السودان يتحوّل إلى نموذج عالمي لتأثير خفض المساعدات الأمريكية

حذّر عاملون في المجال الإنساني من أن خفض التمويل الأمريكي لبرامج المساعدات يشكّل فراغًا لا يمكن تعويضه، خاصة في السودان الذي يعاني من أسوأ أزمة إنسانية في العالم حاليًا، وسط صراع أهلي مستمر منذ عامين تسبب في نزوح ملايين الأشخاص.

فقد أدى الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى نزوح أكثر من 11 مليون شخص داخليًا، إضافة إلى 4 ملايين لاجئ في دول الجوار. ويُعد السودان الدولة الوحيدة التي تمّ فيها تأكيد وجود مجاعات متعددة في الوقت نفسه، إذ تشير الأمم المتحدة إلى أن 30 مليون سوداني – أي نحو 60% من السكان – يحتاجون إلى مساعدات عاجلة.

تفكيك “يوسايد” وإعادة هيكلة المساعدات

في يوليو الجاري، أغلقت الولايات المتحدة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، ودمجتها في وزارة الخارجية في إطار ما وصفه وزير الخارجية ماركو روبيو بـ”نهاية عصر من البيروقراطية الحكومية”. وتستعدّ واشنطن أيضًا لسحب أكثر من 8 مليارات دولار من تمويل المساعدات الخارجية المتبقي لهذا العام.

وقال روبيو إن المساعدات الأمريكية “ستصبح محددة الهدف ومؤقتة”، مؤكداً أن الأولوية ستكون للدول القادرة على الاعتماد على نفسها.

وقد أدى تقليص حجم الوكالة إلى خفض عدد موظفيها بنسبة 83%، وإصدار أوامر بوقف العمل للجهات المستفيدة من التمويل في دول عديدة، من بينها السودان. ورغم تأكيد وزارة الخارجية الأمريكية على استمرار المساعدات الطارئة، فإن الواقع الميداني يُظهر انهيارًا متسارعًا في برامج الإغاثة.

التأثير المباشر في السودان

بحسب “ذي لانست”، المجلة الطبية البريطانية، فإن غياب تمويل USAID قد يؤدي إلى وفاة 14 مليون شخص خلال السنوات الخمس القادمة، ثلثهم من الأطفال دون سن الخامسة. بينما قلّل مسؤول أمريكي من أهمية هذه التقديرات، مشيرًا إلى أن “التركيز الآن هو على فاعلية أجندة المساعدات الجديدة”.

لكن على الأرض، تؤكد المنظمات الإغاثية مثل “أطباء بلا حدود” (MSF) أن الأوضاع الإنسانية كارثية. فقد أشار منسق الطوارئ لدى المنظمة، بيترو كورتاز، إلى أن الأطفال اللاجئين من السودان يعانون من سوء تغذية بنسبة 29%، وأن غياب التمويل الأمريكي “جاء مع فاتورة من الأرواح”.

انهيار في النظام الصحي وسلاسل الإمداد

أشارت أندريا تريسي، وهي مسؤولة سابقة في USAID بالسودان، إلى أن إغلاق الوكالة أدى إلى إيقاف عشرات البرامج الحيوية، موضحة أن بعض المنظمات فقدت تمويلها بشكل فوري، مما أدى إلى إغلاق أكثر من 1500 مطبخ إغاثي في البلاد.

وقالت إن الانهيار طال منظومة الرعاية الصحية بالكامل، مشبهة الأمر بـ”سلسلة مترابطة من المكونات”، وأن انهيار مكون واحد يؤدي إلى توقف الكل.

وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن 70-80% من المنشآت الصحية في السودان خارجة عن الخدمة، وهو ما يجعل ملايين السكان بلا رعاية طبية.

ضغط على المنظمات المحلية

في ظل غياب التمويل الدولي، ظهرت منظمات قاعدية محلية شكلت “شريان حياة” للمواطنين السودانيين، مثل تحالف “المساعدة المتبادلة”، الذي كان يعتمد بنسبة 80% على تمويل USAID قبل توقفه.

وفي نقطة الحدود “تينه” بين السودان وتشاد، أوضح منسق أطباء بلا حدود أن مخيمات اللاجئين لا تتوفر على الحد الأدنى من المرافق، فبينما يفترض وجود مرحاض لكل 50 شخصًا، هناك فقط 9 مراحيض لنحو 20 ألف لاجئ.

مناشدات لإعادة الدعم

أكدت تريسي أنها تلقت نداءات من أطباء في MSF تطالب بعودة التمويل الأمريكي، لأنهم “لا يستطيعون تحمّل العبء وحدهم”، مضيفة: “نحن على حافة الانهيار”.

في المقابل، قالت وزارة الخارجية الأمريكية إنها تواصل تقديم مساعدات إنسانية، مشيرة إلى تبرع بـ56 مليون دولار لبرنامج الغذاء العالمي، وشحنة من القمح تكفي لإطعام 3.2 مليون شخص لمدة شهر.

كما ذكرت أن الدعم مستمر للاجئين السودانيين في 7 دول مجاورة، على الرغم من تقليص المخصصات بنسبة 50% في مشروع ميزانية عام 2026.

السودان كنموذج للتحذير

وصف عاملون دوليون الوضع في السودان بأنه “دراسة حالة” عالمية تظهر التأثير الخطير لخفض المساعدات، خاصة أن النظام الإنساني العالمي بات يعتمد على تبرعات محدودة وسط زيادة الكوارث في مناطق متعددة.

وقال كورتاز: “العبء الأكبر بات يقع على كاهل المجتمعات المضيفة والمنظمات الصغيرة التي تقوم بكل ما في وسعها، بينما النظام الإنساني الدولي يخذل السودان”.

Exit mobile version