الذهب السوداني: من مورد وطني إلى وقود للحرب ونهب ممنهج

سودافاكس – في تقرير نادر نشرته صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية بتاريخ 20 يونيو 2025، كُشف النقاب عن الكيفية التي تحوّل بها الذهب السوداني، الذي تجاوز إنتاجه 80 طناً في عام 2024 بقيمة تقدّر بأكثر من 6 مليارات دولار، إلى مصدر تمويل رئيسي لأطراف الحرب الدائرة في البلاد، بدلًا من استخدامه لإنقاذ الاقتصاد أو توفير الغذاء والدواء للمدنيين.

ويشير التقرير إلى أن أكثر من نصف هذا الذهب تم تهريبه إلى دول مثل الإمارات وروسيا، عبر شبكات دولية معقدة تضم شركات أمنية ومليشيات وتجار كيميائيات، ما جعله جزءاً من منظومة عالمية لغسيل الأموال وتجارة الموت.

لكن ما كشفه التقرير لا يُعد حالة استثنائية، بل يمثل ذروة مسار طويل من الاستغلال، بدأ حينما قررت الأنظمة الحاكمة تسليح الجيش ضد الشعب، موجهة أكثر من 80% من ميزانية الدولة إلى الأجهزة العسكرية والأمنية، بينما تُركت قطاعات التعليم والصحة والزراعة للانهيار.

عندما اندلعت الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، لم تكن أيٌ من القوتين تفتقر للتمويل. فقد تم وضع مناجم الذهب الكبرى تحت سيطرة شركات خاصة تابعة لكلا الطرفين، على غرار شركة “الجنيد” التابعة لقوات الدعم السريع، والشركات القابضة التابعة للجيش، ما حول قطاع الذهب إلى ساحة حرب اقتصادية خالصة.

ويؤكد التقرير أن الذهب يُستخرج بأساليب بدائية في أكثر من 90% من الحالات، لكنه يُهرب ويُباع بطرق احترافية لا يعرفها إلا من يملك النفوذ والسلاح. وتلعب الإمارات دوراً محورياً كمركز لغسيل الذهب وتمويل المليشيات، ما يجعلها شريكاً رئيسياً في تدمير السودان.

هذا الواقع خلق منظومة اقتصادية موازية، لا تخضع للضرائب ولا للرقابة المدنية، تديرها غرف أمنية وتستورد أدواتها من الخارج. كل جرام ذهب يُهرّب اليوم يعني مزيدًا من الدمار، من تمويل للطائرات المسيّرة إلى صفقات جديدة للمليشيات، بينما يعيش أكثر من 18 مليون سوداني تحت تهديد المجاعة.

فالحديث عن التنمية في ظل هذا النظام لا معنى له، إذ إن الثروة ذاتها تُستخدم كأداة لتكريس القمع والانهيار. والذهب لم يكن يومًا ثروة وطنية، بل غنيمة تتقاسمها المليشيات والجنرالات في حرب لا تنتهي، هدفها الحقيقي السيطرة على بنية النهب لا على مؤسسات الدولة.

وإذا كانت الدول الغربية تفرض عقوبات على “أطراف هامشية”، فهي لا تمس البنية الحقيقية للفساد، بل تعيد توزيع الأرباح والخسائر ضمن نظام عالمي لا تهمه حياة السودانيين ما دامت الأرباح تتدفق.

في السودان، الذهب لا يُستخرج من المناجم فحسب، بل من بين جثث النازحين، ومن خيام اللاجئين، ومن تلال السيانيد التي تفتك بالبيئة والإنسان. وهو لا يمر عبر البورصات، بل عبر شبكات الظل، والأسلحة، والاتفاقات الخفية.

إن الصراع في السودان لم يعد سياسيًا بالمعنى التقليدي، بل تحوّل إلى حرب على الذهب. من يملك مناجم تلودي وجبل عامر والنيل الأزرق، يملك القرار، والسلاح، والمستقبل. وأي حديث عن سلام دون تفكيك هذه المنظومة ليس سوى خداع سياسي.

السودان لن يُستعاد بالتقارير أو التسويات، بل حين تنتفض الجماهير وتغلق المناجم، وتُعلن أن الذهب ليس ملكًا للمليشيات، بل للشعب.

سودافاكس

Exit mobile version