معدنو الذهب .. الثراء والسراب ..!

نهر النيل ملامح حزينة و سماء ملبدة من مخلفات الأسمنت، أرض أشبه بخلية نحل مهجورة بسبب التنقيب العشوائي عن الذهب.
من خلال الرحلة التي قمت بها لولاية نهر النيل شاهدت العديد من الانهيارات في البنى التحتية للولاية بسبب التنقيب غير المقنن الذي تأثرت به مساحات كبيرة من أراضي الولاية مما تسبب في حدوث انفلات أخلاقي بمسمياته المختلفة التي طالت بعض المناطق.
تحقيق :عبد الله ود الشريف
بدأت جولتي بسوق الطواحين الذي يبعد بضع أمتار من سوق العبيدية وعند اقترابي منه انتابني شعور بالرهبة وتصبب العرق غزيراً وللوهلة الأولى أحسست إنني في غابة ليس بها قانون ينظم حركة الناس ، كل يفعل مايشاء دون أن يجد من يسأله أو يحاسبه.
السوق حركة لا تهدأ فالمقاهي والنوادي على مد البصر تملأ كل جنبات السوق و تعمل لأربع وعشرين ساعة دون توقف. وهذا ما سنتعرض له من خلال هذا التحقيق إلى ذلك ومن خلال متابعتي لمايجري في السوق هالني ما شاهدته من مناظر تحيط به ولمست مدى التردي المريع الذي أصاب البيئة حيث ينتشر الذباب بكثافة عالية في كل مكان حتى في الأطعمة حيث أن السوق يعد مكباً للنفايات والقاذورات إضافة للفضلات الآدمية التي تنتشر بكل الطرقات المؤيدة له.
أضف إلى ذلك المخدرات وانتشارها في كل ركن من أركان السوق، هذا ما يخص الشكل العام للسوق أما كيف يدار من قبل المحليات فهي لا تهتم كثيراً بما يجري فيه كل ما تقوم به هو فرض الجبايات والرسوم التي تفوق المليارات من الجنيهات.

حركة السوق
ينقسم السوق إلى اقسام منها أصحاب الطواحين الحديثة والتقليدية وتشمل الأشخاص الذين يقومون بغسل الذهب ومواقع صياغة الذهب بجانب طحن الحجارة، إضافة لتجار مادة الزئبق. وفي ذات السياق توجد شركات متعددة الأوجه تعمل في مجال التعدين بطرق حديثة ولكن للأسف تم منعي من الوصول إليها.

مياه الشرب المستخدمة لا تصلح حتى للحيوانات
فيما يتعلق بمياه الشرب حدث ولا حرج المياه الموجودة بتلك المناطق غير صالحة للاستخدام الآدمي حيث تجلب من الترع القريبة من المنطقة وتحفظ بداخل خزانات بلاستيكية (كما يظهر بالصور) تحاصرها الطحالب ووجيوش من الذباب الذي ينتشر في المنطقة بطريقة مثيرة مما يعرضها للتلوث وبالتالي تصبح غير صالحة لشرب ،

