهم كعمالة في توزيع الخمور، (دليفري)، الأمر الذي يمدد استفحال الخطر بالحي، لأن الوضع كل يوم يمضي من سيئ إلى أسوأ، وأوضح أن المنطقة يغلب في توزيع مساكنها، من بين كل 15 منزلا، 6 منازل تتاجر في الخمر، وتكتسحها (الجنبات)، وزاد في القول، إن عدد بيوت الخمر أكثر من البقالات الموجودة بالحي.
“جنبة” داخل الحي
ونحن نطوف بشوارع الحي متجولين شاهدنا واقعاً غريباً وقد انتشرت (الجنبات) انتشاراً غريباً، فعن يمينك ويسارك أبواب مفتوحة وقد تقدم الباب (كانون) أو (مبخر) من الفخار بحجم كبير جداً، كعلامة على أن هنا (جنبة)، وأمارة أخرى لوجود الجبنة هنا.
دخلنا إحداهن عبر ممر يقود إلى داخل المنزل، وقد تم تظليله بالزنك، وتقسيمه بالداخل إلى اثنين أيضاً بالزنك، وقد جلست فتاة (حبشية) على “بنبر” وكانت رفيقتها في مهمة إجلاسنا وتوزيع قوارير مياه الصحة، والتي يبعنها بـ(5) جنيهات!!، وطلبنا القهوة، فكان سعرها 40 جنيهاً، وتجاذبنا أطراف الحديث مع (الأجنبية) التي تقوم بأمر إسداء الخدمة لنا، منذ متى أنتِ في السودان؟ فردت بسرعة مقرونة بلكنتها (لينا كتير هنا، يمكن 5 سنين كده)، فسألناها عن اسمها، أنا اسمي (بيبي)، وزادت في الرد (هنا الشغل سمح)، سألناها عن قيمة الإيجار، فقالت: 1500 جنيه لهذا الزقاق!! تعجبنا لصغر المساحة الضيقة، وأكدت لنا أن العمل بالقهوة هنا يغطي لهن هي ورفيقتها التي تقوم بعمل الجبنة، ويفيض، وشرحن لنا أنهن يؤجرن منزلاً للسكن هنّ ومعهنّ أُخريات من بنات بلادهن.
البيئة خرجت ولم تعد
منظر (الأكياس) المكومة أمام أبواب المنازل، مشهد يحكي عن الفقد الكبير للوعي البيئي بالحي، فحجم الأكياس نفسها وكثرة أعدادها أمام الباب الواحد، وهي أيضاً قراءة واضحة لمدى استخدام الأجانب الذين ينتشرون على المنازل كمستأجرين ومستهلكين لأدواتهم التجارية ومعيناتهم في مهنهم المختارة من قبلهم، فعلى الأكياس تظهر القوارير البلاستيكية كأكثر ما لفت انتباهنا، فضلاً عن(الجبنات الفخارية) التي تم إلقاؤها بعد أن تكسرت، ولم يراع ملقيها وضعها داخل كيس القمامة المعبأ بالأوساخ، وقد أفادنا في ذات السياق المواطن بالحي (صالح)، أنهم يعانون أشد المعاناة من هؤلاء الأجانب، ومما يقومون به من تصرفات، خاصة وأنهم لا يراعون المستوى البيئي للحي نتيجة عدم الاهتمام، وأشار إلى أن الأجانب هؤلاء يقومون باستهلاك المياه بشكل لا يصدق، والدليل الحال الذي على الشوارع، من حفر تحتفظ بنسب عالية من المياه التي أصبحت آسنة، وقد اكتسب معظمها اللون الأخضر، وأضاف أن معظم المنازل التي يسكنها الأجانب تجد أن الحنفيات تكون مفتوحة طوال اليوم دون أن يغلقوها نهائياً، لتسهم مثل هذه التصرفات في إهدار الموارد الوطنية، التي نحن أولى بها من الأجانب.
مهن مبتكرة
استعنا بأحد المواطنين اسمه (مرتضى محجوب) لتعريفنا على بعض ملامح التكوين المجتمعي بالحي، خاصة أننا كنا وقتها أمام منزل تم تسويره بالشجر الكثيف، وقد تخلل ذلك الشجر المسور مبرّد مياه (كولر). هنا يقول مرتضى الذي يقطن بالحي لأكثر من 25 عاماً، أن أحد الصبية من الأجانب يتم تأجيره من قبل (ستات الشاي) الأجنبيات ليجلب لهنّ الماء (بالجرادل)، ويقمن بعد ذلك بتبريدها لزبائنهن بالثلج، وأكد أن ذلك الصبي يداوم علي هذه المهنة التي يجني منها أرباحاً بشكل يومي، في كل مساء، وأوضح (مرتضى)، أن هذه زاوية مهنية غريبة، دخيلة، ويعزو في حديثه لنا أنها جاءت ضمن الكثير الذي ابتدعه الأجانب بالحي، وأصبح ظاهرة، وأبان بأسف في قوله، إنه أكثر ما يخشاه أن يزاول الأجانب ما يبتدعونه ويفرضونه على الحي فيصبح عادة لسكان الحي الأصليين.