مادة الزئبق
مادة الزئبق تستخدم في التعدين الأهلي بولاية نهر النيل من دون دراية كافية لدى مستخدميها والأضرار التي تنجم بسببها وتصيب مستخدميها ببعض الأمراض القاتله إلى ذلك تؤثر على البئية والمياه الجوفية ، واللافت إنها تباع في الأسوق دون ضابط أو رابط . على ذات السياق أكد أحد المعدنين أن مادة الزيبق تستخدم في استخلاص الذهب بطريقة عشوائية مطالباً أن تكون هناك حملات توعية بالطرق السلمية الناجعة التي يفترض أن تستخدم به هذه المادة حفاظاً على الأرواح والبيئة
.
خبراء لا يلتفت لصرختهم أحد
لم يلتفت أحد إلى صرخة بعض الخبراء عام 2013 عندما أكدوا أنّ معظم المعدّنين هم صغار السنّ، وأنهم يتعاملون مع الزئبق وكأنه ملح الطعام. وعلى الرغم من حملات التوعية التي أشرف هؤلاء عليها، لم يجدوا أذناً صاغية، فالحكومة تريد الذهب اليوم، وبأي طريقة، دونما التفات لما قد يحدث في الغد من دمار يحدث في المياه الجوفية أو الإنسان.
وها هي الصرخة الأكثر دوياً تصدر من البرلمان وتناولتها أجهزة الإعلام بكثافة خلال الأيام السابقة . إلى استخدام مادة الزيبق ومادة السيانيد شديدة السمية في عمليات تنقية الذهب في مناطق التعدين الأهلي والدمار الذي يحدث في
البيئة على مستوى النبات والحيوان في محيط استخراج الذهب كثيرة، ولعل أشهرها ما حدث في موريتانيا عام2009، عندما استخدمت شركة تازياست التي تنقب على بعد 250 كم شرق العاصمة نواكشوط أكثر من 14 طناً من مادة السيانيد. ومادة الزيبق كما يعتبر استخدام السيانيد والزيبق كارثة على البيئة وبحسب الخبراء قالوا الكمية وطريقة التخلص استخدام تلك المواد في التنقيب تنذر بكارثة في تلوث البيئة والمياه الجوفية
يستخدم السيانيد والزيبق في تنظيف وتلميع المعادن مثل الذهب والفضة، وفي صناعة المطاط الاصطناعي والصناعات الكيميائية المختلفة، وهو من أسرع السموم قتلاً وأشدّها فتكاً. وقد اشتهر بين العامة عن طريق أفلام الجاسوسية والاستخبارات التي تمجد هذا السم. إذ يسبّب السيانيد قصوراً هائلاً في إمداد الخلايا بالأوكسجين عن طريق الارتباط بجزيئات الحديد المؤيّن. وهناك أكثر من أربعين نظاماً إنزيمياً تتوقّف أنشطتها عند تسمّم جسم الإنسان بالسيانيد. فقد أشارت الدراسات الحديثة إلى أنّ استنشاق 200 إلى 500 جزء من هيدروجين السيانيد موجودة في مليون جزيء من الهواء لمدة 30 دقيقة، يؤدي إلى موت الإنسان مادة الزيبق هي مادة سامة ولها أضرار على صحة الإنسان منها البرود الجنسي سرطان الجلد والإسهالات.

بيئة خصبة للإجرام
شكا مواطنو منطقة العبيدية من السرقات الليلية المتواصلة وأشاروا إلى إنهم تفاجأوا بوجود اللصوص الذين تقبض عليهم الشرطة نتيجة لبلاغات المواطنين يتجولون في الأسواق بحرية تامة.
أرجع المواطنون هذه الجرائم إلى الغزو الكبير من قبل المعدنين الوافدين من خارج الولاية بعد أن طال انتظارهم ولم يحصلوا على الغرض الذي جاءوا من أجله وهو (كنز الذهب).
فأصبحت تلك المناطق في أبو حمد والعبيدية تمثل بيئة خصبة للإجرام والممارسات التي تتنافى وطبيعة أخلاق المجتمع السوداني المحافظ منذ زمن بعيد.

البحث عن الذهب.. الطريق إلى الموت
المناطق التي اشتهرت بالتعدين العشوائي مثل مناجم (أبو قمر، سر بايو، الياسمين، النجيم ،الخدر، نورايه ،و أبو خراطيش)تجد المعدنين في حالة ينفطر لها الضمير الإنساني الحي، في بيئة وصفها بالسيئة هو تجميل لواقع الحال. يعرض المعدن نفسه للموت بحثاً عن الذهب الذي بعقول الناس قد ذهب. يبحثون داخل أنفاق وحفر تصل إلى مئات الأمتار وهي معرضة للانهيار تحت أية لحظة وقد حدثت وفيات كثيرة بسبب هذه الانهيارات. وإذا نجا المعدن من الانهيار فإنه لن ينجو من فقد الاوكسجين داخل هذه الآبار الممتدة إلى الأعماق البعيدة. كثير من المعدنين تركوا أيتاماً وأرامل. وكثير من الشباب تركوا أمهاتهم ثكالى. وحتى الذين عادوا بالذهب تغير حالهم ولم يعودوا بطباعهم المعتادة. من خلال عين الكاميرا التي ظلت رفيقة دربي في الرحلة يتبين للقاريء مدى معاناة الباحثين عن الذهب في حقول الموت.

السيانيد موت آخر
مادة السيانيد هي مادة سامة وضارة وتستخدم لتنقية الذهب مما يسمى بالكرتة ( وهي بواقي وفضلات الحجار التي تم استخراجها من باطن الأرض وبها بعض حبيبات الذهب ) حدثني أحد بائعي هذه المواد (فضل عدم ذكر اسمه) إن مادة السيانيد مادة مشعة، ومعروفة من الناحية العلمية إنها مادة ضارة. ولكن هنالك أيادي قوية تدخل هذه المواد لبعض الشركات العاملة في مجال التنقيب ولا يوجد تفتيش من وزراة المعادن والصحة لهذه الشركات. وأضاف : “لم نرَ يوماً بأن جهات مسئولة أتت لرؤية كيفية عمل هذه الشركات (شغالين سمبلة ساكت)” أما الزئبق فيقول محدثي:هو معدن يستخدم في استخراج الذهب من الحجارة وتنقيته وهو مادة قاتلة وسامة وتسبب السرطان يستخدمها المعدنون بطريقة غير صحيحة وبدون دراية علمية . ويردف: أنا تاجر لمادة الزئبق. وهي تباع بنظام الكيلو (1500) جنيه ، تأتي في أسطوانات كما يظهر في الصورة، والاسطوانه بها (34 ونصف) كيلو ، تقدر قيمتها بحوالى (50) ألف جنيه.

المحلية شريك في الجريمة
كشف مصدر رفيع بالمحلية .. بمنطقة العبيديه بأن هنالك تجاوزات في بعض التصاديق التي تمنح لمعامل وتجار الزئبق في سوق الطواحين ، ثم ذهب برفقتي بطريقة سرية إلى أحد هذه المعامل التي وجدت بها حركة دؤوبة من المعدنين بغية شراء هذه المادة القاتلة. حكى لي في الطريق إن مثل هذه التصاديق هي كارثة حقيقية وقد تسبب أضراراً كبيرة في صحة الإنسان، وخاصة وأن العمال لا يعرفون كيفية استخدام هذه المواد، بل يستخدمونها بصورة عشوائية، بالأيادي مباشرة وهم يأكلون بهذه الأيادي دون تعقيم لها، حيث تندر مياه الشرب هنالك ناهيك عن مياه النظافة . عاد مصدري بعد أن دلني على مكان بيع الزئبق، ووصف لي أحد العمال الذي قال عنه إنه سيفيدني في التحقيق.
دخلت في دردشة مع أحد العمال فحكي لي قائلاً: إنه يخاف من أن يتحدث عما يحدث داخل مناطق بيع الزئبق. جلسنا معاً مع بائع الشاي أحد الشواذ وتناولنا القهوة ثم سرد هذه القصة وكيف يتم دخول الزئبق قال : تدخل ليلاً ويتم التعامل مع بعض الأشخاص المعروفين، وحكى لي ما يحدث بداخل المعامل حيث يتم جمع الزيبق الذي تم استخدامه مسبقاً، ثم يصب في منهول، ويتم حرقه بنار تصل درجة حرارتها ألف درجة مئوية. بعدها يتم استخراج الزيبق لوحده وتتم تعبئته مرة أخرى ثم يوضع بين ألواح الثلج.

إستغلال للعمال
يحكي أحمد الأمين معدن قائلاً: إنه جاء من منطقة أم درمان إلى منطقة أبوقمر منذ شهور بحثاً عن الذهب. اشتغلت عاملاً مع أحد المقتدرين (بنظام النسبة) و صاحب العمل يقوم بتوفير الوجبة و وسيلة الترحيل. وأضاف أحمد بأنهم يبحثون عن الذهب وهم قرابة الثمانية عامل، وعندما يتحصلون عليه يتقاسمونه بينهم. حيث يأخذ المؤجر ثلثي الذهب المستخرج، ويذهب الثلث الآخر لبقية العمال أجمعين. و قال: من المشاكل التي تواجهنا الأمراض خاصة الالتهابات وهدم الآبار والوفيات لأننا نحفر آباراً بالأيادي فقط، وقد تكون العروق ممتدة من الذهب داخل الأرض. و الحظ له دور كبير في الإنتاج والذهب مثل لعبة الكرة.
أما الطيب الزين فيقول إنه أتى من غرب كردفان لتحسين وضعه- كنت طالباً في مرحلة الثانوية تركت المدرسة بعد أن كثر الحديث عن فلان وجد كيلو ذهب بقيمة مليارية، جئت إلى منطقة سر بايو ثم أبو قمر فعملت في كل الاتجاهات من أجل الحصول على الذهب لمدة ثلاثة أعوام ولكن لم أحصل على شيء! كنت أعاني في العمل ولم أرَ أسرتي وأهلي حتى في الاعياد لعجزي عن الحصول على قيمة التذكرة إضافة إلى الحرب النفسية إذا رجعت خالي الوفاض. والآن أتحسر على ترك الدراسة ومفارقة الأسرة وضياع زمني في اللا شيء. وهو الآن يعمل في ظروف صعبة لفترات طويلة داخل الأرض لا يخرج منها إلا لتناول الطعام، ويضيف: نجوت من موت محقق بأعجوبة من قبل، لكنني أصر على البقاء حتى يفتح الله لي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.